«طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان

بعد خضوعهن لورشات كتابة إبداعية

«طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان
TT

«طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان

«طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان

الكتابة هي فعل نضال أحياناً، ووسيلة فضلى لمصارحة الذات وفكفكة مفاصل آلام الروح، في أحيان أخرى. والكتابة هي هذا كله وأكثر، في كتاب «طواحين الهوى»، الذي يصدر عن «دار نلسون» في بيروت، بعد أيام، ويضم مجموعة من القصص كُتبت بقلم 15 امرأة، من أهالي المفقودين والمخفيّين قسراً، خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، ولا يزال مصيرهم مجهولاً. هؤلاء النسوة تظاهرن واحتججن حتى باتت حكاياتهن في كل بيت لبناني، وما زلن يناضلن، من أجل استعادة أحبابهن دون جدوى، وقد لجأ عدد منهن إلى الكتابة وسرد قصصهن باعتبار ذلك سلاحاً أخيراً بعد أن فشلت كل السبل.

يأتي إطلاق هذا الكتاب بعد شهر ونصف الشهر تقريباً من الذكرى الثامنة والأربعين للحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت في 13 أبريل 1975، وحصدت 100 ألف قتيل، وبقي ما يقارب 17 ألف شخص مفقود، ولم يُعرَف إلى اليوم مصيرهم.

و«طواحين الهوى» يصدر في وقت واحد باللغة العربية، كما باللغتين الفرنسية والإنجليزية. النسخة العربية تضم حوالي 160 صفحة، فيه عصارة آلام تجربة 15 امرأة، ذاقت كل منهن مرارة اختفاء زوج أو أخ أو أب، وهي عيّنة من بين عشرات آلاف القصص التي لم تُدفن بعدُ، ولا يزال أصحابها يلاحقون آثار مفقوديهم.

وكما هو واضح، فإن العنوان مستعار من «طواحين الهواء» لسيرفنتس، التي يصارع فيها بطله المصاعب دون جدوى، وهي كتلك الحكايات التي كُتبت في القرن السابع عشر، متشابكة، وفي الوقت نفسه قصص مستقلة، كلٌّ بذاتها، على طريقة سرد ألف ليلة وليلة.

وبطبيعة الحال، فإن النساء اللاتي يناضلن منذ أربعين عاماً، لسن، على أية حال، أديبات ولا كاتبات أو مبدعات محترفات، لكنهن قررن الكتابة والتعبير عن مواجعهن. ومن أجل تحقيق غايتهن، خضعن لسلسلة من ورش عمل للكتابة الإبداعية على يد الكاتبة فاطمة شرف الدين، نظّمها لهن «المركز الدولي للعدالة الانتقالية»، بالتعاون مع «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان»، خلال السنة الماضية.

وسيجري إطلاق «طواحين الهوى»، في الأول من شهر يونيو (حزيران) المقبل، بين الساعتين الرابعة والسابعة، بحفل توقيع في «دار الوردية» بمنطقة الحمرا في بيروت، ويتخلل الحفل قراءات لمقتطفات من الكتاب، ومعرض صور، مع تحية غنائية موسيقية تقدمها الفنانة أميمة الخليل، والمؤلف الموسيقي هاني سبليني.

لم تتوقّف هؤلاء السيدات، طوالَ عقودٍ من الزّمن، عن البحث عن أحبائهنّ، ولم يضيّعن أية فرصة للمطالبة بمعرفة الحقيقة وتحقيق العدالة. وجاءَ ذلكَ هذه المرة، من خلال «طواحين الهوى»، حيثُ استعملن الكتابة لسرد قصصهنّ.

تقول نور البجاني، مديرة البرامج في «المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة» في لبنان واليمن: «أمام مماطلة الدولة وتلكُّئها عن تحمّل مسؤوليّاتها، شعرتُ وكامل فريق المركز بالحاجة المُلحّة إلى إيجاد قوّة دفع شعبيّة تُبقي القضيّة حيّةً، وتردع أصحاب الشأن عن رميها في أدراج الإهمال والنسيان». وحصل أن تزامنت تلك الرغبة مع اقتراح تقدمت به وداد حلواني، رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين»، يقضي بتدوين قصص الأهالي ومعاناتهم؛ كي تُحفظ في الذاكرة الجماعيّة، وتضمن تناقلَ الأجيال هذه القضيّة الوطنيّة.

