كيف يعيد ناشرون تعزيز التفاعل على «يوتيوب» لتحقيق أرباح؟

شعار يوتيوب (د.ب.أ.)
شعار يوتيوب (د.ب.أ.)
TT

كيف يعيد ناشرون تعزيز التفاعل على «يوتيوب» لتحقيق أرباح؟

شعار يوتيوب (د.ب.أ.)
شعار يوتيوب (د.ب.أ.)

تشهد غرف الأخبار تحولات جذرية خلال العام الجاري، مع ازدياد توجه الناشرين نحو الاستثمار في منصات الفيديو وفي مقدمتها «يوتيوب»، سعياً لاستقطاب الجمهور الأصغر سناً، الذي أصبح من أبرز المستهلكين للمحتوى المرئي.

ويرى خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» أن هذا الاتجاه يهدف إلى الحد من الخسائر المالية وتعزيز قدرة المؤسسات الإعلامية على المنافسة في سوق تشهد تنافساً متصاعداً مع صُناع المحتوى والمؤثرين الرقميين، غير أن الناشرين يواجهون تحديات في هذا المسار تتطلب تعزيز التفاعل واتباع استراتيجيات ذكية. وكان تقرير معهد «رويترز لدراسة الصحافة» السنوي لعام 2025 قد أشار إلى أن غرف الأخبار ستولي اهتماماً خاصاً لـ«يوتيوب» قُدر بتقييم إيجابي بلغ +52 نقطة من العينة البحثية التي شملت 326 من الناشرين من 51 دولة وإقليماً، وتلاه «تيك توك» بواقع +48 نقطة، أما «إنستغرام» فحصد +43 نقطة من حيث الاهتمام.

إلا أن الناشرين الساعين للاستثمار في هذا المجال يواجهون تحديات كبيرة، وفقاً للتقرير السنوي، الذي أوضح أن «إنتاج المحتوى المرئي لا يزال غير مألوف بالنسبة لعديد من غرف الأخبار التقليدية، كما أن تحقيق العائدات من مقاطع الفيديو القصيرة يمثل تحدياً مستمراً، نظراً إلى محدودية الفرص المتاحة لجذب الزيارات إلى المواقع الإلكترونية أو التطبيقات».

أيضاً أشار التقرير إلى معضلة الأخبار «المؤتمتة»، أي المُعدّة بواسطة الذكاء الاصطناعي، ورأى أن كل هذه العوامل قد تجعل من الصعب على المحتوى الإخباري أن ينافس على منصات الفيديو.

تاج الدين الراضي، المتخصص في الإعلام الرقمي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وصف علاقة «يوتيوب» والناشرين بـ«المتقلبة» منذ بداية التحول الرقمي، وأوضح: «لم تأخذ الصحف التقليدية (يوتيوب) بجدية، بل عاملته على أنه منصة ترفيهية أكثر منه وسيلة لنشر الأخبار، لكن مع انخفاض عائدات الإعلانات في الصحف، أدركت المؤسسات الإعلامية ضرورة التكيف مع المشهد الرقمي الجديد».

وبينما لم تولِ الصحف في البداية اهتماماً بمنصة «يوتيوب»، إلا أنه خلال السنوات الأخيرة «عززت التجربة الصحافية ذلك... و(يوتيوب) فعلت ذلك بطرق مختلفة، فقد منحت الصحافة مساحة أوسع للوصول إلى جمهور عالمي، وسمحت للناشرين بتقديم تقارير مرئية أكثر جاذبية». ولكن على الجانب الآخر، وفق الراضي، «هناك جانب سلبي هو أن سرعة انتشار المعلومات على (يوتيوب) قد تدفع بعض المؤسسات إلى التركيز على العناوين الجذابة (كليك بايت Clickbait) أو المحتوى السريع بدلاً من التحليل العميق».

