كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

جسّدت مآسي البلد على مدى 49 سنة

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
TT

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)

بينما تقصف الطائرات الإسرائيلية مناطق لبنانية عدّة وتدمّر بلدات وضواحي، وتُغير على المدن صغيرة وكبيرة، لا يسعُ المرء إلا ضمّ هذه الفترة الحاسمة التي يمر بها لبنان إلى فترات ومراحلَ عاشها هذا الوطن المكبّل منذ نحو نصف قرن. هذا إذا ما عفونا عما سبق ذلك من مراحل صعبة أخرى وإن لم تكن بهذه الحدّة.

أفلام أولى

انطلقت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 وازدادت شراسة بعد أشهر قبل أن تتحوّل إلى منوال حياة لنحو 16 سنة. خلالها وبعدها كان من الطبيعي للسينما أن تصوّر تلك الحرب من زوايا مختلفة. هي مجرد تسجيل وتوثيق في أفلام، ودراميات منتشرة على جانبي خط التماس في أفلام أخرى. بطبيعة الحال انتمى معظمها للتعبير عن الأسى والمُصاب وكيف أن شعب بلدٍ واحد تشرذم سياسياً وعمد إلى السّلاح لإثبات أن الآخر يجب أن يُمحى.

المخرج جورج شمشوم أنجز فيلماً وثائقياً طويلاً بعنوان «لبنان لماذا». العنوان نفسه يحمل حزناً أكبر من السؤال المطروح عبره. صُوّر على جانبي الخط الفاصل بين الفُرقاء وجاء، في نسخته الأولى غير المعدّلة، عاكساً لرغبة المخرج تسجيلَ الحقائق بحياد.

معارك حب (موڤنتو فيلمز)

على بُعدٍ يسير حقّق الرّاحل رفيق حجّار «الملجأ» (في مطلع الثمانينات) ليصفَ وقعَ الحربِ على أبرياء مسلمين ومسيحيين. نظرة حيادية أخرى تحميها الغاية الإنسانية التي تبنّاها الفيلم.

بعد ذلك ازداد عددُ الأفلام التي تداولت تلك الحرب حتى - وربما خصوصاً - من بعد نهاية سنواتها المريرة. من أبرز أعمال تلك الفترة «زنّار النار» لبهيج حجيج تدور قصّة حول أستاذ مدرسة يواجه أزمتين حادتين، واحدة شخصية وعاطفية، والأخرى أزمة الحرب الواقعة.

الأزمة تتبدّى كذلك عبر تطلّعات فتاة تعيش جوّ عائلتها المسيحية في الفيلم الأول لدانيال عربيد «معارك حب»، تناولتها من زوايا مختلفة المخرجة مي المصري في «يوميات بيروت»، و«أحلام المنفى»، و«أطفال شاتيلا»، وهي مجموعة من أعمال حققتها وزوجها الراحل جان شمعون، تناولت الوضع اللبناني من خلال المأساة الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية التي، للحقيقة، قلّما تباعدت فعلياً خلال نصف قرن من الزمان بدءاً بعمليات اغتيال شخصيات لبنانية وفلسطينية عدّة في الستينات وما بعد.

بين بغدادي وعلوية

قبل ذلك بأعوام، قاد مخرجان لبنانيان قطار الحديث عن لبنان كأزمة عيش وأزمة حرب. المخرجان هما برهان علوية، ومارون بغدادي. كلاهما رحل. الأول في المنفى، والثاني خلال زيارة لبيروت آتٍ من فرنسا حيث كان انتمى إلى هيكل أعمالها.

في «بيروت اللقاء» لعلوية (1982)، حكاية لقاءٍ لا يتم بين مسلم ومسيحية. الظروف المانعة هي تلك الحرب المجنونة. وجهة نظر الفيلم هي ما تعنيه الحرب من انكسارات نفسية وعاطفية. ليس أن حيدر (هيثم الأمين)، وزينة (نادين عاقوري)، عاشقان قبل أو خلال تلك الحرب، بل كلاهما ينشد معرفة الآخر لعله يعرف نفسه أكثر.