ملصق لمعرض أقيم قبل سنوات للتذكير بقضية المخطوفين والمفقودين جاب مدناً لبنانية عدة

ورشة كتابة

لكن كيف يمكن لنساء عاديات لا يمتلكن مهارات أدبية أن يدونَّ معاناتهن؟ أقدمت الكاتبة اللبنانية فاطمة شرف الدين على تدريب النساء الراغبات في الكتابة، وقد سكنتها مهابة من صعوبة المهمة، فقد أشرفت على عشرات ورش الكتابة سابقاً، لكن «هذه المرّة، هناك قضيّة عمرها أربعون عاماً، أبناء وآباء وأخوات وإخوة وأمّهات وأزواج وزوجات خُطفوا وفُقدوا خلال الحرب». بعد الكتابة ستشعر الأمهات والزوجات بأن قضيّة مفقودي ومخطوفي الحرب اللبنانيّة لن تُمحى من الذاكرة الجماعيّة؛ ذلك لأن الكتابة تستحضر الأحداث وتصبح القصص موَثّقةً ومحفوظة، ولا خوف من نسيانها أو طمسها عمداً.

كتبت الأديبة فاطمة شرف الدين، في مقدمة «طواحين الهوى»: «كانت تلك من أغنى الورش التي قدّمتُها في حياتي. تثبّتت لديّ فكرة أنّ في الكتابة علاجنا النفسيّ، واكتشافنا لذواتنا؛ فهي توضح لنا المشاعر التي نقمعها أو نخبّئها عن أنفسنا. وباعتراف المشارِكات، كانت الكتابة، بالنسبة إليهنّ، أداةً للتنفيس عن الضغوطات التي يمررنَ بها، وللتخفيف من عبء المشاعر المؤلمة الذي يحملنه منذ عشرات السنين. كانت هناك ثقة بين المشارِكات، وحرّيّة في التعبير عن أيّ أمرٍ كان، وصراحة في إظهار المشاعر والمخاوف والأحزان، ومشاركة أسرار صغيرة؛ مع العلم بأنّ لقاءاتنا لم تخلُ من الروح الفكاهيّة والأخبار الطريفة».

تعتبر سعاد أبو نكد، التي فُقد شقيقها عام 1983، أنها وهي تكتب قصتها، إنما كانت تذكّر الناس بوجع العائلات، وعذابات الأهل وما عانوه طوال سنين، أما سوسن كعوش، التي كتبت قصة «خطوات وأثر» عن فقدها شقيقها عام 1980، فتتحدث عن اكتشافها مخاوفها الدفينة، وأنها تمكنت، لأول مرة، من مواجهتها والتعامل معها بفضل الكتابة. وكتبت سهاد كرم قصة «اسألني»، معتبرة أنها للمرة الأولى تتطبب من اختفاء زوجها، لكن دون دفع مقابل. أما وداد حلواني، التي اختفى زوجها منذ عام 1982، فكتبت: «شاناي: من فسحة حب إلى ساحة حرب»، منادية بضرورة نبش ملفات الحرب وكشف الحقائق.

الفضل في أن يبصر الكتاب النور، يعود إلى ثلاث نساء هن: نور البجّاني، مديرة البرامج في «المركز الدوليّ للعدالة الانتقاليّة في لبنان واليمن»، ووداد حلواني، مؤسِّسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين»، التي خُطف زوجها في ثمانينات القرن الماضي ولم يعد، ولا تزال تبحث عنه، والفنانة اللبنانية تانيا رضوان، التي صمّمت الكتاب وعكست القصص برسومات مميّزة. ورضوان استطاعت العبورَ إلى دواخلِ الكاتبات الناشئات من خلال حكاياتهنّ، وتظهير ما التقطتْه برسوماتٍ مميّزةٍ بالشكل والمضمون، فأخرجتْ نتاجهنّ في هذا الكتاب الأنيق.

وقد أمكنَ تحقيق هذا المشروع بفضلِ الدّعم السّخي من وزارة الشؤون الخارجية لمملكة هولندا، كما سيعود مردود الكتاب لدعم «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين»، ونضالها المستمر منذ عقود.

بطء ولا مبالاة

وتسير قضية المخطوفين والمفقودين ببطء شديد، نتيجة لا مبالاة المسؤولين وتقاذف المسؤوليات، لكن الأهالي تمكنوا قبل ما يقارب 4 سنوات من انتزاع قانون يعترف بحق كل عائلة في معرفة مصير الغائب الذي يخصها. وتردد العائلات أن سلاحها الحق والأمل الذي لا يموت، وهوايتها نزع فتيل الحرب ونشر السلام، بعد كل ما أصابها من آلام.

تفول البجاني: «أملُنا أن تسهمَ هذه الحكايات النابعة من القلوبِ في التخفيفِ من حرقتِها وثقلِ ما فيها، وأن تشكّلَ هذه الصفحات الممهورة بختم أهل هذه القضيّة، مرجعاً وقيمةً إضافيّةً وضروريّةً لكتابةِ تاريخ حرب الـ15 سنة التي عاشها لبنان، حتّى تنذكر تما تنعاد».


