كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

الإقبال عليها اليوم أفضل ممّا مضى

جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
TT

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل يحمل عنوان «كلاسيكيات ڤينيسيا».

لا يُستهان بالإقبال الجماهيري، ولا بين النقاد أيضاً، على هذه الأفلام. الجمهور المحتشد لها هو من أهم أجزاء الصورة الشاملة لما يعرضه المهرجان من أفلام (أكثر من 300 فيلم في شتى برامجه وعروضه).

ما هو خاص بالنسبة للعروض الكلاسيكية أنها عاشت ليُعاد عرضها على الشاشات الكبيرة عوض استسهال البعض بالبحث عنها في المنصات المختلفة أو على الإنترنت لمشاهدتها بأحجام صغيرة وبنسخ قد لا تكون ناصعة ومرممة كتلك التي يوفرها المهرجان للحاضرين.

المخرج ناغيسا أوشيما (مهرجان ڤينيسيا السينمائي)

منتخبات مهمّة

سبعة أفلام تستوقفنا بين منتخبات ڤينيسيا العام الحالي (27 فيلماً) هي «الليل» (La Notte) لمايكل أنجلو أنطونيوني (إيطاليا) و«الرجل الذي ترك وصيّته في فيلم» (The Man Who Put His Will on Film) لناغيسا أوشيما (اليابان)، و«انعطاف نهر» (Bend of a River) لأنتوني مان (الولايات المتحدة)، و«الحرارة الكبيرة» (The Big Heat) لفريتز لانغ (الولايات المتحدة)، و«البشرة الناعمة» (The Soft Skin) لفرانسوا تروفو (فرنسا)، و«فتاته فرايدي» (His Girl Friday) لهوارد هوكس (الولايات المتحدة)، بمنأى عنها، بيد أنها في القسم نفسه، فيلم «مارون يعود إلى بيروت» لفيروز سرحال (إيطاليا)، و«الليل» (1961) هو أحد تلك الأفلام التي تمتعت بجمهور عريض عندما أنجزه أنطونيوني في ذلك الحين. أحد أسباب نجاحه أنه على عكس فيلمه السابق لهذا الفيلم، وهو «المغامرة» (L‪’‬Avventura) تحدث عن موضوعه بوضوح بدل إبقائه رهينة التساؤلات كما كانت عادته. ليديا (جين مورو) متزوّجة من جيوڤاني (مارشيللو ماستروياني) وعلاقتهما الحالية تمر بفتور. يؤمّان حفلة ساهرة. هو ينجذب لامرأة أخرى (مونيكا ڤيتي)، وهي تستمتع بالحديث مع رجل آخر (بيرنهارد فيكي)، حين عودتهما للبيت يدركان بأن عليهما استعادة وحدتهما.

بنبرة مختلفة أسس الياباني ناغيسا أوشيما حكاية فيلمه «الرجل الذي ترك وصيّته في فيلم» (1970). هو دراما لغزية عن طالب لديه يملك كاميرا فيلم يسرقها منه شاب آخر. هذا السارق ينتحر. العلاقة بين ما صوّره الطالب الأول وكيف ترك تأثيره في المنتحر يمرّ بقناة من الغموض في فيلم لم يعمد أوشيما لنوعه بعد ذلك. والغموض لا يتوقف عند انتحار السارق، بل يستمر مع انتحار صاحب الكاميرا، أو احتمال ذلك لأن المخرج لم يشأ التحديد في فيلم ممنهج ليكون أقرب إلى التجريب.

ملصق المهرجان

تروفو وهوكس

مثّل جيمس ستيوارت حفنة من أفلام الوسترن التي أخرجها أنتوني مان و«انعطاف نهر» (1952) واحد منها. كلها جيدة بمستوى واحد من الحرفة والمهارة. الحكاية هنا هي لرجل قبل مهمّة إيصال شحنة من البضائع مقابل مال. شريكه في الرحلة (آرثر كنيدي) يميل إلى بيع البضائع لمجموعة تعرض مبلغاً كبيراً من المال لشرائها ما يسبّب التباعد بين الرجلين اللذين كانا صديقين إلى ذلك الحين. الفيلم مشحون بالمواقف الحادة والتمثيل الجيد من الجميع (بمن فيهم روك هدسون وجولي أدامز وآخرون في أدوار مساندة).

