رغم أن أحداث فيلم بول توماس أندرسن الجديد «معركة بعد أُخرى» (One Battle After Another) تدور في رحى الثمانينات، واستيحَاءً من أحداثٍ فعليةٍ وقعت في الستينات بطلتها مجموعة ثورية أطلقت على نفسها اسم «وَذر أندرغراوند»، فإنّ الفيلم يتحدّث فعلياً عن أميركا اليوم من خلال أميركا الماضي في فترة رونالد ريغان. توليفة تستند إلى ما حدث لترسم صورة لأميركا اليوم في فترة دونالد ترمب.
هذه الاستعارة للمقارنة بين اليوم والأمس موجودة في الفانتازيا التي قدّمها فرنسيس فورد كوبولا في العام الماضي تحت عنوان «Megalopolis»، حيث يؤسّس المخرج النيّر في أحداث حاضرة ما وقع في الزمن الروماني.
كلا الفيلمين يُحذّران من أميركا تتجه إلى انهيار. «ميغالوبوليس» أكثر وضوحاً في هذا السياق، لكن «معركة بعد أُخرى» لا يتخلّف عن هذه القراءة الحاضرة التي تُحذّر من مستقبل تؤول فيه البلاد صوب الممارسة الأحادية للحكم، الأمر الحاصل اليوم الذي دفع نحو 9 ملايين أميركي قبل أيام إلى الخروج في مظاهرات عمّت المدن الأميركية الكبرى.

كوبريك وسبيلبرغ والمستقبل
لكنهما ليسا الفيلمين الوحيدين اللذين نظراً إلى المستقبل بعين قلقة. وإن استبعدنا أفلام الكوارث الطبيعية والكوارث الناتجة عن حروب أو أمراض معدية تُبيد البشرية أو تكاد (وهو النوع الأكثر مباشرة وانتشاراً)، فإن الحاصل مجموعة من الأفلام الجادّة في تقديم هذا التحذير.
وهي، في هذه القراءة الحالية، تختلف أيضاً عن أفلام الستينات والسبعينات التي تناولت موضوعاتٍ تتعلّق بخطر محدق بالرئاسة الأميركية، مثل «المرشح المنشوري» (The Manchurian Candidate) لجون فرانكنهايمر (1962)، أو تناولت الدولة العميقة التي تُمارس الحكم من وراء ستارٍ داكن، كما في «منظر مختلف» (The Parallax View) لألان ج. باكولا (1974).
هذان الفيلمان ومعهما «كل رجال الرئيس» (All the President’s Men) لباكولا أيضاً (1976) لم تتحدث عن مستقبلٍ مُقبل، بل عن حاضر تلك الأيام، مستخدمة خيالاً جامحاً في «المرشح المنشوري»، وحكاية شبه واقعية في «منظر مختلف»، وحادثة حقيقية في «كل رجال الرئيس».
في عام 1968 أطلق ستانلي كوبريك التحذير الأول (نسبة لما تلاه) في «2001: A Space Odyssey» حيث ستستولي الآلة ذات الذكاء الصناعي على مقدّرات الإنسان، بما في ذلك حكمه وآلية ذلك الحكم. لم يتّضح ذلك إلا بعد أكثر من عقدين على نحوٍ فعلي، لكننا في عام 2001 شهدنا كارثة نيويورك الإرهابية التي لا يزال الحديث يدور حول الجهات الأميركية وغير الأميركية التي خطّطت لها، والتي شوهد فيها جورج بوش الابن، الذي بدا كما لو كان توقّع هذا الحدث.
في العام نفسه قدّم ستيفن سبيلبرغ «A.I: Artificial Intelligence»، الذي هو من كتابة كوبريك، وفيه مستقبلٌ لأميركا منقسمةٌ بين طبقتين: واحدة ثرية، والأخرى من السواد الذين يبحثون عن الترفيه في ميادين شبه رومانية. حتى فيلم كوبريك الأخير «عينان مغمضتان باتساع» (Eyes Wide Shut) 1999، مع توم كروز ونيكول كيدمان في البطولة، حمل حديثاً عن المؤسسات السرّية التي تُدير حياة الأفراد والمجتمعات. بعض النقّاد الأميركيين تحدّثوا عن أن كوبريك إنما يعني المؤسسة الماسونية، وهو أمرٌ محتمل.

فوق وتحت
ما الذي سيحدث لأميركا إذا انفلت الحبل من يدي الإنسان؟
كان هذا موضوع فيلمٍ آخر لسبيلبرغ، وهو «تقرير الأقلية» (Minority Report). في «ذكاءٍ اصطناعي» تناول مستقبلاً بعيداً لكنه محتملٌ في معظمه (باستثناء النهاية التي تتحدث عن هبوط مخلوقاتٍ غير آدمية من الفضاء الخارجي). أما «تقرير الأقلية» فهو تحديداً عن مستقبل قريب تستطيع فيه الحكومة مراقبة ما يدور والتدخل في حياة أيّ شخص متى أرادت.
إنه التقدّم الذي ينضوي على فاشية السلطة، تماماً كحال سلسلة «Hunger Games»، التي قد تكون مادةً استمتع بها الجمهور السائد بسبب ما تحتويه من مغامرات، لكنها في جوهرها تحذيرٌ من حكومة الصفّ الواحد.
في صميم هذه السلسلة (تألّفت من 5 أجزاء من عام 2012 حتى 2023، وهناك جزءٌ سادس سيُعرض في العام المقبل) أن أميركا أصبحت عبارة عن دولة تضمّ الأثرياء في منطقة محددة، مما يسهّل حكمها. خارج تلك المنطقة تمتد الأراضي التي يسكنها باقي الأميركيين بلا أمنٍ أو وقاية.
السينما الأميركية تُحذّر من انهيار الديمقراطية عبر مرايا الماضي والمستقبل
النخبة التي في المدينة لديها لعبةٌ لتسلية القاطنين فيها، وهي إجراء قتالٍ فردي بين العامّة. هذا الجزء يدخل في إطار الحكاية التي يوفّرها الفيلم لمشاهديه، لكن مفادها هو: أميركا وقد خلت من حكمٍ ديمقراطي.
جديرٌ بالذكر أن فيلم «Don’t Look Up» لمخرجه آدم مكّاي (2023) تحدّث أيضاً عن انفلاتٍ من النوع نفسه. رئيسة الجمهورية تمارس صلاحياتها من دون دراية، وتحت أوامر شخصٍ من خارج الحكم يُدير أكبر مؤسسة تكنولوجية في مجال التواصل الاجتماعي (فكّر في بيل غيتس). وهذا بدوره ليس غريباً أو بعيداً عن الواقع في أحداثٍ تقع في زمن الرئيس السابق جو بايدن.
وبالعودة إلى «ميغالوبوليس»، الذي وفّر مخرجه كوبولا ميزانيّته من ثروته الخاصة (نحو 100 مليون دولار)، فإن الرسالة واضحة: الإمبراطورية الرومانية سقطت بعدما تمادت في الانفراد والفوضى وتهاوي الأخلاق، وهذا، حسب مخرج «العرّاب»، ما سيقع للولايات المتحدة.






