كيف أظهرت حرب غزة مصطلحات «ملتبسة»؟

من بينها «الجحيم» و«التطهير» و«خط أحمر»

فلسطينيون يتجمعون في موقع غارة إسرائيلية على منزل (رويترز)
فلسطينيون يتجمعون في موقع غارة إسرائيلية على منزل (رويترز)
TT
20

كيف أظهرت حرب غزة مصطلحات «ملتبسة»؟

فلسطينيون يتجمعون في موقع غارة إسرائيلية على منزل (رويترز)
فلسطينيون يتجمعون في موقع غارة إسرائيلية على منزل (رويترز)

على امتداد أكثر من 16 شهراً منذ بدء حرب غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، برزت مصطلحات عدة على السطح مثل «الجحيم» و«التطهير» و«خط أحمر» استخدمها سياسيون، وتداولتها وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، متصدرة العناوين الرئيسة رغم ما تحمله من معانٍ «ملتبسة». ودارت حرب مصطلحات بموازاة الحرب على الأرض، حاول كل طرف من خلالها فرض سرديته للأحداث.

الدكتور محمد شومان، عميد كلية الإعلام بالجامعة البريطانية في القاهرة، رأى في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «حرب غزة كانت فضاءً لصراع خطابات متعددة، ولكل خطاب منطقه وأهدافه وآليات تبريره». وأضاف أن «مفهوم الثأر كان من بين أهم المفاهيم والمصطلحات المسكوت عنها في الحرب الأخيرة».

وتابع شومان أن «إسرائيل، الشعب والحكومة، مارست الثأر بقوة وعنصرية، وبقوة تفوق هجوم 7 أكتوبر 2023»، مشيراً إلى أن «ممارسة الثأر، وهو فعل مارسته كل من الولايات المتحدة والدول الغربية أيضاً، تمثَّلت بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ليصبحوا موضوعاً للقتل والتدمير، ويصبحوا كلهم حركة (حماس)».

شومان ذكر أن «الثأر كان المبرر غير المعلن للإبادة ولفكرة التهجير وللصمت الأميركي بشأن (حل الدولتين)... والثأر كان من سكان غزة، فمع أن السكان لم يهاجموا إسرائيل، فإنه استُخدم كآليةِ عنفٍ كي لا يجرؤ الفلسطينيون على تكرار الفعل».

نازحون نزحوا إلى الجنوب بأمر إسرائيل خلال الحرب يشقُّون طريقهم عائدين إلى منازلهم في شمال غزة (رويترز)
نازحون نزحوا إلى الجنوب بأمر إسرائيل خلال الحرب يشقُّون طريقهم عائدين إلى منازلهم في شمال غزة (رويترز)

«الثأر أيضاً كان مفهوماً أساسياً عند حركة (حماس)»، وفق شومان، إذ لحظ أن «الثأر عند الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، كان يعني شرعية نفي الآخر، وأن يكون الصراع مباراة صفرية... إما أن أكون أو لا أكون». ومن ثم شرح أن «فكرة التهجير هي امتداد للثأر والرغبة في نفي الآخر... وأن إسرائيل الحكومة ضحَّت بأرواح غالبية الأسرى من أجل ممارسة الثأر، وفي المقابل اختطفت (حماس) الإسرائيليين في إطار محاولتها للثأر من إسرائيل». وخلص إلى القول: «الثأر هو آلية نتنياهو للبقاء في الحكم... وآلية بقاء (حماس) في حكم غزة».

حقاً، سلطت حرب غزة الضوء على مصطلح «التهجير»، الذي جرى تداوله مع بداية الحرب، قبل أن يكتسب زخماً إضافياً عقب طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب مقترحه للسيطرة على قطاع غزة وتحويله إلى «ريفييرا الشرق الأوسط» بعد تهجير سكانه، وهو ما قوبل برفض دولي وعربي واسع. وتزامناً مع انتشار مصطلح «التهجير»، بدأ الترويج لمفاهيم «ملتبسة» بشأنه عبر الحديث عن «التهجير الطوعي» بهدف جعله أكثر قبولاً لدى الرأي العام.