الرغبة في المعرفة قادت مارون بغدادي لتحقيق فيلمين عن هذا الموضوع هما، «بيروت يا بيروت» (1975)، و«حروب صغيرة» (1982). الأول تعبيرٌ عن الشعور الداخلي الذي كان ينتاب المخرج حيال التركيبة الطائفية والاجتماعية. بطلته (ميراي معلوف) تسعى لمعرفة الآخر، في حين صديقها المثقف (جوزيف بو نصّار)، محافظٌ يؤمن بالتباعد وليس مهتماً بمعرفة ذلك لآخر. كلاهما من عائلتين مسيحيّتين، والآخر لا بد أن يكون الطّرف المسلم الذي يؤيد القضية الفلسطينية والعدالة الاجتماعية والعروبة.

في فيلمه اللاحق «حروب صغيرة» (الأفضل حرفياً من سابقه)، نقل بغدادي المعادلات نفسها إلى وطيس الحرب الأهلية. النماذج التي تعبّر عن مواقف هي ثابتة: المرأة التي تنشد المعرفة. المسلم الذي يبحث عن مستقبل، والمسيحي الملتزم.

زنار النار (بورتريه أند كومباني)

سجل حساب

من الأفلام التي طَرحت إفرازات الموقف بعد الحرب وعلى نحو جيد ومحسوب، فيلم زياد الدويري «القضية 23» (2017). أحداثه تقع بعد الحرب بسنوات، بيد أن بعض أسبابها لا تزال قائمة: طوني (عادل كرم)، رجل من المهجَّرين منذ أن اكتسح المقاتلون الفلسطينيون واليساريون منطقة الدامور خلال الحرب الأهلية، يعيش الآن في بيروت (الشرقية)، ويعمل في كاراجه ويشحن بطارياته السياسية بخطب زعماء اليمين اللبناني حاملاً ضغينة ضد الفلسطينيين. لذلك، ما إن سمِع لهجة رجل فلسطيني يقف تحت شُرفة منزله حتى رمى عليه الماء.

الفلسطيني هو ياسر (كامل الباشا)، يعمل وكيلَ عمّالٍ في البلدية، ويشرف على تنفيذ إصلاحات في الشارع حيث يعيش طوني، الذي يُخبر ياسر في مطلع المشادة بينهما «يا ليت شارون قضى عليكم جميعاً». التجاذب يُدلي إلى مشادة، والقضية تُرفع إلى المحكمة بين شخصين؛ الأول ما زال يحمل مبادئه السياسية، والآخر يحاول أن يحافظ على موقعه ليعيش. في مرافعات طوني حديثٌ عن أن الفلسطيني يُعامَل في لبنان أفضل من معاملة اللبناني في بلده. لكن المحكمة حكمت لصالح الفلسطيني، خصوصاً أنه مُتعاقد رسمياً مع مؤسسة الحكومة للقيام بما عُهد إليه من أعمال.

هذا واحد من سجلِّ الحسابات المفتوحة التي ما زال الوضع السياسي يعجّ بها إلى اليوم. لكنه ليس السجِّل الوحيد. على سبيل المثال حظت قضية المخطوفين والمفقودين ببعض الأفلام التي عالجت ذلك الجرح الغائر. ربما دفنته لدى بعضهم الأيام وصولاً إلى الحال الراهن، لكنّ الأحياء الذين عانوا من غياب أفراد عائلاتهم ما زالوا يتذكرون ويتألمون.

أفضلُ تصوير لذلك ورد في فيلم «طرس... الصعود إلى المرئي» لغسان حلواني (2019). تسجيلي مشغول بوصفه نبشاً فنياً وموضوعياً فريداً في جدار الذاكرة.

في صميمها، هذه نماذج من كثير من الأفلام التي صاحبت تلك الحرب الأهلية، ومن ثَمّ تابعتها أو أتت بجديد مُستنتج منها وصولاً إلى وضع جديد حاضر سيُنتج بدوره أفلاماً أخرى.