مقالات ذات صلة

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

ثقافة وفنون جورج أورويل

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

بـ10 آلاف جنيه إسترليني يمكن شراء رسالة كتبها بخط اليد، مؤلف رواية «1984» إريك بلير (1903 – 1950)، الشهير بالاسم الأدبي جورج أورويل.

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون «مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

«مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت رواية «مريم ونيرمين» للكاتب عمرو العادلي، التي تعزف في قضيتها الكبرى على وتر الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء عبر لغة بسيطة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

«توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

صدر للباحث خالد الغنامي كتاب جديد بعنوان «توسيع دائرة الشكوكيين»، وحسب المؤلف، فإن الداعي لهذه الدراسة في أول الأمر قبل توسع البحث هو خطأ يتكرر في الدرس الفلسفي

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية

ندى حطيط
كتب زينب فواز

نسويات ينتصرن لزينب فواز صاحبة «أول رواية عربية»

تعود الكاتبة زينب فواز إلى الواجهة، مع صدور طبعة جديدة من روايتها «غادة الزاهرة»، التي نشرت لأول مرة عام 1899 في القاهرة.

سوسن الأبطح (بيروت)

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية
TT

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية الكبار. على أن المؤرخ البريطاني والبروفيسور ريتشارد جيه إيفانز مؤلف الثلاثية الشهيرة «تاريخ الرايخ الثالث – 2003» اختار في كتابه الأحدث «شعب هتلر: وجوه من الرايخ الثالث – 2024*» صيغة مغايرة لمنهجه الأثير في تجنّب شخصنة التاريخ، وذلك المزاج المعتاد لدى مؤرخين آخرين في إلقاء اللوم في مجمل التجربة النازية على عاتق الفوهرر وبعض رجاله المقربين مع إعفاء غالب الألمان من المسؤولية؛ إذ استفاد إيفانز من توافر مواد توثيقيّة جديدة ليعيد قراءة المرحلة برمتها عبر استكشاف الأدوار الفرديّة لأربع وعشرين شخصية من مستويات قيادية وتنفيذية مختلفة دون إغفال النظر في أي لحظة عن الإطار الكليّ الأكبر.

ينقسم «شعب هتلر» إلى أربعة أجزاء تغطي سيرة 24 شخصاً من مختلف مستويات تراتب القيادة في المجتمع الألماني اختيروا لوضعهم بكل خصوصياتهم وخصائصهم وتوفر المواد عنهم في السياق الأعم للتاريخ الألماني خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. أول تلك الأجزاء قسم طويل في مائة صفحة عن هتلر نفسه، وثانيها عن عدد من أفراد دائرته المباشرة هاينريش هيملر – قائد القوات الخاصة الألمانية والرجل الثاني في النظام -، وهيرمان غورينغ – رئيس الغستابو (جهاز الاستخبارات) -، ورودلف هس – نائب الفوهرر وممثله الشخصي -، ويوهانس إرفين رومل – قائد الجيوش الألمانية والإيطالية في شمال أفريقيا -، وبول جوزيف غوبلز - وزير الدّعاية النازية -، لكن الإضافة النوعية للكتاب تبدأ في ثالث أجزائه مع سير مجموعة من الممكنين الذي قادوا التنفيذ، وكذلك آخرها الرابع، عن المستوى الأدنى من (الأدوات) الذين خدموا النّظام ونفّذوا أوامره.

هتلر

وللحقيقة، فإن سيرة هتلر كما قطّرها إيفانز في الكتاب تبدو الأقل إثارة للدهشة مقارنة بالشخصيات الأخرى، فالقائد الألمانيّ وإن كان شخصاً آيديولوجياً صرفاً، إلا أنّه كان انتهازياً أيضاً ويعرف كيف يخفف من غلوائه عندما لا يكون أمام الجمهور؛ ولذلك كانت خطاباته شكلاً من أشكال الأداء المسرحيّ المدروس، لكن بقية الشخصيات في الكتاب فقد كانت من النّوع الشديد الإيمان بالقائد لدرجة الإصابة بالإغماء عند الاستماع لخطاباته المدويّة.

