«عيون مغلقة على اتساعها»... تحفة كوبريك الأخيرة

كَشف الفيلم عن أقنعة نرتديها لنختبئ وراءها

 توم كروز وراء القناع (وورنر)
توم كروز وراء القناع (وورنر)
TT

«عيون مغلقة على اتساعها»... تحفة كوبريك الأخيرة

 توم كروز وراء القناع (وورنر)
توم كروز وراء القناع (وورنر)

لم يكن من المفترض أن يختم ستانلي كوبريك حياته المهنية المديدة، التي بدأت عام 1952 وانتهت في 1999، بفيلم «عيون مغلقة على اتساعها» (Eyes Wide Shut)، إذ كان لديه مشروعات عدة غير منجزة في أدراج مكتبه. أحدها كان «ذكاء اصطناعي» (AI: Artificial Intelligence) المقتبس عن رواية قصيرة لبرايان ألديس، كما كان على أهبّة البدء بنفض الغبار عن مشروع قديم بعنوان «أوراق أريانية» (Aryan Papers) المستوحى من رواية للويس بَيغلي بعنوان أكاذيب زمن حرب (Wartime Lies).

آل مشروع «ذكاء اصطناعي» إلى ستيفن سبيلبرغ، كما هو معلوم، فحقّقه بعد عام واحد من وفاة كوبريك (الذي توفي في 1999 قبل أشهر قليلة من عرض فيلمه).

أما «أوراق أريانية»، فيذكر بول دانكن في كتابه ستانلي كوبريك: الأفلام الكاملة (2003)، أن المخرج خطط لتحقيقه قبل 10 سنوات من وفاته، لكنه انتقل لإخراج «عيون مغلقة على اتساعها» مع توم كروز وزوجته آنذاك نيكول كيدمان.

وكحال معظم أعمال كوبريك السابقة، فإن «عيون مغلقة على اتساعها» كان هو الآخر مستوحى من رواية أدبية عنوانها قصة حلم للكاتب النمساوي آرثر شنيتسلر، وكما اعتاد كوبريك، امتلك حق تطوير القصة وتعديلها كما يشاء.

كوبريك خلال التصوير (وورنر)

رسالة غير احتفائية

هذا فيلم غريب عن قصة حب يعيشها زوجان قريبان جسدياً، بعيدان روحياً. كلٌّ منهما يتخيل أن شريكه شخص آخر، ويشعر بالرغبة نحوه بناءً على هذا التخيُّل. لا نرى خيانة فعلية من أي منهما، لكن الفيلم يتجلّى في ليلة يقضيها كروز في حفل كبير.

يجول فيه مرتدياً قناعاً، كذلك تجول الكاميرا لتعرض مجتمعاً سرياً لا روحانيات فيه ولا أخلاقيات. مجتمع يؤمن بعلاقات لا تقوم على الحب، وتُقام في حفلاته طقوس قتل عنيفة.

هناك إيحاءات خلال ذلك الفصل الكبير من الفيلم تُلمِح إلى أن الماسونية هي المقصودة. بعض المحللين رأوا أن كوبريك كان ماسونياً، أو على الأقل متأثراً بفلسفتها. لكن هذا يتناقض مع الإدانة الواضحة التي تحملها تلك المشاهد ومضامينها.

الراجح إذن أن كوبريك أراد تصوير الحفل بهذه الطريقة ليبعث رسالة غير احتفائية، تتجاوز الماسونية لتدين قوى مختلفة تقف وراء ستائر العالم، تمتلك قدرة على السيطرة الخفية.

ويليام (كروز) يمر بهذه التجربة ثم يعود إلى زوجته، مع احتمال أن كل ما مرّ به في تلك الليلة لم يكن سوى وهم وفانتازيا - لكن هذا أمر آخر.

نيكول كيدمان وتوم كروز في مشهد من الفيلم (وورنر)

تمهيدات فلسفية

أفلام كوبريك، منذ «لوليتا» (1962) و«دكتور سترينجلوف أو كيف تعلمت التوقف عن القلق وأحببت القنبلة» (1964)، تبدأ بمقدمات ذات بعد فلسفي، ليست كغيرها من مقدمات الأفلام، بل تهيئة فكرية لما سيُكشف لاحقاً.

