مخرجون يبحثون في مستقبل أميركا

من خطر التكنولوجيا الفالتة إلى الانفراد بالقرار

«ميغالوبوليس» لكوبولا (أميركان زوتروب برودكشن)
«ميغالوبوليس» لكوبولا (أميركان زوتروب برودكشن)
TT

مخرجون يبحثون في مستقبل أميركا

«ميغالوبوليس» لكوبولا (أميركان زوتروب برودكشن)
«ميغالوبوليس» لكوبولا (أميركان زوتروب برودكشن)

رغم أن أحداث فيلم بول توماس أندرسن الجديد «معركة بعد أُخرى» (One Battle After Another) تدور في رحى الثمانينات، واستيحَاءً من أحداثٍ فعليةٍ وقعت في الستينات بطلتها مجموعة ثورية أطلقت على نفسها اسم «وَذر أندرغراوند»، فإنّ الفيلم يتحدّث فعلياً عن أميركا اليوم من خلال أميركا الماضي في فترة رونالد ريغان. توليفة تستند إلى ما حدث لترسم صورة لأميركا اليوم في فترة دونالد ترمب.

هذه الاستعارة للمقارنة بين اليوم والأمس موجودة في الفانتازيا التي قدّمها فرنسيس فورد كوبولا في العام الماضي تحت عنوان «Megalopolis»، حيث يؤسّس المخرج النيّر في أحداث حاضرة ما وقع في الزمن الروماني.

كلا الفيلمين يُحذّران من أميركا تتجه إلى انهيار. «ميغالوبوليس» أكثر وضوحاً في هذا السياق، لكن «معركة بعد أُخرى» لا يتخلّف عن هذه القراءة الحاضرة التي تُحذّر من مستقبل تؤول فيه البلاد صوب الممارسة الأحادية للحكم، الأمر الحاصل اليوم الذي دفع نحو 9 ملايين أميركي قبل أيام إلى الخروج في مظاهرات عمّت المدن الأميركية الكبرى.

توم كروز وراء القناع في «عينان مغلقتان باتساع» (وورنر)

كوبريك وسبيلبرغ والمستقبل

لكنهما ليسا الفيلمين الوحيدين اللذين نظراً إلى المستقبل بعين قلقة. وإن استبعدنا أفلام الكوارث الطبيعية والكوارث الناتجة عن حروب أو أمراض معدية تُبيد البشرية أو تكاد (وهو النوع الأكثر مباشرة وانتشاراً)، فإن الحاصل مجموعة من الأفلام الجادّة في تقديم هذا التحذير.

‫وهي، في هذه القراءة الحالية، تختلف أيضاً عن أفلام الستينات والسبعينات التي تناولت موضوعاتٍ تتعلّق بخطر محدق بالرئاسة الأميركية، مثل «المرشح المنشوري» (The Manchurian Candidate) لجون فرانكنهايمر (1962)، أو تناولت الدولة العميقة التي تُمارس الحكم من وراء ستارٍ داكن، كما في «منظر مختلف» (The Parallax View) لألان ج. باكولا (1974).

هذان الفيلمان ومعهما «كل رجال الرئيس» (All the President’s Men) لباكولا أيضاً (1976) لم تتحدث عن مستقبلٍ مُقبل، بل عن حاضر تلك الأيام، مستخدمة خيالاً جامحاً في «المرشح المنشوري»، وحكاية شبه واقعية في «منظر مختلف»، وحادثة حقيقية في «كل رجال الرئيس».

في عام 1968 أطلق ستانلي كوبريك التحذير الأول (نسبة لما تلاه) في «‪2001: A Space Odyssey‬» ‫‬حيث ستستولي الآلة ذات الذكاء الصناعي على مقدّرات الإنسان، بما في ذلك حكمه وآلية ذلك الحكم. لم يتّضح ذلك إلا بعد أكثر من عقدين على نحوٍ فعلي، لكننا في عام 2001 شهدنا كارثة نيويورك الإرهابية التي لا يزال الحديث يدور حول الجهات الأميركية وغير الأميركية التي خطّطت لها، والتي شوهد فيها جورج بوش الابن، الذي بدا كما لو كان توقّع هذا الحدث.