ممثلو فيلم «الحرارة الكبيرة»، ومنهم غلين فورد، ولي مارڤن، وغلوريا غراهام، جيدون كذلك في هذا الفيلم البوليسي (1953) الذي يلمع فيه فورد تحرياً قُتلت زوجته خطأ، بتفجير سيارة كان سيقودها. المسؤولية تتعارض ورغبته بالانتقام فيتخلى عن الأولى. غراهام هي المرأة التي يضربها القاتل لي مارڤن ويلقي على وجهه أبريق ماء يغلي فيشوّهها. ممتاز بين أفلام الفترة البوليسية.

ما سبق يشي بتنوّع كبير ليس في حدود اختلاف أسلوب التعبير الفني لكل فيلم، بل للكيفية التي يتحكّم فيها المخرج بمفرداته وقواعده السينمائية للوصول إلى أعلى مستوى من حسن التنفيذ.

هذا التنوّع الشديد يتوالى مع اختيار فيلم فرنسوا تروفو «البشرة الناعمة» (1964) الذي ينتمي إلى أعماله الدرامية ذات المنوال الرومانسي، يحكي قصّة ناشر يعيش حياة هانئة مع زوجته، لكن ذلك لا يمنعه من خديعتها مع مضيفة طيران التقى بها. هذا ليس من أفضل أعمال تروفو.

الفيلم السابع المختار هنا، «فتاته فرايدي» (1940) هو كوميديا. واحد من تلك الأفلام التي تميّزت بمهارة المخرج هوارد هوكس في الكتابة وفي إخراج هذه الكوميديات العاطفية. في البطولة كاري غرانت في دور الصحافي الذي يسعى لإثناء زوجته (روزيلاند راسل) عن طلب الطلاق. غرانت لديه نموذج لا يتغير في التمثيل وهو هنا يمارسه بنجاح مثالي.

العالمون سينتبهون إلى أن الحبكة ليست بعيدة عن الفيلم الكلاسيكي الآخر «الصفحة الأولى» (The Front Page) الذي أُنجز مرّتان الأولى سنة 1931 على يد لويس مايلستون، والثانية الفيلم الأشهر الذي حقّقه بيلي وايلدر سنة 1974.

في غير مكانه

«مارون يعود إلى بيروت» (2024) ليس كلاسيكياً، ما يُثير التساؤل في اختياره بهذا القسم. بالتالي هو الوحيد بين ما يرد هنا الذي لم تُتح لنا بعد مشاهدته قبل وصوله إلى هذا المهرجان. تسجيلي عن حياة وأفلام المخرج مارون بغدادي التي بدأت سنة 1975 بفيلم «بيروت يا بيروت». لم يكن فيلماً جيداً، لكن بغدادي اشتغل على نفسه وحقّق ما هو أفضل في لبنان وفرنسا.

ما تبقى ليس سهلاً الحديث عنه في المجال المحدود هذا، لكنه يحتوي على أفلام مهمّة أخرى من الهندي غيريش كاسارايڤالي («الشعائر»، 1977)، ومن روبن ماموليان «دم ورمال» (الولايات المتحدة، 1941)، ورينيه كليمو («ألعاب ممنوعة»، 1952)، وآخرين لهم باع ونجاح في تحديد هويات سينما الأمس الزاخرة.


مقالات ذات صلة

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان البندقية (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

تواصل «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» حضورها بالمهرجانات الدولية من خلال مشاركتها في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي بين 28 أغسطس و7 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (البندقية)
سينما «بالرغم من» ‫(مهرجان ڤينيسيا السينمائي)

شاشة الناقد: فيلم افتتاح «ڤينيسيا» 81 مبهر وموحش

يختلف جمهور اليوم عن جمهور 1988 عندما خرج ما بات الآن الجزء الأول من هذا «بيتلجوس بيتلجوس». آنذاك كان الفيلم جديداً في الفكرة والشخصيات

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)
يوميات الشرق منة شلبي (حسابها على «فيسبوك»)