نجد هذا في 2001: أوديسا الفضاء (1968)، حيث تبدأ القصة بصراع قبيلتين من القردة على الماء، قبل الانتقال إلى حكاية فضائية.

وفي «اللامع» (The Shining)، حيث ينتقل الكاتب (جاك نيكولسون) من عالم يعرفه إلى عالم مخيف وغامض.

وفي «سترة معدنية كاملة» (Full Metal Jacket)، حيث تبدأ القصة بمقدمة طويلة عن المجند الذي ينتحر بسبب عنف المؤسسة العسكرية، قبل أن ننتقل إلى حرب في ڤيتنام.

هذه النماذج تعكس أفكاراً فلسفية وسياسية واضحة، وتتقاطع مع ما يعيشه ويليام في «عيون مغلقة على اتساعها» من انتقال إلى اكتشافات محظورة.

عين ويليام هي عين المخرج، وهي أيضاً عين المشاهد، إذ يلج ما يريده المخرج له أن يراه، وفق رحلة البطل الاستكشافية.

في هذا الفيلم، هناك محطات تمهّد لدخول ويليام المنطقة المحظورة. زوجته أليس تعترف له بأنها تخيّلت نفسها تخونه مع ضابط في البحرية.

ينطلق ويليام من هذا الاعتراف في عالم من الخيال، ثم الرغبة في عيش تلك الحالة متجسدة.

وهذا يعزز فرضية أن الفيلم، بمعظمه، هو حلم ويليام، وليس واقعاً يقدّمه كوبريك. بمعنى آخر، ما نشاهده هو انعكاس لرغبات بطل الفيلم وليس واقعه، ما يعني أن الحفل الماسوني (أو ما يشبهه) ليس بدوره سوى وسيلة استخدمها كوبريك لنقد عالمنا المعاصر. ذاك العالم الذي يؤثر فينا دون أن نعيه.

حقيقتان

يدعم هذا الطرح ما تقوله أليس لزوجها وهما في المتجر برفقة ابنتهما، وهما يشتريان حاجيات عيد الميلاد، إذ تقول: «أنا واثقة من أن حقيقة ليلة واحدة، أو حتى العمر كله، لا يمكن اعتبارها الحقيقة بعينها».

(تستخدم أليس كلمتي Reality وTruth للتأكيد على الفرق بينهما).

بكلمات أخرى: من يستطيع أن يؤكد أن ويليام خاض فعلاً ما اعتقد أنه عاشه؟

هنا يلعب القناع (المتوفّر في الحفل كما في مشاهد خارجه) دوره في فك لغز هذا الفيلم.

فهو رمز للمزج بين الحقيقة والخيال.

أليس هي القوة الخفية وراء رجل كان يظن نفسه القوة الفعلية.

القناع هو طريقته في خداع نفسه والاعتقاد بأنه شخص آخر.

إنه القناع الذي نرتديه جميعاً لأن أعيننا، كما يقول كوبريك، «مغلقة... على اتساعها» عن الحقيقة.


مقالات ذات صلة

«نتفليكس» تكشف أسرار غواصة «تيتان» المنكوبة

يوميات الشرق الغوص في الهلاك (رويترز)

«نتفليكس» تكشف أسرار غواصة «تيتان» المنكوبة

أصدرت «نتفليكس» أول إعلان تشويقي لفيلمها الوثائقي الجديد حول كارثة غواصة «أوشن غيت» التي راح ضحيتها 5 أشخاص خلال رحلة إلى حطام سفينة «تايتانيك».

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما «عائشة لا تستطيع الطيران بعيداً» (مهرجان «كان»)

الأفلام العربية في «كان»... فرصة فوز لم يتحقق

تعتمد السينمات العربية، أكثر من أي وقت مضى، على عرض إنتاجاتها في المهرجانات الدولية.