في العام نفسه قدّم ستيفن سبيلبرغ «A.I: Artificial Intelligence»، الذي هو من كتابة كوبريك، وفيه مستقبلٌ لأميركا منقسمةٌ بين طبقتين: واحدة ثرية، والأخرى من السواد الذين يبحثون عن الترفيه في ميادين شبه رومانية. حتى فيلم كوبريك الأخير «عينان مغمضتان باتساع» (Eyes Wide Shut) 1999، مع توم كروز ونيكول كيدمان في البطولة، حمل حديثاً عن المؤسسات السرّية التي تُدير حياة الأفراد والمجتمعات. بعض النقّاد الأميركيين تحدّثوا عن أن كوبريك إنما يعني المؤسسة الماسونية، وهو أمرٌ محتمل.

جنيفر لورنس في «ألعاب الجوع» (ليونزغيت)

فوق وتحت

ما الذي سيحدث لأميركا إذا انفلت الحبل من يدي الإنسان؟

كان هذا موضوع فيلمٍ آخر لسبيلبرغ، وهو «تقرير الأقلية» (Minority Report). في «ذكاءٍ اصطناعي» تناول مستقبلاً بعيداً لكنه محتملٌ في معظمه (باستثناء النهاية التي تتحدث عن هبوط مخلوقاتٍ غير آدمية من الفضاء الخارجي). أما «تقرير الأقلية» فهو تحديداً عن مستقبل قريب تستطيع فيه الحكومة مراقبة ما يدور والتدخل في حياة أيّ شخص متى أرادت.

إنه التقدّم الذي ينضوي على فاشية السلطة، تماماً كحال سلسلة «Hunger Games»، التي قد تكون مادةً استمتع بها الجمهور السائد بسبب ما تحتويه من مغامرات، لكنها في جوهرها تحذيرٌ من حكومة الصفّ الواحد.

في صميم هذه السلسلة (تألّفت من 5 أجزاء من عام 2012 حتى 2023، وهناك جزءٌ سادس سيُعرض في العام المقبل) أن أميركا أصبحت عبارة عن دولة تضمّ الأثرياء في منطقة محددة، مما يسهّل حكمها. خارج تلك المنطقة تمتد الأراضي التي يسكنها باقي الأميركيين بلا أمنٍ أو وقاية.

السينما الأميركية تُحذّر من انهيار الديمقراطية عبر مرايا الماضي والمستقبل

النخبة التي في المدينة لديها لعبةٌ لتسلية القاطنين فيها، وهي إجراء قتالٍ فردي بين العامّة. هذا الجزء يدخل في إطار الحكاية التي يوفّرها الفيلم لمشاهديه، لكن مفادها هو: أميركا وقد خلت من حكمٍ ديمقراطي.

جديرٌ بالذكر أن فيلم «Don’t Look Up» لمخرجه آدم مكّاي (2023) تحدّث أيضاً عن انفلاتٍ من النوع نفسه. رئيسة الجمهورية تمارس صلاحياتها من دون دراية، وتحت أوامر شخصٍ من خارج الحكم يُدير أكبر مؤسسة تكنولوجية في مجال التواصل الاجتماعي (فكّر في بيل غيتس). وهذا بدوره ليس غريباً أو بعيداً عن الواقع في أحداثٍ تقع في زمن الرئيس السابق جو بايدن.

وبالعودة إلى «ميغالوبوليس»، الذي وفّر مخرجه كوبولا ميزانيّته من ثروته الخاصة (نحو 100 مليون دولار)، فإن الرسالة واضحة: الإمبراطورية الرومانية سقطت بعدما تمادت في الانفراد والفوضى وتهاوي الأخلاق، وهذا، حسب مخرج «العرّاب»، ما سيقع للولايات المتحدة.


