كيف حافظ البشر على «شيفرة» الحياة؟

جمال أبو الحسن يتتبع رحلتها من الكهوف إلى الذكاء الصناعي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

كيف حافظ البشر على «شيفرة» الحياة؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

«الطريقة التي نعيش بها نحن البشر، مركبة جداً... ولكنها تتكون من أشياء بسيطة... من شيفرات تحتوي عدداً قليلًا جداً من الوحدات. شيئاً فشيئاً، تضافرت المكونات البسيطة لتصنع أشياء مركبة... فظهرت الخلايا والكائنات والأدمغة المركبة من مليارات الخلايا العصبية، والمجتمعات المكونة من أعداد كبيرة من الأدمغة، ثم المدن والدول والإمبراطوريات».

بين هذه الشيفرات، والمكونات، والمجتمعات، والإمبراطوريات؛ يأخذنا الكاتب والدبلوماسي المصري جمال أبو الحسن، في «رحلة»، بين ثنايا كتابه «300.000 عام من الخوف... قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد»؛ لنستكشف عبرها قصة نشأة المجتمعات والحضارات، وفك «شيفرة» البشرية الغامضة.

الكتاب الصادر عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة، يصعب حصر تصنيفه بين السياسي أو الاجتماعي أو العلمي، فهو يتجوّل بين التاريخ والحضارات، ويقفز بين عوالم الفيزياء والأنثروبولوجيا والفلك، ويعرج إلى الأديان القديمة غير التوحيدية والأديان التوحيدية.

ويعتمد أبو الحسن، الذي يتولى راهناً منصب المتحدث الرسمي باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية، أسلوباً سردياً لافتاً عبر بثّ أفكاره وتأملاته، من خلال 10 رسائل يردُّ بها المؤلف على أسئلة ابنته ليلى، منطلقاً من حقبة فيروس كورونا، الذي أصاب الأب والابنة، بينما كانا متباعدين جغرافياً، ومعزولين صحياً، غير أنهما كانا على تواصل إلكتروني، «عبر رسائل متبادلة في زمن العزل، كتبتُ بأصابع قلقة من المستقبل»، وفق ما يصف الكاتب.

تسأل الابنة الخائفة أباها عن علاج من القلق الذي أحاط بها بفعل الفيروس، ليردَّ الأب برسائله المطوَّلة، التي تحمل أفكاراً تحليلية وتساؤلات فلسفية، قائلاً في بداية ردِّه عليها: «عبر رسائلي إليكِ سأحاول أن أعرِّفك على أسرتك... أسرتكِ الكبيرة العتيدة التي خاضت مغامرة مدهشة من الكهوف الحجرية إلى الذكاء الاصطناعي. مغامرة مليئة بالأفكار والخيالات والصراعات والانكسارات والنكبات والخيانات والانتصارات. سنبدأ الرحلة من أولها، ولكننا لن نصل إلى محطة النهاية».

وفي رسالته الأولى يخاطب المؤلف ابنته قائلاً: «في الحقيقة، يا عزيزتي، أن جائحة كورونا هي مجرد الحلقة الأخيرة في سلسلة متصلة تربطنا بتاريخنا البعيد جدّاً. الكارثة والأزمة ليستا أحداثاً فريدة في قصتنا، إنهما ما يجعلان منها قصة تستحق أن تُروى مفعمةً بالمفاجآت.. وانعدام اليقين. هل كنتِ تتصورين، منذ عدة أشهر فقط، أن تكوني أسيرة لغرفتك بسبب فيروس ضرب الكرة الأرضية؟ لقد تكونت عناصر قصتنا كلها على وقْع كوارث مروِّعة، ولكن مع كل كارثة كانت تنفتح أمامنا نافذة، وفرصة تقرِّبنا أكثر من المسار الذي وصل بنا إلى هنا... اليوم».

في رسالتين متتاليتين من الأب للابنة حملتا عنواني «أرض الخوف»، و«شيفرة الجماعة»، يعبر المؤلف عن اعتقاده أن «الخوف هو العاطفة الأكبر على الإطلاق، التي تحرك البشر»، إذ صاحَبَنا قبل حوالي 300 ألف عام، وأنه «يشبه برنامج كمبيوتر عتيقاً جدّاً زوّدتنا به الطبيعة لكي نحقق هدفنا الأول، الذي نشترك فيه مع الكائنات الحية الأخرى: الحفاظ على بقائنا، وتجنب الموت».

ويرى أبو الحسن أن «لكل جماعة بشرية (برنامج تشغيل) أو (شيفرة)، الشيفرة الوراثية للحياة تقبع في الخلية. و(شيفرة الجماعة) تستقر في الأدمغة... أدمغة أعضاء الجماعة. وشيفرة الجماعة هي شيء يصنعه البشر بأنفسهم، ومن أجل الحفاظ على هذه الشيفرة فإن الجماعات تعمد إلى استخدام البرنامج الأعمق تأثيراً في النفس البشرية: (الخوف)».

ويتابع: «الفكرة المهمة، التي عثرت عليها الجماعات البشرية كافة، هي أنها لا يمكن أن تحيا من دون أدوات اجتماعية. الأدوات التكنولوجية تساعد على البقاء في مواجهة الطبيعة. الأدوات الاجتماعية تساعد على بقاء الجماعة وتحميها من التفكك، وتسهل التعامل بين أعضائها، حتى لو كانوا لا يعرفون بعضهم بعضاً بشكل شخصي. الأدوات الاجتماعية تتيح تشكيل جماعات أكبر عدداً، عبر ابتداع ميثاق معيَّن للعيش في الجماعة، أو (شيفرة) للحياة المشتركة داخلها».