وأوضح الراضي أن الناشرين أمام فرصة هذا العام من خلال الدفع باستراتيجيات ذكية لتعزيز غرف الأخبار بالمحتوى المرئي، خصوصاً منصة «يوتيوب»، وأردف قائلاً: «على الناشرين الاهتمام بالمحتوى الحصري أو التحليلي بدلاً من الاكتفاء بنقل الأخبار، من خلال التركيز على التحليل والاستقصاء، مما يزيد من قيمة المحتوى... ويجب كذلك توظيف الذكاء الاصطناعي في تحليل الجمهور لمعرفة ما يفضله المشاهدون وتحسين استراتيجيات النشر».

من جانبه، يرى محمد عاطف، الباحث المتخصص في الإعلام الرقمي، أن علاقة «يوتيوب» بالناشرين «بدأت بوصفها شراكة استراتيجية غير مباشرة، وأتاحت المنصة للصحف وسيلة فعالة لتوسيع نطاق وصولها إلى جماهير متنوعة، خصوصاً بين الشباب الذين يفضلون المحتوى الرقمي المرئي».

في المقابل، أشار عاطف إلى التحديات التي تواجه الناشرين في تحقيق التوازن بين الاستفادة من «يوتيوب» بصفتها منصة للنشر، والحفاظ على استقلاليتهم المالية، إذ إن «بعض الصحف تُبدي قلقها من منح (يوتيوب) أولوية للمحتوى الترفيهي والمقدَّم من المؤثّرين، الأمر الذي أدى إلى تراجع حضور المحتوى الصحافي ضمن خوارزميات التوصيات». وقال عاطف، إن الناشرين يواجهون تحديات تعزيز حضورهم على «يوتيوب»، مشيراً إلى أن «المنافسة مع المؤثّرين الذين يحظون بجماهيرية واسعة تمثل معضلة كبيرة، فضلاً عن صعوبة تحقيق عائدات من الفيديوهات القصيرة رغم انتشارها الواسع». وأضاف: «إلى جانب ذلك، فإن التغييرات المستمرة في خوارزميات (يوتيوب) والتحديثات المتكررة تؤثر على آلية ظهور المحتوى للمستخدمين، مما يفرض على الصحف ضغوطاً متزايدة لتكييف استراتيجياتها باستمرار».

ويرى عاطف أن «على الناشرين التركيز على بناء قاعدة جماهيرية وفيّة، وتنويع مصادر الإيرادات من خلال تقديم اشتراكات مدفوعة، وبيع المنتجات الرقمية، أو استضافة فعاليات مدفوعة». وشدد كذلك على أهمية التعاون مع «يوتيوب» لضمان ظهور المحتوى الصحافي بشكل أكبر في خوارزميات التوصية.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

إعلام اطفال على المنصة

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

في زمن تحولت المنصّات الإعلامية الرقمية إلى نوافذ يطلّ منها العالم على قصص البشر، لم تعد المعاناة تُروى في الخفاء، بل أصبحت «محتوى» يعرض على ذوي القلوب الرحيمة

أنيسة مخالدي (باريس)
إعلام روبوت يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

احتجاجات لوس أنجليس تُجدّد جدل «صدقية» الذكاء الاصطناعي

جدّدت الاحتجاجات الأخيرة في مدينة لوس أنجليس الأميركية الجدل حيال مساهمة تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الترويج لـ«معلومات مضللة»،

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام شعار  غوغل (رويترز)

ميزة جديدة من «غوغل ديسكوفر» تخيف ناشرين

قدَّم تطبيق «غوغل ديسكوفر» ميزة جديدة للقارئ تعتمد على عرض نقاط موجزة تلخِّص المقالات من دون الحاجة للنقر على الرابط وقراءة تفاصيل،

إيمان مبروك (القاهرة)
يوميات الشرق وزير الإعلام سلمان الدوسري لدى إطلاقه «منصة الصور السعودية» الأربعاء (واس)

«منصة الصور» تُعزِّز الحضور البصري للسعودية عالمياً

دشّن وزير الإعلام سلمان الدوسري «منصة الصور السعودية»، التي طوّرتها وكالة الأنباء الرسمية «واس»، وتتيح الوصول المجاني إلى صور موثّقة، قابلة للاستخدام والمشاركة.