مقالات ذات صلة

مخرجون عالميون في حصيلة العام

سينما مخرجون عالميون في حصيلة العام

مخرجون عالميون في حصيلة العام

يقترب العام الحالي من نهايته. المهرجانات الكبرى أُقيمت في مواعيدها وخرج منها الفائز والخاسر. بين هذين الفريقين هناك أيضاً من قدّم أفلاماً جيدة

محمد رُضا (لندن)
سينما «مدينة سمينة»: ستايسي كيتش ملاكم في الحقل (كولمبيا بيكتشرز)

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام رائعة عن الحلم الأميركي الكبير الذي لم يتحقق

جون هيوستون ليس غريباً عن تحقيق تلك الأفلام التي تتحدّث عن ضمور الحلم الكبير بتحقيق الذات والثروة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الكاتب الراحل أحمد عبد الله (حسابه على موقع «فيسبوك»)

حزن بالوسط الفني المصري لرحيل المؤلف أحمد عبد الله

تسبب خبر رحيل المؤلف المصري أحمد عبد الله في حزن بالغ بالوسط الفني في مصر، وكتب العديد من الفنانين منشورات «سوشيالية» مؤثرة تناولت ذكريات جمعتهم بالراحل.

داليا ماهر (القاهرة )
سينما بدأ عرض «أوسكار: عودة الماموث» في صالات السينما السعودية (فوكس سينما)

«أوسكار: عودة الماموث»... أول وحش عربي يقتحم سينما هوليوود

انبثقت فكرة الفيلم من كريم نشام، الذي طرح تصوّراً لعمل عربي يتناول كائناً خيالياً لم يُقدَّم من قبل في السينما العالمية...

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الأمير البريطاني هاري وزوجته ميغان ماركل يحضران مباراة رياضية (رويترز)

بعد 7 سنوات من الانقطاع... ميغان ماركل تعود إلى التمثيل

ذكرت وسائل إعلام، أمس (الأربعاء)، أن الممثلة الأميركية ميغان ماركل زوجة الأمير هاري، ستعود إلى الشاشة الكبيرة بدور صغير في فيلم يتم تصويره في لوس أنجليس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

مخرجون عالميون في حصيلة العام

«فلسطين 36» لماري آن جاسر (ملف مهرجان تورنتو)
«فلسطين 36» لماري آن جاسر (ملف مهرجان تورنتو)
TT

مخرجون عالميون في حصيلة العام

«فلسطين 36» لماري آن جاسر (ملف مهرجان تورنتو)
«فلسطين 36» لماري آن جاسر (ملف مهرجان تورنتو)

يقترب العام الحالي من نهايته. المهرجانات الكبرى أُقيمت في مواعيدها وخرج منها الفائز والخاسر. بين هذين الفريقين هناك أيضاً من قدّم أفلاماً جيدة تراوحت نتائجها بين الربح والخسارة.

للإحاطة بأبرز ما شهده عام 2025 على صعيد المخرجين، لا بد من تقسيم النتائج إلى 4 قوائم، لكل منها تخصصها ومزاياها.

قبل ذلك، لا بد من القول إن هذه القوائم ليست لتقييم الأفلام التي حقّقها هؤلاء المخرجون. الواقع أن أي مخرج نجح في اختراق موقعٍ ما قد يكون أخفق فنياً حتى ولو خطف جائزة كبيرة من مهرجان ما. هذا لم يعد أمراً غير معتاد خلال السنوات العشرين الأخيرة، حيث اختلط الحابل بالنابل في أكثر من مناسبة.

كذلك الحال إذا ما خسر مخرج معركته في المهرجانات والمناسبات السنوية. بعض أفضل ما أُنجز منذ مطلع القرن لم يحقق نجاحاً مهرجانياً، ولا حتى نقدياً في أحوال متعددة، كما في حال «خيط وهمي» (Phantom Thread)، لبول توماس أندرسن، 2018)، و«وداعاً للغة» لجان-لوك غودار (2014)، أو «جوكر» لتود فيليبس (2020).

