العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.

دراسات لكُتَّاب ومُفكِّرين ضمنهم هنتنغتون وفوكوياما

العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.
TT

العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.

العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.

يتضمن كتاب «هل تصنع الثقافة السياسة؟» الصادر حديثاً عن دار العين المصرية مختارات من أبحاث نُشرت في كتاب «الثقافة مهمة»، الذي أشرف على تحريره وإصداره المفكران الأمريكيان لورانس هاريسون وصامويل هنتنغتون، ضمن فعاليات ندوة مُوسَّعة بعنوان «القيَم الثقافيَّة والتقدُّم الإنسانيّ»، نظمتها أكاديمية جامعة هارفارد للدراسات الدولية ودراسات المناطق في أبريل (نيسان) 1999، وشارك فيها كُتَّاب ومُفكِّرون من شتى مناطق العالم.

النسخة العربية المنقحة قدمتها المترجمة المصرية الدكتورة سهير صبري، التي قامت بانتخاب 6 دراسات رأت أنها قريبة الصلة من الواقع العربي والأفريقي، وهي «الأنماط الثقافية والتنمية الاقتصادية» وقدّمها عالم الاجتماع الأرجنتيني ماريانو جروندونا، و«الثقافة وسلوك النُّخَب في أميركا اللاتينيَّة» للمحلل والكاتب السياسي الكوبي كارلوس ألبرتو مونتانير، و«هل تحتاج إفريقيا إلى برنامج تكيف ثقافي؟» لعالم الاقتصاد الكاميروني دانيال إتونجا مونجيل، و«رأس المال الاجتماعي» للمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، و«الخرائط الأخلاقية: غرور العالم الأول والإنجيليُّون الجُدُد» للباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم النفس الثقافي الأمريكي ريتشارد أ. شويدر، بالإضافة إلى بحث أخير جاء بعنوان «تعزيز التغيير الثقافي التقدُّمي» لـلورانس هاريسون.

يأتي الكتاب في سياق جدل دائماً ما يخوضه مفكرون ينتمون إلى مجالات ثقافية وفكرية مختلفة بهدف تفسير وبحث ومعرفة أسباب تقدُّم دول وتخلُّف أخرى، وشهدت فترة الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، ازدهار التيار الذي يؤكِّد أهميةً الثقافة، وكان هو التيار الرئيسي في العلوم الاجتماعية، بعدها تقلص الاهتمام به، ثم عاد ليزدهر مجدداً في مرحلة الثمانينات. ويرفض أصحاب هذا الاتجاه، ربط أسباب التخلُّف بعوامل المناخ، والتفسير العنصري، والاستعمار والتبعية.

المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون

وفي أعقاب الأدبيات التي أنتجها علماء الاجتماع خلال مرحلتي الأربعينات والخمسينات، تقلَّص الاهتمام بالأبحاث الثقافية بشكل ملحوظ في الدوائر الأكاديمية في الستينات والسبعينات، ثم بدأ الاهتمام بها يزدهر في الثمانينات بوصفها متغيراً تفسيريّاً، وتحوَّل علماء الاجتماع أكثر إلى العوامل الثقافية لتفسير التحديث ومواكبة العصر، والتحوُّل الديمقراطي السياسي، والاستراتيجيات العسكرية، وسلوك الأقليَّات العِرْقيَّة، والتحالفات والعداوات بين البلدان.

ومن بين الأسئلة التي يطرحها الباحثون المشاركون في الكتاب، ما تمحور حول قدرة السياسة على إصلاح الثقافة والقيام بدور حاسم في إنقاذها هي والمجتمع من نفسيهما، كما سعى الباحثون لتبيان إلى أي مدى تُشكّل العوامل الثقافيَّة النمو الاقتصاديَّ والسياسيّ؟ وكيف يمكن إزالة المُعوِّقات الثقافية أمامه لتسهيل التقدم؟

في دراسته التي حملت عنوان «الثقافات مهمة» يؤكد صامويل هنتنغتون على دور الثقافة بعد مقارنة أجراها بين الواقع الآني في كل من غانا وكوريا الجنوبية اللتين كانتا متماثلين في بياناتهما الاقتصادية بداية فترة الستينات، وذكر أن هناك عوامل عدة لعبت دوراً فيما آلت إليه الأمور في كل منهما، ومن بينها الثقافة التي رأى أنها يجب أن تكون عنصراً مؤثراً في تفسير ذلك التطور.