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)
إعلام مؤتمر الاعلام العربي بغداد (كونا)

«خريطة طريق» إعلامية للوقاية من المتغيّرات المناخية

استضافت العاصمة العراقية بغداد أخيراً «مؤتمر الإعلام العربي» في دورته الرابعة، بمشاركة أكثر من 150 من الخبراء في الاتصال ومسؤولي قطاعي الإعلام والبيئة عربياً

كمال بن يونس (بغداد)

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

اطفال على المنصة
اطفال على المنصة
TT

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

اطفال على المنصة
اطفال على المنصة

في زمن تحولت المنصّات الإعلامية الرقمية إلى نوافذ يطلّ منها العالم على قصص البشر، لم تعد المعاناة تُروى في الخفاء، بل أصبحت «محتوى» يعرض على ذوي القلوب الرحيمة لإثارة التعاطف وجني الأرباح.

هذه ما تُتهم بعرضه اليوم منصّة «تيك توك» من ممارسات تسول مقنّعة، يقوم بها أفراد، وأحياناً عائلات بكاملها، من أجل الحصول على مساعدات مادية.

انتشار هذه الظاهرة، التي تُعرف بـ«التسّول الافتراضي»، أصبح يثير تساؤلات أخلاقية بشأن الحدود الفاصلة بين التضامن والانتهازية واستغلال الفئات الضعيفة، وخاصة الأطفال.

«المعاناة» كمحتوى

الظاهرة تبدأ غالباً ببث مباشر، يظهر فيه أفراد، ومعظمهم من الأطفال والمسنين، وهم يدّعون الفقر أو المرض في هيئة مثيرة للشفقة، ويستنجدون بالمشاهدين، مطالبين بما يسمى بالهدايا الرقمية التي تتحوّل لاحقاً إلى أرباح مالية.

لكن رغم وجود قصص معاناة حقيقية، فإن هذه المحتويات باتت يصفها البعض بالمسرحيات «المُتقنة» التي تُوظف فيها كل عناصر الدراما المؤثرة، من مشاهد البكاء والموسيقى الحزينة إلى الصوت المتهدج لاستدرار العواطف.

قناة «بي بي سي» البريطانية كانت أول من كشف عن تفشّي ظاهرة التسول الرقمي، عبر تحقيق مطول في مخيمات اللاجئين السوريين، بعنوان «كيف يحصل (تيك توك) على الأموال باستغلال أطفال سوريين فقراء؟». لكن تبين فيه أن العائلات الفقيرة، وبالأخص الأطفال، يتعرضون لاستغلال «وسطاء» يديرون حسابات متخصصة في هذه النوعية من المحتوى... تصل فيها المداخيل إلى ألف دولار في الساعة. ومن هذه الحسابات يأخذون نسبة تتراوح ما بين 20 إلى 27 في المائة، والعائلات الفقيرة تحصل على نسبة ضئيلة، تتراوح ما بين 1 إلى 3 في المائة، أما نصيب الأسد فيعود إلى المنصّة الصينية التي تستحوذ على 70 في المائة من هذه المبالغ.

وفي تحقيق آخر، أشارت صحيفة «الغارديان» البريطانية إلى انتشار هذه الظاهرة في عدة دول أخرى، كأفغانستان وباكستان والهند وإندونيسيا وكينيا. وهذا بعد مراقبة عدة حسابات تحمل علامات تسول منظّم عبر الشبكة، واستشهدت الصحيفة بحساب في إندونيسيا يبّث مقاطع يومية لأطفال يتسولون هدايا افتراضية، وفي اليوم التالي يظهر أطفال مختلفون في الغرفة نفسها، مع الأشخاص البالغين أنفسهم، ولم يُحظر هذا الحساب إلا بعد نشر تقرير الصحيفة البريطانية.