مصطلح آخر استُخدم بدلالات عدة، وفي مناسبات مختلفة طوال الحرب، هو «خط أحمر»، الذي استُخدم لتأكيد رفض التهجير. إذ قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 «التهجير خط أحمر. لم ولن نقبل أو نسمح به». وفي الشهر التالي، عدّت «هيئة الاستعلامات في مصر»، عبر إفادة رسمية، محور فيلادلفيا «خطاً أحمر ينضم إلى سابقه، الذي أعلنته مصر مراراً، وهو الرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين قسراً أو طوعاً إلى سيناء، وهو ما لن تسمح القاهرة لإسرائيل بتخطيه». ثم أُعيد استخدام تعبير «خط أحمر» مراراً، وبرز على السطح من جديد مع تصدر «مخطط التهجير» المشهد مرة أخرى.

تجمّع للنازحين في منطقة النصيرات بأمل العودة إلى منازلهم شمال القطاع (أ. ف. ب.)
تجمّع للنازحين في منطقة النصيرات بأمل العودة إلى منازلهم شمال القطاع (أ. ف. ب.)

في لقاء مع «الشرق الأوسط» أشار أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتور أحمد يوسف أحمد، إلى أن «واحداً من أبرز المصطلحات التي فرضتها حرب غزة، كان مصطلح (حيوانات بشرية)، الذي روّجت له دوائر إعلامية وسياسية إسرائيلية واستخدمته لوصف المنتمين لحركة (حماس)... ويعكس هذا المصطلح قمة العنصرية والتحيّز في النظر للمقاومة».

الدكتور أحمد تطرق إلى مصطلحات أخرى برزت على الساحة مثل «الإبادة الجماعية» و«التطهير العرقي»، لا سيما مع الدعوة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في هذا الصدد. ولفت أستاذ العلوم السياسية المصري إلى مصطلحات أخرى عدّها «دليلاً على مراوغة الجانب الإسرائيلي»، وأبرزها «المناطق الآمنة». ثم أوضح: «المناطق الآمنة من المفترض أنها مناطق يلجأ إليها المدنيون في وقت الحرب، لكن إسرائيل استخدمتها لاستهداف المدنيين، وكانت هناك وقائع لقتل مدنيين وهم في طريقهم إلى المناطق التي أعلنتها تل أبيب آمنة».

«أيضاً جاء مصطلح (الهدوء المستدام) بديلاً مراوغاً لمصطلح (وقف إطلاق النار)»، وفق أحمد، الذي أشار إلى أن «الهدوء المستدام لا يعني بالضرورة انعدام العمليات العسكرية من آن لآخر، وبالتالي، فهو مختلف عن وقف إطلاق النار».

وتابع الدكتور أحمد أن مصطلح «معلومات استخباراتية موثوقة» كان من المصطلحات التي جرى الترويج لها «لتبرير الأفعال الإسرائيلية، ولقد عمدت إسرائيل إلى استخدام هذا التعبير لتبرير معظم عملياتها ضد أهداف مدنية طوال حرب غزة، وكان مبرِّرها المزعوم معلومات استخباراتية موثوقة بوجود إرهابيين».

هذا، ورغم حجم الالتباس في المعاني الذي حمله كثير من المصطلحات المُتداولة إعلامياً إبان حرب غزة، رأى أحمد أن «إسرائيل سكّت مصطلحات وحاولت الترويج لها، لكنها لم تستطع إقناع الرأي العام العالمي بها»، مدلّلاً على ذلك «بموجة الاحتجاجات الداعمة لفلسطين التي شهدتها دول عدة حول العالم».

جدير بالملاحظة أن مصطلحات كـ«التطهير» و«الجحيم» كانت من بين المعاني «المُلتبسة» التي جرى تداولها إبان الحرب، بحسب مراقبين، لا سيما أنها وردت على لسان الرئيس ترمب الذي «هدَّد بجحيم في الشرق الأوسط ما لم يُطلَق سراح الأسرى قبل توليه مهام منصبه رئيساً للولايات المتحدة»، من دون أن يوضِّح ما هو الجحيم، وكيف سيحدث.