يجزم إيفانز بأن هتلر على تفرده لم يكن عبقري سياسة أو حرب، لكنّه كان يمثل تقاطعاً عجيباً في الزّمان والمكان بين تبلور ظاهرة الخطابات العامّة أمام الحشود، وذلك الإحساس الوطني العام بالإذلال بسبب الهزيمة في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ومعاهدة فرساي (1919) - التي أقرَّت فيها ألمانيا بذنبها في اندلاع الحرب، ومسؤوليتها الوحيدة عن الخسائر والأضرار التي نجمت عنها، إضافة إلى قبولها التخلي عن أراضٍ واسعة يسكنها ناطقون بالألمانية – وما تبع ذلك من دمار اقتصادي وكساد مديد. لقد نجح هتلر بديماغوجيته في أن يصبح للألمان تجسيداً لآمالهم بترميم النظام الاجتماعي المتهتك واستعادة الكرامة الوطنيّة المهدورة، وذلك بعد التجربة الفاشلة لجمهورية فايمار التي قامت على أنقاض الإمبراطورية المهزومة.

وبحسب إيفانز، فإن الوجوه التي اجتمعت حول هتلر لم تكن جميعها بالسمات ذاتها، فبينما كان يوليوس شترايشر – رئيس تحرير جريدة الحزب – معادياً لليهود بشدة، كان هيلمر مثلاً أقل اهتماماً بتأثير سلبيّ مزعوم لليهود على المجتمع الألماني، لكنه حقد بالمقابل على المثليين الشواذ، واستمر في الضغط على هتلر لتوسيع دائرة الفئات المستهدفة في مشروع (الحل النهائي) لتشمل إلى اليهود، الشواذ المثليين والشيوعيين والغجر والمرضى. على أنّ القاسم المشترك بين كل هذه الوجوه كان بالدّرجة الأولى تلك الصدمة الجمعية للشعب الألماني بعد الهزيمة التامّة المذلة في الحرب العالميّة الأولى وما أعقبها من حراك اجتماعي هابط، فكان أن قدّم لها الفوهرر نظريّة مؤامرة عن أسطورة «الطعنة في الظهر» من قِبل اليهود واليسار لتفسير الانكسار ومخرجاً للدونية، بدلاً من تقبل الحقيقة الموضوعية بثانوية ألمانيا أمام الهيمنة الصاعدة للتحالف الأنجلوساكسوني على جانبي الأطلسي.

لكن إيفانز يؤكد أن هتلر لم يكن ليصل إلى أي مكان لولا دعم النخب اليمينية المحافظة التي دعته إلى تولي السلطة مستشاراً للرايخ في عام 1933. لم يكن وقتها لدى الأرستقراطيين والبرجوازيين وكبار قادة الجيش الألمان قناعة خاصة بالأفكار والتكتيكات النازية العنيفة، لكنهم تلاقوا على كراهية ديمقراطية فايمار الفاسدة، وأرادوا إطاحتها، ومن بينهم لمعت لاحقاً الشخصيات القيادية في النظام النازي. سير الشخصيات المختارة للكتاب من هؤلاء تشير بمجموعها إلى مجموعة من أنماط السلوك التي ارتبطت بالتجربة المشتركة لها، ومنها تلك القدرة على التوحش التي أنتجتها السلطة المطلقة على البشر الآخرين المختلفين والمحتقرين آيديولوجياً، وكذلك الحماسة الظاهرة للسحر والتنجيم والباطنيات. لكن كان هناك أيضاً «صيادو الفرص»، أي أولئك الأشخاص الطموحين المفتقرين إلى الأخلاق ممن رأوا في المشروع النازيّ منصة للصعود والتقدم والظهور على نحو لم يكن متاحاً لهم في ظل النظام السابق. أما فيما يتعلّق بـ«الأدوات» - وفق تسمية إيفانز دائماً – فباستثناء شخصية واحدة من الطبقة العاملة في كل الكتاب – ابن أحد الخبازين –، فإن كتلة اللحم الأساسية للنظام النازي جاءت كما يبدو وبأغلبية ساحقة من خلفية الطبقة الوسطى المسكونة بأحلام التّرقي الاجتماعي، ولو على حساب الآخرين الأقل حظاً.

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ ربّما؛ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يقف على أقصى نهاية طرف الطيف السياسيّ ويستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف، وهذه المرّة للمهاجرين الأجانب، لا سيمّا المسلمين منهم. ولا شكّ أن إعادة تفكيك التجربة النازية – وشقيقتها الفاشيّة في جنوب القارة – سيضيء على دروس قد تساعد البشرية على تجنب كارثة كونية أخرى قد تكون نتائجها أكثر فداحة من الحرب العالمية الأخيرة، كما أن مغامرة المحافظين اليمينيين بتصعيد النازيين الجدد اليوم قد تمنح المؤرخ عدسة أخرى ليقرأ بها تاريخ النازية متسلحاً بفهم أعمق للحراك الاجتماعي المعاصر.

شعب هتلر: وجوه الرايخ الثالث

Hitler's People: The Faces of the Third Reich

المؤلف: ريتشارد إيفانز

الناشر:

Allen Lane – 2024