لكن على الجانب الآخر، ظهرت، بحسب هنتنغتون، هناك حركة مضادَّة قللت من أهمية التفسيرات الثقافية لتقدم وتطور المجتمعات، وانعكست في النقد الشديد الذي شكك في أعمال كل من فرانسيس فوكوياما، ولورانس هاريسون، وروبرت كابلان، وآخرين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل التحق بالمعركة في عالم الدراسات العلمية كل من يرون الثقافة عنصراً رئيسياً، يؤثر ضمن عناصر أخرى على السلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

ويستكشف الكتاب كيفية تأثير الثقافة في التقدُّم والتنمية الاقتصادية والتحوُّل الديمقراطي السياسي وأساليب تحقيق ذلك، وتركز الدراسات التي تضمنها على الثقافة بوصفها مُتغيراً مُستقلاً، وتسعى لتوضيح ما إذا كانت العوامل الثقافية تؤثر حقّاً في التقدم الإنساني، أم تعرقله.

ويشير الباحث الأرجنتيني ماريانو جروندونا إلى أن ما أحرزته بلاده من تقدم في اتجاه الإصلاح الاقتصادي، والاستقرار الاقتصادي، والتحوُّل الديمقراطي السياسي في منتصف التسعينات. ويذكر أن البلاد التي لديها منظومة قيَم جوهرية وأداتية مواتية هي القادرة فقط على التنمية السريعة المستدامة، حيث تشجع الرخاء، والحرية، أو الأمان، وتتعامل التنمية بوصفها ظاهرة أخلاقية، دافعة عملية التراكم إلى الأمام بلا توقف، ومركزة على الفرد بوصفه المحرِّك الأساسي بعمله وإبداعه.

وفي دراسته «الثقافة وسلوك النُّخَب في أميركا اللاتينية» لفت الباحث السياسي الكوبي كارلوس ألبرتو مونتانير إلى معاناة دول أميركا اللاتينية منذ فترة طويلة من دورات من «الهَوَس الاكتئابي»؛ ونتيجة لذلك يبدأ رأس المال الأجنبي في الهروب. ويتحوَّل الاكتئاب إلى يأس، واستسلام، مشيراً في هذا السياق إلى الجدل المستمر حول أسباب فشل أميركا اللاتينية مقارنةً بنجاح كندا والولايات المتحدة هما موضع تساؤل متكرِّر من مُثقَّفي أميركا اللاتينية،

من جهته يسعى الباحث الكاميروني دانيال إتوجا مونجيل إلى الإجابة عن أسئلة مثل «هل تحتاج إفريقيا إلى برنامج تكيف ثقافي؟»، وما مدى توافقها مع المُتطلَّبات التي يواجهها الأفراد والأمم في بداية القرن الحادي والعشرين؟ ومدى احتياجها إلى برنامج تكيُّف ثقافي؟

وهو يرى أن الثقافة الإفريقية هي واحدة من أكثر الثقافات إنسانية، ولكن يجب تجديدها من خلال عملية تأتي بمبادرة من الداخل تسمح للأفارقة أن يحافظوا على ثقافاتهم، و«أن يكونوا في زمانهم في الوقت نفسه». ويشير إلى أن وجود مؤسسات إفريقية أكثر كفاءة وعدالة يتوقف على «إجراء تعديلات ثقافاتهم»، والقيام بثورات ثقافية سلمية في قطاعات التعليم، والسياسة، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية.

المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما

وفي بحثه «رأس المال الاجتماعي»، يركز المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما على القيَم والمعايير غير الرسمية المشتركة بين أعضاءِ أية جماعة، تتيح لهم التعاون فيما بينهم، و«الوفاء بالالتزامات، والمعاملة بالمثل». وذكر أن كل المجتمعات لديها مخزونٌ من رأس المال الاجتماعي؛ لكن الفروق الحقيقية بينها تتعلق بالمعايير التعاونية المنتشرة فيها، والتي تواجه مشكلة أنها لا يمكن مشاركتها إلا بين جماعات محدودة من الناس.

ومن الممكن، حسب فوكوياما، أن تتشكَّل جماعات ناجحة في غياب رأس المال الاجتماعي، وذلك باستخدام أشكال متنوعة من آليَّات التنسيق الرسمية مثل العقود، والتدرُّجات الوظيفية، والدساتير، والنُّظُم القانونيَّة، لكن المعايير غير الرسمية تُقلِّل بشكلٍ كبيرٍ ما يطلق عليه الاقتصاديون تكاليف المعاملات، كما يمكن لرأس المال الاجتماعي أيضاً تسهيل درجة أعلى من الابتكار والتكيُّف الجماعي، ذلك أنه جوهري لخلق مجتمع مدني صحي، يلعب دوراً حاسماً في نجاح الديمقراطية، ويتيح للجماعات المختلفة أن تتَّحد معاً للدفاع عن مصالحها حتى لا تتجاهلها الدول القوية.


مقالات ذات صلة

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».