كايت بلانشت في «أب أم أخت أخ» لجيم جارموش (أنيمال كينغدوم)

مخرجون حققوا أفلاماً مهمّة

هناك مخرجتان عربيتان في هذه اللائحة، هما كوثر بن هنية بفيلمها المدوّي «صوت هند رجب»، وماري آن جاسر في «فلسطين 35». ولا بد من القول إنه على كثرة الأفلام العربية التي عُرضت في مهرجانات دولية عدة، فإن «فلسطين 35» و«صوت هند رجب» قادا الأعمال الناطقة بالعربية إلى مستوى اهتمام عالمي. كلا الفيلمين اعتمد، في المقام الأول، على تمويل أجنبي (مع مساهمة عربية محدودة)، ما يجعل انتماءهما للسينما العربية قائماً على عنصرين: هوية المخرج، واللغة العربية المستخدمة. هذان العنصران لا يحددان انتماء الفيلم بوصفه هوية إنتاجية عربية. كلاهما عن موضوع الساعة: فلسطين، وكلاهما يدخلان منافسات موسم الجوائز الحالي

آخرون في المجال نفسه: بول توماس أندرسن عن «معركة بعد أخرى»، والإسباني أوليڤر لاكس عن «سِرات»، والأميركية كاثلين بيغلو عن «منزل الديناميت»، وغويلرمو دل تورو عن «فرنكشتاين».

هذه الأفلام الأربعة ستؤول إلى ترشيحات الأوسكار والمناسبات السنوية الأخرى («غولدن غلوب»، و«بافتا»، و«جمعية المخرجين الأميركية» وغيرها)، شأنها في ذلك شأن الفيلمين العربيين المذكورين.

السعوديتان شهد أمين وهيفاء المنصور ضمن هذه القائمة (الأولى عن «هجرة»، والثانية عن «المجهولة»)، وإن كانتا في مرحلة انتظار ما سيؤول إليه كل فيلم منهما.

«الأوديسا»، الفيلم المقبل لكريستوفر نولان (يوينڤرسال)

مخرجو الجوائز

بدأ العام بفوز برادلي كوربت بجائزة «غولدن غلوب» عن فيلمه «ذا بروتاليست»، تَبِعه شون باكر بفوزه عن «أنورا». هذان الفيلمان من إنتاج السنة الماضية، وكانت المناسبتان محطتهما الأخيرة.

في «كان» حصد البرازيلي كليبر ميندونزا فيلو جائزة أفضل مخرج عن فيلمه الجيد «العميل السري» The Secret Agent. وفي «ڤينيسيا» نال بني صفدي الجائزة نفسها عن «الآلة المدمّرة» The Smashing Machine.

الإيراني جعفر بناهي حقق نصراً في «كان» عبر «كان مجرد حادثة» (It Was Just an Accident)، عندما خطف السعفة الذهبية. أما جائزة أفضل فيلم في مهرجان «ڤينيسيا» فذهبت إلى جيم جارموش عن «أب أم أخت أخ» (Father Mother Sister Brother)، وهو المخرج الأميركي المستقل الوحيد الذي انتزع جائزة كبرى هذا العام.

المخرجون الخاسرون

هناك عدد كبير من الخاسرين خلال المسابقات الدولية، وكثيرون منهم لم يقدّموا ما يستحق الفوز فعلاً.

قدّم الأميركي ريتشارد لينكلتر فيلمين هذا العام. عرض في «كان» فيلم «موجة جديدة» Nouvelle Vague، وخصّص «ڤينيسيا» لفيلم «قمر أزرق» Blue Moon، ولم يفز في أي منهما.

المخرج المستقل الآخر وس أندرسن دخل سباق «كان» بفيلم «مؤامرة فينيقية» وخرج منه صفر اليدين.