منة شلبي تكشف مواصفات فتى أحلامها

قالت الفنانة المصرية منة شلبي إن الزواج نصيب وأقدار، وأوضحت أنها «لا تحب القيود وتعشق الحرية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «وعاد مارون الى بيروت» وثائقي يتناول حياة المخرج الراحل مارون بغدادي (فيروز سرحال)

«وعاد مارون إلى بيروت» يشارك في «بينالي البندقية»

اتصلت المنتجة سينتيا شقير بالمخرجة فيروز سرحال، وسألتها عن إمكانية إحياء الذكرى الـ30 لرحيل المخرج مارون بغدادي، وجاء ردّها مترجَماً بوثائقي يحكي مسيرته.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق الفيلم ناقش تأثير الخلافات الأسرية على الأطفال (الشركة المنتجة)

«ساندوتش عيال»... معالجة درامية للخلافات الزوجية تفتقد الطموح

محامٍ شاب يدخل في خلافات مع زوجته لاختلاف طباعهما وتفكيرهما بعد سنوات من الارتباط، لكن الخلاف يطول ابنهما الوحيد الذي لم يعد راغباً في العودة إلى المنزل

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

فيلم آخر يفترض وقوع حرب أهلية في الولايات غير المتحدة

من «حرب أهلية»: خراب المدن ( Films A24)
من «حرب أهلية»: خراب المدن ( Films A24)
TT

فيلم آخر يفترض وقوع حرب أهلية في الولايات غير المتحدة

من «حرب أهلية»: خراب المدن ( Films A24)
من «حرب أهلية»: خراب المدن ( Films A24)

قبل 4 أشهر انطلق للعروض التجارية عالمياً، وبنجاح، فيلم «حرب أهلية Civil War»، الذي افترض أن حرباً بين فريقين أميركيين اشتعلت بعنف وقسمت البلاد إلى معسكرين، كما حصل في عام 1861 عندما وقعت الحرب الأهلية الأميركية الفعلية واستمرت 4 سنوات، ذهب ضحيتها مئات الألوف.

حروب افتراضية

هذا الأسبوع ينطلق فيلم آخر بعنوان «لعبة حرب War Game» ليتناول الموضوع نفسه. ماذا لو شهدت الولايات المتحدة حرباً أهلية جديدة؟ ما الذي سيحدث؟ كيف سيتصرّف أهل الحكم في البيت الأبيض والحكومة؟

في الحقيقة لم يسعَ فيلم أليكس غارلاند «حرب أهلية»، 2024، للافتراض. عالج موضوعه بوصفه حقيقةً محتمَلة الوقوع. لم يتطرّق مثلاً إلى كيف ولماذا، ولم يُجب عن أسئلة وتوقعات، بل استبدل بكل ذلك الحديث عن بذل سيدتين ورجلين من الصحافة جهدهم لنقل الحقيقة كما يجب لها أن تُنقل، وهذا يعني دخول المعترك وتحمّل المخاطر، بل دفع الأرواح فديةً لعمل ينقل إلى الجالسين أمام أجهزتهم التلفزيونية (أو شاشات الكومبيوتر)، ما يبذله الآخرون من مشاق ومخاطرَ لنقله.

«لعبة حرب» يفترض، بذلك يعالج المسألة من زاوية مختلفة، الفارق أن الفيلم الأول ينحى جانباً بموضوعه ولو أن هذا يعني توقعاً محدوداً لقيام حرب بين الأميركيين لأسباب سياسية.

«كابتن أميركا: حرب أهلية» (مارڤل استوديوز)

سياسيون ممثلون

الفيلم الجديد، للمخرجَين توني غربر وجيسي موس، يضع تصوّراً افتراضياً لنشوب تلك الحرب إثر انتخابات الرئاسة. ما إن يجلس الرئيس المنتخب في البيت الأبيض، ومن قبل أن يسخن مقعده الوثير تحته، يفتح منافسه جبهة ضدّه. لكلّ فريق أعوان ولكلّ منهما ذخيرته من السلاح والقوى العسكرية.

كلا الفيلمين استنتج احتمالات هذا الوضع من بين حيثيات فعلية مطروحة. تحديداً، صعود نجومية دونالد ترمب واحتمالات خسارته مجدداً في الانتخابات المقبلة، والإشاعات التي سادت أن حرباً أهلية ستقع بين بعض الولايات ضد ولايات أخرى. نوع من المواجهة المسلحة بين الديمقراطيين والجمهوريين.