محمد رُضا (كان)
سينما «المصيطبة» (فيستيڤال سكوب)

شاشة الناقد: بطلات تحت سطح الحياة

المصيطبة - فيلم قصير يستحق الإعجاب، تسرد فيه المخرجة بصوتها ذكرياتها عن منطقة «المصيطبة» في العاصمة اللبنانية بيروت

محمد رُضا (كان)
يوميات الشرق نجوى فؤاد تحدثت عن مشوارها الفني (حسابها بموقع «فيسبوك»)

نجوى فؤاد لـ«الشرق الأوسط»:لا أبحث عن العمل فقط بل دور يليق باسمي وعمري

حظيت الفنانة المصرية نجوى فؤاد بتعاطف كبير من متابعيها، بعد تعرضها لأزمة صحية تفاقمت خلال الأيام الماضية.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق النجم الأميركي توم كروز (أ.ب)

توم كروز يرغب في الاستمرار بالتمثيل حتى سن الـ100

أكد الممثل الأميركي توم كروز أنه يرغب في مواصلة صناعة الأفلام حتى يبلغ المائة من عمره، لكنه لا يريد أن يصبح «آخر نجم سينمائي عظيم».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الأفلام العربية في «كان»... فرصة فوز لم يتحقق

«عائشة لا تستطيع الطيران بعيداً» (مهرجان «كان»)
«عائشة لا تستطيع الطيران بعيداً» (مهرجان «كان»)
TT

الأفلام العربية في «كان»... فرصة فوز لم يتحقق

«عائشة لا تستطيع الطيران بعيداً» (مهرجان «كان»)
«عائشة لا تستطيع الطيران بعيداً» (مهرجان «كان»)

تعتمد السينمات العربية، أكثر من أي وقت مضى، على عرض إنتاجاتها في المهرجانات الدولية.

في السنوات الـ20 الأخيرة، ازداد عدد المعروض منها في «كان»، و«ڤينيسيا»، و«برلين»، و«كارلوڤي ڤاري»، و«لندن»، و«تورنتو»، و«لوكارنو»، والقائمة طويلة.

السبب الواضح هو الرَّغبة في تبوُّؤِ نجاحٍ جوهريٍّ يستفيد منه الفيلم ومَن فيه، وما يُمثِّله في دعم المسيرة، وتأسيس المكانة، والشهرة الفردية للعاملين فيه. وكذلك في إبراز دور الدولة التي وُلد فيها مشروع المخرج، حتى لو كان التمويل آتياً من الخارج، كما بات الحال غالباً.

هي عملية يمتزج فيها الطُّموح الفردي بالمؤسساتي، والفني بالتجاري.

أفلام «نورة» لتوفيق الزايدي، و«وجدة» لهيفاء المنصور، و«ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلا، وأُخرى سواها، سارت على هذا الخط الرَّفيع محققة رواجاً جماهيرياً في الغرب، ونقدياً في كل مكان آخر.

«سماء بلا أرض» (مهرجان «كان»)

سبب خفي

الأفلام العربية منذ السبعينات وما بعدها، حظيت أيضاً بحضورٍ متعدّد، وكثيرٌ منها شقَّ طريقه إلى مهرجان «كان» وغيره من المهرجانات الدولية.

لكن السبب الخفي وراء هذا التوجّه، في الماضي والحاضر، يعود إلى ضيق رقعة الإنتاج العربي في الأسواق العربية.

فقد باتت تكلفة إنتاج الفيلم اليوم أعلى بكثير ممّا كانت عليه في السابق؛ إذ تقترب ميزانية الفيلم الصغير أحياناً من مليون دولار، بينما يتجاوز الفيلم الكبير هذا الرقم بسهولة.

السوق العربية لا تضمن استعادة تكلفة الفيلم الصغير (لأن أحداً لا يراه)، ولا الفيلم الكبير (كون الإنتاجات التجارية محدودة في أسواقها باستثناء المصرية).

مع هذا الوضع، لا يتَّجه الإنتاج العربي ليطلب المعونة المالية من الدول الأوروبية فقط، بل يعتمد عليها بوصفها فرصة للوصول إلى المهرجانات لا يمكن تفويتها.

«كعكة الرئيس» (مهرجان «كان»)

مضامين عربية

استقبل مهرجان «كان» العام الحالي، أفلاماً عربية متنوِّعة المصادر. مجازياً، تُسمّى الأفلام المُمولة من الغرب أفلاماً عربية، لكن الواقع هو أن ما هو عربي مُحدَّد بالإخراج واللغة والموضوع، وهذا ليس كافياً ما دام التمويل الرئيس ليس عربياً.