الفرنسي أوليڤييه أساياس لم ينجز ما يُذكر عبر «ساحر الكرملين» (The Wizard of Kremlin)، كما خرج مواطنه فرنسوا أوزون بلا ذكر عندما قدّم نسخة من رواية ألبير كامو «The Stranger». اليوناني يورغوس لانثيموس خسر جولته في «كان» عندما قدّم جديده «بوغونيا» (Bugonia) الفانتازي الداكن.

كذلك لم ينجز المجري لاشلو نيميش (مخرج «ابن شاوول» في 2015) أي نجاح بفيلمه الجديد «يتامى». وهذا كان حال الإيطالي باولو سورنتينو في «النعمة» (La Grazia).

عام 2025 كشف أن الفوز أو الخسارة في المهرجانات لا يحدد قيمة المخرج، فالمشهد السينمائي أوسع من الجوائز

مخرجون ما زالوا على القمّة

هناك خمسة مخرجين لم يقدّموا جديداً هذا العام، لكنهم ما زالوا بين من تعتبرهم هوليوود والعالم كباراً؛ هم: جيمس كاميرون الذي سيعرض الجزء الثالث من «أڤاتار» تحت عنوان (Avatar: Fire and Ashes) في 19 من الشهر المقبل. النجاح التجاري المتوقع كبير، علماً بأن الجزء الثاني حقق إعجاباً نقدياً أقل من الجزء الأول.

دنيس (أو دَني، حسب مولده في كيوبك الكندية) ڤيلنوف، يشتغل على «Dune 3» الذي سيعرض في العام المقبل، وسيتبعه أول فيلم لجيمس بوند يُنتَج أميركياً لحساب مؤسسة «أمازون» التي دفعت مليار دولار لشراء حقوقه من المنتجين السابقين باربرا بروكولي ومايكل ولسون.

كريستوفر نولان الذي ما زال يعيش على زخم نجاحات «أوبنهايمر»، وقد دخل مرحلة ما بعد التصوير لفيلمه الجديد «الأوديسا»، المبرمج للعرض في يونيو (حزيران) المقبل.

وأخيراً مارتن سكورسيزي الذي ينجز للعام المقبل «حطام صقلية» (Shipwrecks of Sicily)، وهو فيلم تسجيلي لم يُحدد موعد عرضه بعد.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام رائعة عن الحلم الأميركي الكبير الذي لم يتحقق

«مدينة سمينة»: ستايسي كيتش ملاكم في الحقل (كولمبيا بيكتشرز)
«مدينة سمينة»: ستايسي كيتش ملاكم في الحقل (كولمبيا بيكتشرز)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام رائعة عن الحلم الأميركي الكبير الذي لم يتحقق

«مدينة سمينة»: ستايسي كيتش ملاكم في الحقل (كولمبيا بيكتشرز)
«مدينة سمينة»: ستايسي كيتش ملاكم في الحقل (كولمبيا بيكتشرز)

FAT CITY ★★★★

* إخراج: ‪جون هيوستون ‬

* الولايات المتحدة (1972)

جون هيوستون ليس غريباً عن تحقيق تلك الأفلام التي تتحدّث عن ضمور الحلم الكبير بتحقيق الذات والثروة. «كنوز سييرا مادري» (The Treasure of the Sierra Madre) عام 1948 ثم «الغابة الإسمنتية» (The Asphalt Jungle) عام 1950 سبقا هذا الفيلم، ونجد اللمَحة نفسها في أفلام أخرى لاحقة له. لكن هذا الفيلم هو الأفضل بينها لجهة تصوير حالة رجلَين طمحا كلّ بمفرده، وانتهيا إلى الجلوس في حانة بلا مستقبل منشود.

