إذ تتبارى المؤسسات السينمائية حالياً لإسداء جوائزها السنوية، بدءاً من الشهر المقبل وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجديد، سيكون من المثير متابعة المرشّحين، وكيف (أو لماذا) رُشِّحوا؛ إذ جرت العادة أن يكونوا زمرة غير متساوية الإجادة في أفلام مهمّة ولافتة.
هذا هو الحال المعتاد في كل مرّة نقترب فيها من موسم الجوائز، حيث تجري المقارنة بين من يستحق ومن لا يستحق في كل شأن من جوانب صناعة الأفلام. السؤال هو: من يستحق فعلاً؟

ممثل بشخصية واحدة
العبارة التي تعوّدنا على قراءتها منذ زمن بعيد، والتي لا تزال تومض مثل «فلاش» سيارة في زحمة السير هي: «ونجح الممثل في أداء دوره جيداً ما جعلنا نصدّق شخصيّته ونشعر بها».
هناك عبارات مشابهة لما سبق تحتوي أيضاً على مفاهيم من الصعب اتخاذها بوصفها حقائق أو مقاييس. مثلاً، النجاح لا يعني الجودة، وإذا لم يعنِ الجودة فإن النجاح مجرد عنصر مرتبط بمسببات مختلفة. ثم إن الربط بين أداء جيّد وتصديقنا لما يقوم به الممثل أمران مختلفان كذلك. ذلك أن سعي الممثل الجيّد ليس أن يجعلنا نصدّق ما يقوم بتمثيله، بل أن يصدّق هو ما يقوم به ويتّحد مع الشخصية التي يؤديها، ولنا أن نصدّقها فيما بعد. مارلون براندو في «العرّاب» مذهل لأنه تقمّص الشخصية بتفاصيل خاصّة به. هذا جهده وموهبته وكيفيّته في قراءة وتقمّص الشخصية التي اختير لها. ليس في باله أن يصدّقه المشاهد أو لا، بل إن يتقن الدور لنفسه أولاً، والتصديق يأتي لاحقاً.
في الأيام القليلة الماضية، أعدتُ مشاهدة 4 أفلام لعب دستِن هوفمن بطولتها وهي «المتخرّج» لمايك نيكولز (1968)، و«مِدنايت كاوبوي» لجون شليسنجر (1970)، و«بابيون» لفرانكلين شافنر (1973)، و«رجل المطر» لباري ليڤنسن (1988)، ووجدته يؤدي الشخصية نفسها في كل واحد من هذه الأفلام.
تختلف الأدوار طبعاً: في «المتخرّج»؛ هو الشاب الخام المتردد في تجربته الجنسية الأولى. في «مِدنايت كاوبوي» (نال عنه أوسكاره الأول) هو الرجل الذي يعيش في هامش المدينة مكبّلاً بالحاجة والضعف. وفي «رجل المطر» هو الشاب المصاب بمرض التوحّد الذي لا يمنعه من القدرة على توظيف موهبة حسابية (أوسكاره الثاني). أما في «بابيون»؛ فهو السجين الذي يصادق رجلاً أقوى شكيمة وأكثر تحدياً لنظام السجون منه (ستيف ماكوين).
العنصر المشترك بين هذه الشخصيات هو تأدية هذه الأدوار (وهناك سواها) بنفَس واحد. تقنية تمثيله لا تختلف رغم اختلاف الشخصيات التي يؤديها. هي تقنية حركة وإمعان درامي رائعين في «مِدنايت كاوبوي» ومتكرّرة في سواه. يعكس حال شخص ضعيف يمشي متعثّراً كما لو كان سيقع في الخطوة التالية، مع توفير تفعيل عاطفي خارجي، وليس داخلياً.
إنه نجاح لدى من يعتقد أن تميّز الدور هو تميّز في الأداء. هناك مشاهد عدة في «رجل المطر» يمزج الممثل فيها خصال التوحّد بطريقة غير علمية، يبدو من خلالها أقرب إلى أن يكون متخلّفاً ذهنياً. هذا النجاح جيّد مهنياً ومقبول لدى الجمهور السائد وحتى بين مانحي الجوائز، لكن الإتيان بشخصية مختلفة مع ابتكار تقنياتها وحركاتها ونفسياتها الداخلية محدود.

وجوه الموسم
على النقيض، هناك أنطوني هوبكنز الذي قدّم أداءات مختلفة في معظم ما أنجزه من أعمال، كما الحال في النماذج التالية:
في «صمت الحملان» (The Silence of the Lambs) لجوناثان دَمي (1991) هو شخص مختلف جداً عن دوره في الفيلم اللاحق «هواردز إند» لجيمس آيڤوري (1992)، وكلاهما مختلف عن دوره في «نيكسون» لأوليفر ستون (1995)، المختلف بدوره عن تمثيله في «الأب» لفلوريان زلر (2020).
هذه الاختلافات ليس مرجعها الأول اختلاف الدور الذي يؤديه. تميّز هوبكنز هو اهتمامه في عدم تكرار الكيفية التي يتصرّف من خلالها مع المواقف التي يواجهها أو يعايشها. لذلك هو مختلف في كل واحد من هذه الأمثلة وسواها.
في جانب آخر، هناك المخرج وعلاقته مع الممثل. إذا كان لديه ممثل أدمن الشخصية الواحدة فسيتركه يكررها غالباً، لأن الفيلم يتوجه لمن ينتظر من الممثل لون أدائه السابق. أما إذا كان لديه ممثل في وزن دِنيرو أو راف فاينس أو إيڤ مونتان أو في مهارة محمود حميدة أو فاطمة بن سعيدان أو فاضل الجزيري، فإن الغالب أن يترك الممثل وشأنه لأنه يعلم قدر موهبته.
من الأسماء البارزة التي سترد في سباق «الأوسكار» ونقابة الممثلين الأميركية و«البافتا» و«غولدن غلوبز»: ليوناردو ديكابريو عن «معركة بعد أخرى» لبول توماس أندرسن، وجويل إدجرتون عن «أحلام قطارية» (Train Dreams) لكلينت بنتلي، يمسك الممثل بزمام شخصيته من دون مشهد واهن واحد. وتوني سيرڤيللو عن دفء أدائه في «النعمة» لباولو سورنتينو، وريبيكا فرغوسن عن «منزل الديناميت» لكاثلين بيغيلو بسبب قوة تفعيلها شخصية تعيش على خيط رفيع.