المنظمات الإنسانية ندّدت بهذه الممارسات، واتهمت «تيك توك» باستغلال البؤس الإنساني لجني الأرباح. وفي حوار مع «الغارديان»، عدّ أوليفييه دي شوتير، المفوّض الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع، النسب الكبيرة التي تفرضها المنصة على هذه التبرعات الافتراضية «افتراساً رقمياً». أما منظمة «هيومان رايتس واتش» فاتهمت «تيك توك» بانتهاك حقوق الأطفال لتقصيرها في حظر الحسابات التي تستغل الأطفال لساعات طويلة من العمل في مشاهد للتسول الافتراضي.

شعار "تيك توك" (رويترز)

مباريات البثّ المباشر

مداخيل الهدايا الافتراضية، التي يمنحها تطبيق البثّ المباشر، استقطبت أيضاً فئة من المؤثرين لا تعاني الفقر المدقع، لكنها تتعرض منذ فترة لتراجع في مداخيلها بسبب القوانين الجديدة التي تنظم ممارسات المؤثرين التجارية.

في فرنسا مثلاً، تلجأ هذه الفئة من «التيك توكرز» إلى نظام «المباريات» كأحد أبرز مصادر للدخل. وهنا الفكرة بسيطة، حيث يتواجه شخصان في مبارزة كلامية على الهواء، ويقوم الجمهور بمنح تبرعات للمؤثر المفضّل لديهم.

التقارير التي نشرت تشير إلى مبالغ ضخمة تبرع بها مستخدمون عبر البثّ المباشر للمنصة الصينية، بلغت في فرنسا، حسب تقرير لمكتب الدراسات «داتا آي»، نحو 81 مليون يورو عام 2023، مقابل مليونين ونصف مليون عام 2020.

وهنا تشرح أودري شييو، الصحافية الفرنسية المتخصصة في منصات التواصل: «المشكلة هي أن هؤلاء المؤثرين، ومعظمهم نجوم سابقون من تلفزيون الواقع، لا يكتفون بتنظيم هذه المباريات، بل يطلبون من الجمهور تشجيعهم بإرسال هدايا افتراضية كالوردة أو الأسد، التي قد تصل قيمتها إلى 400 يورو».

أيضاً يلجأ بعضهم إلى التلاعب النفسي عبر إنشاء روابط شخصية مع المتابعين من المراهقين من خلال الرسائل الخاصّة، أو ذكرهم بالأسماء لضمان استمرار تدفق الهدايا الرقمية، وهو ما تعدّه الإعلامية الفرنسية نوعاً من أنواع الاستغلال والتسول الرقمي المُلبّس بقناع البثّ الترفيهي.

بيد أن المخاطر لا تقتصر على الناحية المالية فحسب، ففي شهادة مؤلمة، نقلتها إذاعة «فرانس إنتير»، تروي أمّ كيف أن ابنها المراهق، البالغ من العمر 14 سنة، أنفق قرابة 4 آلاف يورو من مدّخرات العائلة على الهدايا في «تيك توك» لأنه كان يعدّ نفسه «صديقاً» لبعض المؤثرين.

من جانبها، لا تبدو المنصة الصينية مستعدة لتقييد نشاطات تدرّ عليها أرباحاً طائلة، لكنها رغم ذلك مطالبة اليوم باتخاذ عدد من التدابير الصارمة للقضاء على ظاهرة التسول الرقمي. أهمها؛ وضع قوانين داخلية صارمة تمنع المحتوى الذي يتضمن استجداء صريح أو مبطن للهدايا الافتراضية، وتعزيز الرقابة على البثّ الحيّ لرصد المخالفات.

هذا، وفي تقرير، طالب نائب أوروبي أيضاً «تيك توك» بوضع سقف شهري للأرباح الفردية، ومنع القاصرين من استخدام خاصية الهدايا الافتراضية من أجل حمايتهم والحفاظ على أخلاقيات المنصة.