ومن وجهة نظر المؤلف، فإن «الرغبة في التماشي مع الجماعة شعور طاغ ومؤثر على أفعالنا، ونحن نتبع أعراف الجماعة وقواعدها لسبب بسيط: الخوف من الانعزال، والرغبة في التماثل»، مؤكداً أنه كلما تضخّم حجم الجماعة، زادت الحاجة للأدوات الاجتماعية، وازداد تعقيد «الشيفرة»، منتهياً إلى حقيقة أن «العيش في جماعة ليس سهلاً»، مبيناً أن «الصراع الإنساني ينشب عندما يبدأ بعض البشر بالتشكك في نظام التشغيل، أو المطالبة بتغيير (الشيفرة الاجتماعية) أو مراجعتها».

إننا وجدنا أنفسنا أمام شيفرات غامضة تتغلغل في كل شيء حولنا على الكوكب، حيث امتدّت لتكوّن المدينة، والدولة، والحضارة، والإمبراطورية، نراها أيضاً في «اتفاق جماعي» تمثَّل في القانون، والعرف، والمال، والأعداد، والأبجدية، نجدها في مبادئ أخلاقية بسيطة لا تعيش أية جماعة من دونها، وفي أعراف وقواعد تميز بين المسموح والممنوع.

ويصل كاتبنا إلى رسالة «كيف تصنعين حضارة؟»، ليخبر ابنته – ويخبرنا - بأن الجماعات تستطيع إنتاج «شيفرة اجتماعية» تغرسها في أبنائها منذ الصغر، لإقناعهم بأن النظام الذي يعيشون في ظلّه ليس شيئاً مصنوعاً، وإنما هو يعبر عن طبيعة الأشياء ونظام العالم. في حالة الدولة المصرية القديمة ارتكزت الشيفرة الاجتماعية في غرس الاعتقاد بأن «الناس لم يُخلقوا متساوين»، وأن هناك «تراتبية» في المجتمع، أعلى سُلَّم التراتبية هناك الآلهة، وبعدهم الملوك، فالكهنة... ثم تتسع القاعدة كلما هبطنا إلى أسفل، حيث يقبع أغلبية البشر في السفح. وهكذا يتحول «الهرم الاجتماعي» إلى هرم فعلي، ومن ممارسة يومية إلى واقع حقيقي وملموس.

ويعود أبو الحسن مجدداً لفكرة إدارة المجتمعات وتفاعلاتها الداخلية، إذ يقول، في رسالة أخرى لابنته بعنوان «كيف تحكمين إمبراطورية؟»، شارحاً أنه من أجل البقاء لأطول فترة، والتوسع لأبعد مدى، فإن الإمبراطوريات لم تكن فحسب في حاجة إلى «تكنولوجيا مادية»، وإنما أيضاً إلى «تكنولوجيا اجتماعية»، وأنظمة تشغيل تمكِّنها من التفوق على منافسيها وسحْقهم.

ويصل الكاتب إلى المحطة الأخيرة برسالة تحمل عنوان «انفجار الأفكار»، لافتاً خلالها إلى أن قصة ظهور الأفكار الكبرى والأديان العالمية هي «النقلة الأهم على الإطلاق في قصتنا»، مبيناً أن الأديان «ليست محاولة للكشف عن طبيعة العالم، مثل الفلسفة أو العلم، إنما هي نظام روحي وعملي نعيش به وفي كنفه وبإلهامه. ليست مجرد وجهة نظر في الأشياء، أو رأي في مسألة من المسائل. الأديان التوحيدية هي تفسير كامل للعالم، وخطة شاملة لكيفية العيش».

وبتطبيق فكرة الشيفرة على الأديان، نقرأ، من بين سطور الرسالة: «النص المقدس يصير هو الشيفرة الكبرى التي تفسر العالم، وتنظم سُلَّم القيم في المجتمع، بل وتضبط العلاقات داخله، وتضع القواعد الأساسية للسلوك المرغوب أو المرفوض».

ويختتم رسالته بشأن الأفكار حول الأديان بالحديث عمن سمّاهم «محطمي الأصنام»، فيقول إنهم «لا يكتفون بالهدم، وإنما ينسجون روابط جديدة بين البشر. الإيمان بالإله الواحد يخلق تلقائياً انصهاراً في أمة واحدة تضم كل المؤمنين؛ لذلك تمثل الأديان العالمية، وبخاصة التوحيدية منها، خطوة أخرى في قصتنا نحو المزيد من التركيب، وخلق شبكات أكثر امتداداً وتداخلاً بين البشر».

ويتابع: «هم يبشرون بـ(شيفرة كبرى) جديدة تفسر العالم كله، وتربط كل الأشياء ببعضها بعضاً، بل وتقلب كل الأشياء رأساً على عقب. لهذا السبب بالتحديد، ترفضهم المجتمعات وتحاربهم بضراوة». الإمبراطوريات لم تكن بحاجة إلى «تكنولوجيا مادية» فحسب، وإنما أيضاً إلى «تكنولوجيا اجتماعية»



«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.