من جهة أخرى، في معرض كلام ترمب عن مشروعه لقطاع غزة، قدَّم مقترحاً لـ«تطهير» غزة، حسب تعبيره، داعياً مصر والأردن لاستقبال الفلسطينيين من القطاع من أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط، ليغدو «التطهير» مرادفاً لـ«التهجير».

في أي حال، «حرب المصطلحات» في القضية الفلسطينية ليست وليدة الحرب الأخيرة.

وللعلم، تاريخياً لعبت اللغة والمصطلحات دوراً كبيراً في «التحشيد الجماهيري»، حتى إن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وينستون تشرشل، وُصف بأنه «حشد اللغة الإنجليزية وأرسلها إلى الميدان»، إبان الحرب العالمية الثانية، تعقيباً على استخدامه الفصاحة اللغوية في إقناع المعارضة بدخول الحرب ضد ألمانيا.


مقالات ذات صلة

ارتفاع عدد مستخدمي «بلوسكاي» إلى 30 مليوناً

إعلام جاي غرابر (غيتي)

ارتفاع عدد مستخدمي «بلوسكاي» إلى 30 مليوناً

الانتقادات الكثيرة التي تطول راهناً منصّة «إكس» بسبب تحوّلها -في نظر البعض- إلى فضاء نقاش ملوّث بالنظريات التآمرية العنصرية، بعد وصول إيلون ماسك

أنيسة مخالدي (باريس)
إعلام إيرادات الأخبار من «غوغل» تُثير خلافاً مع ناشرين

إيرادات الأخبار من «غوغل» تُثير خلافاً مع ناشرين

أثارت شركة «غوغل» جدلاً بين ناشرين بعدما أجرت «تجربة» خلصت إلى أنه ليس للأخبار أي تأثير ملموس على إيراداتها الإعلانية، الأمر الذي عدَّه ناشرون نتيجة «غير دقيقة»

إيمان مبروك (القاهرة)
إعلام بايت دانس... الشركة الأم لـ"تيك توك" (أ ف ب / غيتي)

الصين تعيد رسم ملامح المستقبل التقني والتواصلي والإعلامي

في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالتحولات الجيوسياسية والاقتصادية، تمضي الصين بخطوات ثابتة نحو إعادة تشكيل المستقبل التكنولوجي والتواصلي والمعلوماتي والاقتصادي.

وارف قميحة (بيروت)
إعلام شعار "ميتا" (أ ف ب)

كفاءة «ملاحظات المجتمع» على منصات التواصل تُثير تساؤلات بشأن مواجهة «التضليل»

أثار إعلان شركة «ميتا»، مالكة منصات «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب»، عن بدء اختبار «ملاحظات المجتمع» في الولايات المتحدة، تساؤلات بشأن كفاءة هذه الخدمة في الحد…

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي يتحدث لبرنامج «الليوان» (روتانا خليجية)

وزير الإعلام السعودي: لدينا حرية منضبطة وإعلامنا الأقوى عربياً

عدَّ سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، إعلام بلاده الأقوى والأكثر تأثيراً وانتشاراً عربياً، ومشاريع «رؤية 2030» أهم أذرعه لمخاطبة العالم.

جبير الأنصاري (الرياض)

«الإخبارية السورية» مستعدة للانطلاق لولا «ديون النظام» والعقوبات الدولية

دورة تدريبية لمديري المكاتب الإعلامية في وزارة الإعلام السورية
دورة تدريبية لمديري المكاتب الإعلامية في وزارة الإعلام السورية
TT
20

«الإخبارية السورية» مستعدة للانطلاق لولا «ديون النظام» والعقوبات الدولية

دورة تدريبية لمديري المكاتب الإعلامية في وزارة الإعلام السورية
دورة تدريبية لمديري المكاتب الإعلامية في وزارة الإعلام السورية

أظهرت القلاقل والأحداث اليومية التي تشهدها سوريا، غياب الإعلام الرسمي عن متابعة أحداث محلية مهمة، فبعد أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط نظام الأسد لم يعد التلفزيون الرسمي إلى البث الفضائي، وذلك رغم بدء قناة «الإخبارية السورية» البث التجريبي منذ مطلع الشهر الحالي، وقيامها بتجهيز استوديوهات حديثة، وتدريب مذيعين، ووضع سياسة تحريرية جديدة وفق تصريحات مسؤولين في الإعلام الرسمي.