مقالات ذات صلة

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق وصيفات العروس يبتهجن في حفل زفافها بالفيلم (القاهرة السينمائي)

«دخل الربيع يضحك»... 4 قصص ممتلئة بالحزن لبطلات مغمورات

أثار فيلم «دخل الربيع يضحك» الذي يُمثل مصر في المسابقة الدولية بمهرجان «القاهرة السينمائي» في دورته الـ45 ردوداً واسعة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من مهرجان «القاهرة السينمائي» (رويترز)

أفلام فلسطينية ولبنانية عن الأحداث وخارجها

حسناً فعل «مهرجان القاهرة» بإلقاء الضوء على الموضوع الفلسطيني في هذه الدورة وعلى خلفية ما يدور.

محمد رُضا (القاهرة)

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
TT

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)

يُقيم «مهرجان القاهرة» الذي بدأ دورته الـ45 يوم أول من أمس، ندوة خاصة عن المخرج والمنتج مصطفى العقاد الذي كان رحل في مثل هذه الأيام ضحية عملية إرهابية في عمّان قبل 19 سنة.

مُخرج «الرسالة»، عن نشأة الإسلام، و«عمر المختار»، عن مناضل في سبيل استقلال بلاده، كانا، ولا يزالان، أكبر إنتاجين عربيين- عالميين عرفته السينما.

المناسبة تستحق الاهتمام أولاً لإعادة التّذكير بمخرج عربي اخترق الجدار الصّامت حول تاريخ العرب والإسلام في فيلميه «الرسالة» (1976)، و«أسد الصحراء» (1980). وثانياً، لأنه المخرج العربي الوحيد الذي نجح في تحويل أحداث تاريخية عربية إلى الشاشة بنظام 70 مللم بانافيجين كما أفلام البريطاني ديڤيد لين، وفي مقدّمتها «لورنس العرب» (1962) الذي جمع ممثلين عالميين (أنطوني كوين، وبيتر أو تول، وأليك غينس، وجاك هوكينز، وكلود رينز) إلى جانب عمر الشريف وجميل راتب من مصر.

بعد عرضه الخاص في «مهرجان القاهرة» سينطلق في عروض عربية عديدة في جدّة، والدوحة، ودبي، والقاهرة والسعي جارٍ لتوسيع الرقعة عربياً وعالمياً.

مصطفى العقاد يتوسط عبد الله غيث وأنطوني كوين خلال تصوير «الرسالة» (فالكون إنترناشيونال)

خبرات ومواهب

لم يكن سهلاً على الممثلين الذين ظهروا في فيلمي العقاد تسليمَ مقادير مهنتهم آنذاك لمخرج عربي غير معروف، كلّ ما كان لديه لتقديمه - لجانب طموحه - أنه اشتغل مساعد إنتاج وإخراج في بعض المحطات التلفزيونية الأميركية. لكن العقاد فاز بالثقة سريعاً مع احتمال أن يكون الموضوعان المثاران في هذين الفيلمين عنصرَي جذب إضافي. الأول دار حول رسالةٍ (عن الدين الإسلامي) لم يتعرّف عليها الغرب في فيلم سابق، بل بقيت مودوعة في دراسات أكاديمية وكتب. الثاني ثورة ليبية ضدّ الاستعمار الإيطالي صاغها العقاد بعناية وتوازن. وراعى فيه جودة التقديم أيضاً.

«الرسالة» تم بنسختين منفصلتين واحدة عربية أمّ تمثيلها بعض أفضل الخبرات المصرية والمغاربية والسورية واللبنانية، وواحدة بالإنجليزية وكلاهما كانا نجاح عمل مدروس رغم صعوبة تنفيذه.

الفيلم الثاني حكى أن هناك ثورات أخرى وقعت خلال احتلال أجزاءٍ من العالم العربي وأن الموت الجماعي حاذى سواه ممّا حول العالم.