يجد المخرج العربي نفسه بحاجة إلى مظلَّة دولية ليُنجز فيلمه، ويعرضه عالمياً في المهرجانات أولاً، ومن ثَمَّ في الأسواق، إذا ما أُتيح له ذلك، وهو سيتوجَّه لأي بلد أجنبي يؤمِّن له هذا الهدف.

ما شاهدناه هنا من أفلام لا يؤكد ما سبق قوله فقط، بل ينتمي أيضاً إلى طروحات متعدِّدة جميعها مهمَّة، لكن الناتج يتفاوت فنياً. كان طبيعياً أن تتوجَّه بعض هذه الطروحات صوب السياسة.

فيلم «كعكة الرئيس» لحسن هادي، الذي قُدّم باسم العراق والولايات المتحدة (حيث التمويل الفعلي)، يطرح حكاية تقع أحداثها في «عراق صدّام حسين».

نرى صوره وتماثيله، وهو حاضر في طول الحكاية وعرضها، التي تدور حول فتاة صغيرة يُطلب منها تحضير كعكة بمناسبة عيد ميلاد الرئيس، وذلك في الوقت الذي يعيش فيه الناس فوضى تلك الفترة.

أما الفيلم السويدي - الدنماركي - الفنلندي - الفرنسي «نسور الجمهورية» لطارق صالح، ففيه عنصر تسوية حسابات عالقة مع النظام العراقي السابق. الفارق أن فيلم صالح ينتقد الحكم الحالي والسلطات، عوض انتظار رحيلها.

«نسور الجمهورية» نظرة خارجية من مكان آمن لحالٍ لا تطاله الرقابة المصرية (على عكس «كعكة الرئيس» المُرحَّب به داخل العراق).

في الفيلم المصري (فعلياً) «عائشة لا تستطيع الطيران بعيداً» لمراد مصطفى، الذي يتمحور حول مدبرة منزل سودانية، يبدأ الفيلم بها وهي في القاع، وينتهي بها وهي أسفله.

النقد هنا يبقى على أرضٍ اجتماعية بحتة لا دخل لها بالمؤسسات الرسمية.

هناك فيلم آخر عنوانه «سماء بلا أرض» (Promis le ciel) للمخرجة التونسية أريج السحيري (سبق لها أن أخرجت «تحت أشجار التين» قبل 3 أعوام).

تقول البطاقة إن الفيلم تونسي - قطري - فرنسي، لكن مع غياب التفاصيل لا نستطيع سوى التخمين بأن غالبية التمويل الأساسي لهذه الدراما الأنثوية تم مقابل تأمين «كنال بلوس» (Canal+) الفرنسية غالبية الميزانية.

«سماء بلا أرض» فيلم رقيق الحاشية من بدايته إلى نهايته. حواره الغالب فرنسي، كون بطلاته من كوت ديڤوار يعشن ويعملن في تونس.

اختيار موضوعات تسمح للفيلم الحديثَ بالفرنسية أمرٌ آخر منتشر في أفلام مغاربية.

خفي

لا يحتلّ الفن في هذه النماذج حضوراً بارزاً؛ فالاختلاف يكمن في أسلوب المعالجة. ففيلم طارق صالح «نسور الجمهورية» يتّبع معالجة سردية تنتمي إلى «النوع» (Genre)، في حين يتَّخذ «كعكة الرئيس» لحسن هادي، وكذلك فيلم «سماء بلا أرض»، منحى سردياً حكائياً. أما «عائشة لا تستطيع الطيران بعيداً» لمراد مصطفى، فهو محاولة لخلق فيلم فني، لكن النية شيء والتنفيذ شيء آخر.

لا يجب أن يغيب عن البال أن هذا المهرجان هو المناسبة الـ50 لفوز فيلم «مفكرة سنوات الجمر» للمخرج الجزائري محمد الأخضر حمينة بالسعفة الذهبية (سيُعرض بنسخة مُرمَّمة بعد ظهر اليوم، الجمعة).

هذا فيلم كان يمكن أن يُدرَّس ويُستفاد منه لناحية عناصر الحكاية، وكيفية تنفيذ المضمون، كما من جهة أسلوب عمله، لكن غالبية العاملين في الوسط اليوم لا يكترثون للرجوع بضع خطوات إلى الأمس.