ولا تزال هناك عوائق كثيرة، أبرزها العقوبات المفروضة على القطاع الإعلامي الحكومي في سوريا، والتي تحول دون البث عبر الأقمار الاصطناعية، مثل «نايل سات»، على الرغم من المحاولات المستمرة لتجاوز هذه العقبات، وفق تصريح علي الرفاعي، مدير مكتب العلاقات في وزارة الإعلام، تحدث فيه عن وجود تحديات سياسية وتقنية كبيرة تواجه الإعلام الرسمي، منها المعدات المتهالكة ونظام التشغيل البدائي، و«الكوادر المترهلة التي تعاني من المحسوبيات والفساد»، بحسب تعبيره.

وأكد الرفاعي عمل وزارة الإعلام على تجاوز تلك العقبات، لا سيما التي تمنع البث عبر «نايل سات»، بسبب العقوبات المفروضة على البلاد. ورداً على الانتقادات المتعلقة بتأخر إطلاق التلفزيون الرسمي، قال الرفاعي: «إن انطلاق قناة تلفزيونية حديثة يحتاج على الأقل إلى عام ‏من التحضيرات حتى في ظروف طبيعية، فكيف في بيئة إعلامية دمرها النظام ‏السابق؟».

وأضاف أن «الإخبارية السورية» جاهزة للانطلاق، وهي تبث بشكل يومي تحت الهواء منذ بداية مارس (آذار) الحالي، ويمكن الوصول لها فور توفر تردد على «النايل سات»، وحل مشكلة العقوبات.

وتتعرض وزارة الإعلام السورية لانتقادات حول طريقة إدارتها لوسائل الإعلام الرسمية التقليدية، سيما وأنها كانت تعمل وتبث حتى يوم سقوط النظام، وذلك رغم وجود عقوبات.

موظف سابق في التلفزيون السوري ممن منحوا إجازة مأجورة، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن النظام كان يلجأ إلى وسطاء عبر دول وسيطة للتحايل على العقوبات والحصول على ترددات، ولا تزال لدى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ديون متعلقة بذلك.

ولفت الموظف السابق إلى أن النظام كان يلجأ إلى أساليب عدة لتأجيل الديون أو تسديدها عبر جهات حليفة. ووجه الموظف انتقادات لوزارة الإعلام وقال، إنها بلا شك تدير الخراب الذي خلفه النظام، لكن القرارات التي اتخذت بتسريح غالبية العاملين وتعطيل العمل، جعلها تتخبط في الخراب، وكان بالإمكان تجنب كل ذلك لو تركت الأمور تسير على ما هي عليه لمدة ثلاثة أو ستة أشهر ريثما تكشف آليات العمل السابقة، بالتوازي مع تسيير خطة لحل العقبات تدريجياً. وأكد الموظف السابق أن المؤسسات الإعلامية نخرها الفساد أيام النظام السابق، لكنها لم تخل من الكفاءات والخبرات، وكان بالإمكان الاستفادة منها.

تجدر الإشارة إلى أنه عدا وكالة الأنباء الرسمية «سانا»، لم تثبت أي وسيلة إعلام رسمية تقليدية حضوراً في نقل الخطاب الرسمي، ويؤخذ على الإعلام الرسمي السوري الجديد بعد سقوط النظام، اعتماده على معرفات النظام السابق على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما منصة «تلغرام» في بلد يعاني من تردي خدمة الإنترنت، كما يعتمد على المؤثرين من «الناشطين المقربين من السلطة الجديدة في تلك المواقع، لتصدير خطاب السلطة، وتغطية المستجدات الأمنية والعسكرية، سداً للفراغ الذي يحدثه غياب الإعلام المحلي الرسمي، إلا أن هذا التوجه يصطدم بالفوضى وضعف المصداقية وغياب المهنية وسائل التواصل الاجتماعي.