التلصص... عتبة روائية

إنجي همام في روايتها «في الليل على فراشي»

التلصص... عتبة روائية
TT

التلصص... عتبة روائية

التلصص... عتبة روائية

يلعب التلصص دوراً مهماً في تنويع مسارات السرد في رواية «في الليل على فراشي» للكاتبة إنجي همام، الصادرة أخيراً عن دار «بدائل» بالقاهرة، حتى يكاد يكون أحد أبطالها، فالذات الساردة تتكئ عليه كعتبة للنص، وتتخذه معولاً للكشف والتأمل في مفارقات عالمها البسيط المغوي، واللعب مع المكان والنبش في ذاكرته وتضاريسه.

يبدأ فعل التلصص في الرواية من شقة «آديل» الأرملة الفرنسية صديقة البطلة، التي تقطن إحدى البنايات العريقة بشارع شريف بوسط القاهرة، وهو الشارع نفسه الذي تهديه الكاتبة الرواية قائلة: «إلى شارع شريف (المدابغ سابقاً)، إلى دراويشه ومريديه، الصعاليك والفقراء والحالمين، إلى زحامه النهاري وهدأته الليلية، إلى نوره الذي لا ينطفئ وعتمتهِ المسكونة بالأسرار، إلى السحر الساكن فيه».

يشكل هذه الإهداء البسيط مفتاحاً للنص، ويشي بأن مغامرة التلصص ستبدأ من هنا، من رحم الحركة والسكون. حيث تتحول حافة نافذة بشقة «آديل» وبالمصادفة إلى «برج للمراقبة». تستند البطلة على حافة النافذة لاستنشاق نسمات الهواء، في ليلة عيد ميلاد صديقتها وتضطر للمبيت عندها. لكنها تفاجأ بمشهد لزمرة من الرجال يتراوح عددهم ما بين 8 أو 10، يقودهم رجل طويل القامة يبدو كأنه زعيمهم. بعد منتصف الليل وبإشارة منه يصطفون في هدوء كجنود حراسة على رصيف مبنى عتيق مهمل مغلق منذ سنوات، كان مقراً لبنك الإسكندرية، يقع في مواجهة نافذة المراقبة، ثم يتسللون إلى داخل المبنى، بعد أن يفك زعيمهم أقفال بابه السميكة، ومع غبشة الفجر يخرجون، ويتفرقون في شوارع وسط البلد، ويلحق بهم زعيمهم بعد أن يغلق الأقفال.

في البداية، يمر المشهد في عين البطلة كحلم، لكن مع تكراره بالطقس نفسه يصبح واقعاً وسرّاً من أسرار المكان، تنشغل به وتعدّه اكتشافاً خاصاً، بل قضية وجودية معلقة ما بين قوسي الشك واليقين، وهو ما تعبر عنه في (ص 13): «أبقى قرب النافذة، في انتظار هبوط العالم الآخر لشارع شريف، ليلات ثلاث، في انتظار تجلي زمرة البنك مرة أخرى. في الصباح أحدق في البناية العتيقة، أسألها بكل عنف صموت، هل أتاكِ بشرٌ بعد منتصف ليلة صيفية طويلة، هل دخل البعض هنا، وأغلقوا خلفهم باباً عتيقاً ثقيلاً على أسرار يدفعني الجنون إلى اكتشافها؟».

يساعد على ذلك ولع البطلة بشوارع وسط القاهرة على نحو خاص والحنو عليها، والتجوال فيها وممارسة التلصص، بخاصة على البنايات القديمة ذات الطرز المعمارية الجميلة المبهجة، حتى إنها أحياناً تضطر إلى اصطناع التلصص لإشباع رغبتها المسالمة، وكأنها لعبة هاربة من مرآة الطفولة، تنتحل من أجلها الأسباب للولوج إلى بناية ما، بحجة البحث عن شقة خالية للإيجار، مدفوعة بحكمة استقتها من هذا الولع بالمكان، حيث «كل ما لا يرى بالعين لا يشرح بالكلام»، كما تقول (ص 28).

وهكذا، بغواية التلصص مشّرَباً بكذبة بيضاء، تفك البطلة شفرة سرِّها، بعد أن توهم صديقتها بالسفر مبكراً في رحلة ترفيهية قصيرة من رحلات اليوم الواحد، تخرج مع غبشة الفجر، تتبع الرجال العشرة وهم يخرجون من المبنى العتيق، ثم يتفرقون في الشوارع، مركزة على زعيمهم، فتطارده كظله، وما أن يدخل إلى أحد معامل التحاليل الطبية، تلاحقه، وتتصنَّع حاجتها لإجراء تحليل طبي شائع، فتكتشف أنه الطبيب الذي أجراه لها. حينئذ تتحول دفة التلصص إلى حالة لاهثة من الاكتشاف لهذا الرجل طويل القامة الصموت، زعيم «زمرة الرجال العشرة» في رحلتهم الليلية. يشفق الطبيب عليها بعد أن أصابها دوار جراء التحليل المفاجئ، ويعرض عليها أن يوصلها بسيارته إلى البيت. طيلة الطريق لم ينطق سوى ببعض الإيماءات والهمهمات المبهمة، ومع ذلك أحست بأن شيئاً ما بداخلها يشدها إليه، وأنها سوف تقع في غرامه، وتتمنى أن تتسع دائرة التلصص وتعرفه أكثر.