إنهما توفي (ستايسي كيتش في دور حياته) وإرني (جِف بردجز). الأول ملاكم سابق خسر مكانته ثم امتنع عن السعي، وبلغ سنّاً لا يستطيع معها إلا تذكّر ماضيه. في أحد المشاهد نراه يعمل في الحقول مقابل 3 دولارات في الساعة. إرني هو شاب مقبل، لديه خامة جيدة ويتوقَّع له شأن كبير في الملاكمة.

لكن لا توفي ينجز حلم العودة، ولا إرني يحقق البداية الموعودة. هذا ليس ضمن قصة مُسَلِّية لهواة أفلام الرياضة (أو لأي فئة من هواة القصص)، بل مُعالَج بلمسات رقيقة وحانية وبشعور تعاطفي إنساني عميق تعبّر عنه اللقطات القريبة والأداء الرائع لكل ممثل في هذه الدراما.

البداية تصوّر أناساً غير معروفين يفترشون أرصفة المدينة ومتسكعين في الأحياء الفقيرة التي تقع الأحداث فيها. أولئك خَدعتهم الحياة فتحوّلوا إلى هياكل. وفي النهاية، هناك رجلان (إرني وتوفي) ينضمّان إلى ركاب من فقدوا أحلامهم. في المدينة السمينة بأحلام من فيها، الكل يتساوى حين يفشل.

THE KILLING ★★★★

* إخراج: ‪ستانلي كوبريك‬

* الولايات المتحدة (1956)

قبل أن يكون هذا فيلماً عن عصابة تخطط للسرقة، فهو بدوره فيلم عن ذلك الحلم الذي لن يتحقق. صحيح أن أبطاله (سترلينغ هايدن، جاي فليبن، تِد دي كورسيكا وآخرون) لديهم أسباب مختلفة لتحقيق الحلم تلتقي تحت مظلة انتزاع ثروة تُحسّن أوضاعهم، فإنهم، بالطريقة التي قام كوبريك بتصويرهم ومنحهم شخصياتهم، يبدون، في معظمهم، يستحقون الإفلات بالغنيمة. أنجز كوبريك هذا الفيلم بعد عامين من قيام أكيرا كوروساوا بإنجاز «راشومون»، واستخدم منهج المخرج الياباني في السرد، حيث يُعاد سرد الأحداث من وجهة نظر شخصياتها، ما يوفّر اختلافاً في عرض الحدث الجامع.

سترلينغ هايدن: حلم الثروة في «القتل» (يونايتد آرتستس).

هايدن هو جوني، خرج من السجن ولتوّه يريد تنفيذ السرقة الأخيرة. يجمع حوله 5 أفراد، اثنان منهم يعملان في ميدان سباق الخيل، وسيسهّلان دخول العصابة إلى غرفة تجميع المال وسرقته. أحدهما (جو سوير) لديه زوجة مريضة تلتزم فراشها في منزل متواضع، والآخر (إليشا كوك جونيور) يريد نيل رضا وحب زوجته المتبرّمة من الفقر الذي تعيش فيه. تتم السرقة، لكن مآلاتها تجسّد ضعف الذات واستحالة تحقيق ذلك الحلم.

ليس الفيلم مصنوعاً لتأييد عصابة تزمع الخروج عن القانون، بل هو عن شخصيات (ليست جميعها إيجابية) تبحث لنفسها عن موقع ما تحت ضوء الشمس.

TUCKER‪:‬ THE MAND AND HIS DREAM ★★★★

* إخراج: فرانسيس فورد كوبولا

* الولايات المتحدة (1988)

حتى «العراب» (في جزئه الثاني على الأخص) هو فيلم عن انهيار الحلم الأميركي، كذلك فيلم كوبولا الرائع الأخير «ميغالوبوليس». «تاكر: الرجل وحلمه» يجسّد محاولة هذا المخرج الصادق في نقده، منح المشاهد عملاً محدداً في هذا الاتجاه

يتصدّى الفيلم لسيرة حقيقية تقع في الأربعينات من القرن الماضي: برستون تاكر (جيف بردجز) طمح لصنع سيارة مصممة على نحو مختلف عن السيارات الأميركية الأخرى (فورد، شيفروليه، دودج، وسواها)، تتميّز بالحداثة والطواعية وعناصر السلامة. سريعاً ما تُثير تصاميمه وطموحه مخاوف تلك الشركات التي تنبري لمحاربته. يحاول دخول حرب التنافس مسلّحاً بثقته وإيمانه بالمشروع، ووثوقه ببلوغ الغاية إذا ما تجاوز العراقيل الكثيرة التي تحيط به. لكن هذه تتغلّب عليه، ويعلن إفلاسه وخسارة طموحه.