ما إن وقّع أنطوني كوين وإيرين باباس على العقد المبرم لهما، حتى تداعى الآخرون أمثال مايكل أنسَارا وداميان تومس ومايكل فورست.

لاحقاً، عندما خرج «الرسالة» إلى عروض عالمية شملت بلداناً عربية وغربية عديدة، حتى صار من الأسهل جذب نجوم آخرين تقدَّمهم، مرّة ثانية، أنطوني كوين في دور عمر المختار. حينها قال كوين لهذا الناقد في مقابلة: «لم أكن أعرف شيئاً عن التاريخ العربي. العقاد فتح عينيّ على هذا التاريخ المجهول بفيلميه، وبرؤية ثاقبة، وكيفية إنتاج مناسب لفيلم تاريخي كبير. بصفتي ممثلاً أرى أن كلّ شيء كان في مكانه الصحيح».

«المسألة الكبرى» (المؤسسة العامة للسينما والمسرح)

محاولات غير مجزية

لا يمكن إغفال حقيقة أن الأفلام التاريخية - الدينية العربية كان لها حضور سابق لـ«الرسالة». نتحدّث عن «واإسلاماه» للأميركي أندرو مارتون الذي أُنتج في مصر سنة 1961 وخاض بطولته كلٌ من لبنى عبد العزيز (في دور شجرة الدر)، وأحمد مظهر ورشدي أباظة ويوسف وهبي ومحمود المليجي وكاريوكا وعماد حمدي وفريد شوقي.

قبله بعشر سنوات أقدم إبراهيم عز الدين على تحقيق «ظهور الإسلام» بإمكانات محدودة مع كوكا وعماد حمدي وأحمد مظهر وسراج منير بين آخرين. ثم بعد 10 سنوات على ظهور «واإسلاماه» أنجز صلاح أبو سيف «فجر الإسلام». الذي استفاد من خبرة أبو سيف ولو أنه في النهاية بقي إنتاجاً محلياً للسوق العربية.

هناك أيضاً «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين (1963)، الذي وظّف فيه المخرج أفضل طاقاته وطواقمه ما ساهم، بجانب اسمه المعروف، في انضمام هذا الفيلم إلى باقي ما ذُكر في عالمٍ عربيٍّ كان يتطلّع إلى مثل هذه الأفلام الترويجية لموضوعاتها باهتمام كبير يناسب كل ذلك الجهد الذي شهدته هذه الأعمال.

أدركت السينما العراقية أن هناك طريقاً لإنتاجات تصبو للعالمية بموازين ونُظم إنتاج برهن العقاد أنها ممكنة. في هذا الصّدد حقّق المخرج صلاح أبو سيف «القادسية» في عام 1981 بطلب من الحكومة خلال الحرب العراقية الإيرانية. الفيلم جاء كبير الإنتاج كما أُريد له أن يكون، ركيكاً في نواحيه الفنية، ودعائياً فيما تبقى.

مؤسسة السينما العراقية التي أنتجته كانت التفتت سنة 1980 إلى المخرج المصري الآخر توفيق صالح، وأصرّت على أن يُنجِز «الأيام الطويلة»، الذي عاد إلى تاريخٍ أقرب ليسرد جزءاً من سيرة حياة الراحل صدّام حسين.

في عام 1983 حقّق العراقي محمد شكري جميل «المسألة الكبرى» (1983) عن ثورة العراقيين ضد الاحتلال البريطاني. جلب المخرج مدير التصوير جاك هيلديارد، الذي كان عمل مع العقاد على فيلميه، والممثل أوليڤر ريد الذي كان اشترك في بطولة «أسد الصحراء»، لكن هذه الأفلام بقيت محدودة الانتشار ولم تتجاوز حدود العرض في بعض الدول العربية.

ما حدّ من انتشار هذه الأفلام عالمياً هو معضلة إنتاجات عربية كثيرة حينها، هي سطو «القضية» على المعالجة الفنية، هذا إلى جانب أن العقاد فَهِم وهضم قواعد الإنتاجات العالمية أكثر من سواه.