في «لعبة الحرب» يضعنا الفيلم في المعضلة السياسية مباشرةً ومن خلال شخصيات سياسية وأمنية فعلية من بينها، ويسلي كلارك، ودوغ جونز، وستيف بولوك (الذي يؤدي دور رئيس الجمهورية المنتخب جون هوثام)، ولويس كولديرا. هناك ممثلون غير مشهورين بينهم روبرت ستريكلاند، مُزجوا بين الشخصيات الفعلية. ستريكلاند يلعب دور الرئيس الذي خسر الانتخابات بفاصل دقيق، لكنه ليس من النوع الذي يقبل النتيجة. الحرب ولا الهزيمة.

بعض المراجع من بينها (IMDb) عدّت الفيلم تسجيلياً. هو في حقيقته طبخة تجمع المنهج التسجيلي مع التفعيل الدرامي. من ناحية، لا يمكن اعتبار فيلم يقع في أي لحظة مستقبلية عملاً تسجيلياً، ناهيك بأن يكون وثائقياً أيضاً. لكن استخدامه شخصيات حقيقية (بعضها ظهر في برامج ومقابلات تلفزيونية متحدّثاً عن الأمن والسياستين المحلية والدّولية، ولعب دوره محافظاً أو حاكم ولايات) يجعله نوعاً من الافتراض المبرمج ليبدو تسجيلاً.

مجلس حرب وهمية في «لعبة حرب» (أنونيموس كونتنت)

بلا حكاية... بلا نتيجة

يتداول المجتمعون في غرفة العمليات التابعة للبيت الأبيض الوضع فيما لو حاولت المعارضة المسلحة انتزاع الحكم بالقوّة. تستمر المداولات 6 ساعات حاسمة، كان المطلوب خلالها وضع خطّة للقضاء على التّمرد المحتمَل. وضع المخرجان الخطة الزمنية لأجل إحداث تشويق وتوتر وهما ينجحان في ذلك إلى حدٍّ كافٍ، لكن كل شيء يتبخر في النهاية نظراً لأن القرار النهائي هو أن على الحكم أن يبقى كما هو وأن الحل هو للقيادة بصرف النظر عن أي مشكلة أمنية أو سياسية تقع.

مسرح الأحداث محدود بمكان واحد غالباً. هذا يجعل الفيلم يبدو أقرب إلى لعبة مسرحية لا كلعبة حرب أهلية. هم «ذي غود غايز»، الرجال الصالحون. الآخرون يوصفون بـ«المتطرفين». لكننا إذ نتابع فيلماً يبحث في هذه الاحتمالات نتابع لعبة فعلية كتلك التي يلعبها الأطفال على طريقة «أبطال وحرامية». فالمسألة الواضحة للجميع أن لا شيء جاداً يقع وأن الجانبين يمنحان المشاهد افتراضاً مُمثّلاً لا حقيقة له ولا يأتي بجواب شافٍ.

هو فيلم خالٍ من القصّة الفعلية يقوم على مبدأ «ماذا لو؟»، وهو مبدأ جيد ما دام هناك جواب عليه أو، على الأقل، عمق في الطرح. هذا على صعيد المادة التي يسردها الفيلم، أمّا على صعيد الحرفة نفسها فالوضع أفضل. حتى التمثيل من غير المحترفين يشارك في جعل الفيلم ترفيهاً صغيراً.

يجب ألا يغيب عن البال أن فكرة العودة إلى حرب كبيرة تقع في الولايات المتحدة في الزمن الحاضر وردت في أكثر من فيلم (وبعض الأعمال التلفزيونية)، كما حال «كابتن أميركا: حرب أهلية»، الذي أخرجه الأخوان أنطوني وجو روسو في غمار سلسلة الكوميكس الشهيرة. في هذا الفيلم الذي عُرض في عام 2016 فإن تلك الحرب نشبت بسبب الأمم المتحدة (هناك منصّات أميركية حالياً تعدّ الأمم المتحدة وكالة ذات مكائد ومآرب ضد الولايات المتحدة)، وقسّمت أبطال الكوميكس إلى فريقين كلٌّ في اتجاه مضاد للآخر.