جِف بردجز في «تاكر: الرجل وحلمه» لكوبولا (باراماونت بيكتشرز)

لا يقل مستوى شغل كوبولا هنا عن أي فيلم آخر حقَّقه. يعرف قيمة الصورة وعناصرها، ويستغل المشاهد قبل تصويرها لتنقل حسّاً جمالياً موحَّد الأسلوب حال تنفيذها.

ما يختلف فيه عما سبق هو أنه يتحدث عن حكاية وقعت بالفعل، وأنه ليس ضرورياً أن يكون الحالمون أشخاصاً من محدودي الدخل. «تاكر» يشترك مع «مدينة سمينة» لهيوستون و«القتل» لكوبريك في الحديث عن اصطدام الأحلام بجدار الفشل الذي لا يعرف صغيراً أو كبيراً. مثلهما أيضاً، هو عن أميركا ولو من زاوية مختلفة.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


«أوسكار: عودة الماموث»... أول وحش عربي يقتحم سينما هوليوود

بدأ عرض «أوسكار: عودة الماموث» في صالات السينما السعودية (فوكس سينما)
بدأ عرض «أوسكار: عودة الماموث» في صالات السينما السعودية (فوكس سينما)
TT

«أوسكار: عودة الماموث»... أول وحش عربي يقتحم سينما هوليوود

بدأ عرض «أوسكار: عودة الماموث» في صالات السينما السعودية (فوكس سينما)
بدأ عرض «أوسكار: عودة الماموث» في صالات السينما السعودية (فوكس سينما)

في تجربة فريدة تمزج بين الخيال العلمي والإبهار البصري، يُقدّم المخرج هشام الرشيدي فيلم «أوسكار: عودة الماموث»، وهو أول فيلم عربي ينضمّ إلى فئة أفلام الوحوش العملاقة التي اشتهرت بها هوليوود من خلال أعمال مثل «غودزيلا» و«كينغ كونغ»، لكنه يأتي هذه المرّة برؤية عربية خالصة تعكس طموح صنّاع السينما في المنطقة إلى منافسة الإنتاجات العالمية بأسلوب يحمل هوية محلّية أصيلة.

الماموث يعود إلى الحياة في قلب القاهرة

تدور أحداث الفيلم في إطار من الخيال العلمي الممزوج بالأكشن، وتتناول عودة الماموث –الكائن العملاق المُنقرض– إلى الحياة نتيجة تجارب علمية في مجال التعديلات الجينية، ليجد نفسه فجأة ينمو وسط القاهرة. هناك، تتسارع الأحداث في شوارعها بين الدمار والمطاردة والعلماء الساعين للسيطرة على الكائن العملاق.

يمتدّ الفيلم على مدار 110 دقائق من التشويق والإثارة، ويعتمد في 90 في المائة من مَشاهده على المؤثّرات البصرية التي تولَّت تنفيذها شركة «ترند VFX»، مقدّمةً تجربة غير مسبوقة في السينما العربية لجهة مستوى الجودة والتقنية، مما تطلّب وقتاً وجهداً استثنائيَيْن لإنجاز العمل.

ويؤكد المخرج هشام الرشيدي لـ«الشرق الأوسط» أنّ «أوسكار: عودة الماموث» هو تجربة عربية طَموحة تُحتَسب لمصلحة صنّاعها: «كان هدفنا إنجاز فيلم عربي بمواصفات عالمية يُوازي ما نشاهده في هوليوود، وإنما بهويتنا وقيمنا. أردنا إثبات أننا نستطيع صناعة وحش عربي في السينما».