تقول الكاتبة على لسان بطلتها الساردة مجسدة هذه الربكة المفاجئة (ص 4): «الصمت كاد يخنقني أكثر من قلة الهواء، لم يكن خوفاً ذلك الشعور القائم الذي خايل روحي طيلة الطريق، كان ضجراً أفضى إلى صدمة أو ما يشابهها، أوخز الصمت الطويل بكلمات شكر متناثرة من حين لحين، فيرد بإيماءات صغيرة، لم تكن الحلقةَ الكبرى في المغامرة العجيبة، ولكنها الأشد سخفاً حتى اللحظة، لماذا وافقت على مرافقته لي، لماذا عرض هو، لم يكن وضعي خطيراً، ولم يبدو مطلقاً أنه من تلك النوعية من الرجال، النوعية التي سمعت عنها أكثر من غيرها، أكان مغناطيس الكشف هو من ألصقني به، ليعود هو بي لبيتي بدلاً من أن أتبعه، أم هو جذب من نوع آخر، ترى ماذا قال هو عني؟».

يكشف هذا المشهد المتشكك الحائر عن طبيعة التلصص وحِيله على مدار فصول الرواية الثلاثين، وصفحاتها التي تتجاوز المائة والخمسين صفحة، ففي البداية يراوغ التلصص ما بين الثقل والخفّة، كما يتحول إلى لعبة مشرّبة بمسحة درامية، وأحياناً يشكل طوق نجاة وملاذاً للذات، ومن ثم، يبدو صمتُ «رشيد» وكأنه تلصص داخلي، يصفو من خلاله إلى نفسه، هارباً من ضجر العالم وكوابيسه التي تغلف فضاء الواقع في النص.

من هذه الزاوية تحديداً تتكشف شخصية «رشيد» زعيم زمرة البنك، بطبقاتها المركبة وأطيافها المربكة، بخاصة بعد أن تتوطد علاقته ببطلة الرواية الساردة الأساسية، التي تترك الكاتبة اسمها مفتوحاً على تأويلات شتى. فلا يخاطبها رشيد به، حتى بعد أن تأنس إليه وتعجب باسمه وعالمه الغريب وواقعيته الإنسانية الفريدة وعطائه الوافر بلا حدود. مع ذلك يبدو هذا العالم جوانياً، فهو لا يكترث كثيراً بما يدور حوله، وإنما بما يصنعه هو، تعلَّم من خبرته الطويلة بالبشر والحياة فن الحذف والإضافة، بل الإزاحة لكل ما يعوق خطوته حتى لو كان عاطفياً يمس زوجته. كل همه العطاء في صمت لمن يستحق، ويجد ضالته في دراويش ومشردي الشوارع، يكوِّن منهم ثلة، ويأخذهم في نزهات ليلية، يأكلون ويشربون ويمرحون في ونسة استثنائية مسروقة من جعبة الزمن، يضخون من خلالها البهجة في الأماكن العتيقة المهجورة.

يعزز ذلك بنية المصائر المتشابهة في الرواية، التي تصل أحياناً إلى حد التطابق، ما يجعل عالمها أشبه بتاريخ مشترك متناثر بين أبطالها، يتقلب ما بين المرئي المحسوس، والمتحفي المضمر في طبقات السرد، وما وراء العناصر والأشياء. أيضاً استخدام الكاتبة بمهارة وخفة لضمير المتكلم على مدار أغلب فصول الرواية، وباستثناءات خاطفة تكاد لا ترى، ما يجعل الراوي حاضراً دائماً داخل عالمه، يطل عليه من نافذته هو، وليس من نافذة الآخر. المخاطب أو الغائب.

تمس النوستاليجا أغلب أبطال الرواية، وتضعنا أمام ما يمكن تسميته أيضا «ضفيرة المصائر المتشابهة»، بداية من البطلة التي تعيش في كنف خالها، منذ أن كانت طفلة صغيرة لم تتجاوز السنوات الثلاث، ولا تعرف عن والديها شيئاً، سوى أنهما تزوجا كرهاً وانفصلا في ظروف أشد قسوة ومأساوية، وذهب كل منهما إلى طريق آخر. كذلك الأمر بالنسبة للخال «أديب» و«آديل» وزوجها المتوفي أكرم، و«رشيد» وابنته «ليل». كلهم يعانون من فقد ما لشخص مهم، تحول فقده إلى فجوة حياة يصعب ردمها، فقط التعايش معها بقليل من قطرات الأسى والمحبة.

تنعكس ظلال هذه الضفيرة على قصص مشردي الشوارع ومآلاتهم المصيرية، فهم ضحايا أقدار عجيبة، ترقى إلى أجواء الخرافة والأسطورة، ما يجعل الرواية تقترب من مناخات «ألف ليلة وليلة» العجائبية.

يبقى من الأشياء الجميلة في هذه الرواية بساطة اللغة وسلاسة الحكي، وبناء عالم روائي شيق يتحول فيه الحلم إلى واقع بقوة التلصص وحيوية الولع بالمكان، ما يجعل لعبة السرد لصيقة بالمعرفة الإنسانية، في نشدانها الأعمق للجمال والحرية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.