من فكرة جريئة إلى واقع بصري ضخم

انبثقت فكرة الفيلم من كريم نشام، الذي طرح تصوّراً لعمل عربي يتناول كائناً خيالياً لم يُقدَّم من قبل في السينما العالمية. تولَّى كتابة السيناريو حامد الشراب بمشاركة عماد شرار وأبو صاب عسكر، واستغرق تطوير القصة عاماً كاملاً، قبل الدخول في مرحلة التصوير التي امتدَّت أكثر من عامين بسبب تعقيد المَشاهد واعتمادها الكبير على تقنيات الغرافيك.

لاعب الخفّة السعودي أحمد البايض خلال العرض الخاص للفيلم في جدة (رِدْ سي مول)

من الماموث الكرتوني إلى الماموث العربي

يُعدّ فيلم «أوسكار: عودة الماموث» أول عمل عربي يُقدّم الماموث في قالب واقعي وحركيّ، بعدما اعتاد الجمهور رؤيته في الأعمال الكرتونية شخصيةً مُسالمةً وودودةً، أشهرها شخصية «ماني» في سلسلة أفلام العصر الجليدي (Ice Age).

«ماني» شارك في مغامرات مُشوّقة مع حيوانات أخرى في بيئة العصر الجليدي، جامعاً بين الكوميديا والعاطفة، وهي السّمات التي استعادت حضورها في فيلم «أوسكار» من خلال تقديم الماموث العربي أيضاً بطابع طيب وإنساني رغم قوّته الجسدية.

مُشاركة سعودية مؤثّرة وأداء لافت

يبرز في الفيلم حضور سعودي لافت من خلال مشاركة لاعب الخفّة السعودي الشهير، أحمد البايض، في أول مواجهة له أمام كاميرا السينما بدور شخصية أجنبية قتالية. ويصفه المخرج بأنه اختيار مثالي للدور نظراً إلى لياقته الجسدية وطوله وصوته القوي وأدائه المتمكّن، قائلاً: «أحمد البايض دخل عالم الأكشن بثقة. أداؤه يوصل إحساس القوة والانضباط، وكان عنصر جذب حقيقياً في المَشاهد القتالية».

كما شارك في الفيلم الفنان السعودي مؤيد طيب، إلى جانب نخبة من النجوم العرب، منهم أحمد صلاح حسني، وهنادي مهنا، ومحمد ثروت، ومي القاضي، وعزت زين، ومحمود عبد المغني.

البطل الخفي وراء الوحش

وخلال العرض الخاص للفيلم في سينما «فوكس» بجدة، بحضور طاقم العمل، أشاد هشام الرشيدي بدور شركة «ترند VFX» التي تولَّت تنفيذ المؤثرات البصرية والصوتية بالكامل، مشيراً إلى أن النجاح يعود بشكل كبير إلى جهودها: «الشركة كانت شريكاً حقيقياً في الحلم. عملت على التفاصيل الدقيقة جداً من حركة الماموث إلى الصوت والظلّ، والنتيجة كانت مذهلة».

رؤية عربية لعصر سينمائي جديد

ويختم الرشيدي حديثه بالتأكيد أنّ «أوسكار: عودة الماموث» هو مجرّد البداية لسلسلة من المشروعات العربية الكبرى التي ستجمع صنّاع السينما من السعودية ومصر: «نحن نبني صناعة جديدة. هذه خطوة أولى، والآتي أقوى».

أما الفنان محمد ثروت، فيصف الفيلم بأنه «تجربة غير مألوفة في السينما العربية»، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «عودة الماموث في قلب القاهرة فكرة جريئة ومجنونة في الوقت عينه. في الفيلم حركة ودراما وتكنولوجيا على أعلى مستوى».