عصام عبد الله... وأمطار غزة

عصام عبد الله... وأمطار غزة
TT

عصام عبد الله... وأمطار غزة

عصام عبد الله... وأمطار غزة

جاءني صوت رائد هادئاً رائقاً في الرسالة الصوتية: «لم أكن مع المرحوم عصام... كنت في القافلة الصحافية التالية... أنا بخير». شعرت على الفور بالإعياء، وأطبقت على صدري 27 دائرة مفرغة بعدد السنوات التي تفصل بين حدث وفاة الزميل عصام عبد الله، مصوّر وكالة «رويترز»، ونجاة صديقي رائد بأعجوبة ذات يوم بائس، من غارة إسرائيلية في جنوب لبنان، حين كنا ندشن حياتنا المهنية على سجادة المجازر اللزجة. فقط في هذه الرقعة من العالم تكبر ربع قرن من الزمن، ويصيب الشيب مفرقك وأنت واقف في البقعة ذاتها... عند المنعطف التاريخي ذاته... تتجرّع الهزيمة ذاتها، بينما يتبادل «المنتصرون» الكؤوس من حولك... وأنت لا ترى سوى الزجاج المشروخ... ضيفاً حاضراً في كوابيس الأطفال... دمعة متحجرة في عيون العجائز. أتنقّل بين الشاشات الإخبارية... تطالعني وجوه الزملاء وقد ارتسمت عليها علامات ربع قرن من الأخبار العاجلة.

يسألون المراسلين في غزة ومحيطها عن حجم الدمار وعن أعداد القتلى وعن أحوال المستشفيات وعن عربات المثلجات الطافحة بالجثث. وفي خلفية المشهد صور قديمة جديدة للمرارة التي تعجنها آلة القتل والقهر. «مات أطفالي قبل أن يتناولوا طعام العشاء»، تولول السيدة الفلسطينية وهي تلطم وجهها. تتفجر الدماء في رأسي.

ربع قرن من عمرنا مضى ونحن نكتب عن مشاريع الهدم وصفقات إعادة البناء. ربع قرن بدلنا فيه حياتنا على وقع الخيبات المحلية والإقليمية. نحن اللبنانيين فُجعنا في نخبنا السياسية والعسكرية والإعلامية والمالية... وتجرّع جيران عروبتنا دون استثناء درجات متفاوتة من العذابات المتصلة أو المتقطعة.

هي النتيجة الحتمية لربع قرن شهد فيه جيلي تآكل مساحات الحرية... وتراجع الرأي والرأي الآخر... وتضاؤل الأفق... وتقلص لوحة المفردات... ربع قرن من الركاكة المتصاعدة في اللغة والذوق والثقافة. واليوم يدق المجتمع الدولي المسامير الأخيرة في نعش فجيعتنا. يكتمل تاريخ الهذيان المطبق بحوارات سريالية يجريها مذيعون مخضرمون -أساتذة يوماً في ضمائرنا- مع قادة العالم الحر ومع مؤرخيه ونخبه... ينزع الجميع قناع الكياسة ويلبس طرحة الثأر للدماء الإسرائيلية المستباحة... أما أمطار غزة الحمراء... فما هي إلا مياه عربية تجري في عروقنا!

لوحة الهذيان المطبق تكتمل بدعوات مستعرة من أهل السلم العالمي لتشغيل آلة الحرب، والقضاء نهائياً على حق ثابت يستحيل القضاء عليه... وبتحذيرات عتاة وديكتاتورات الحروب والقتل والسجن من مغبة عدم ضبط النفس، والانزلاق في حرب إقليمية بعد أن بدا السلام المنقوص قاب قوسين أو أدنى!

أتراه المنعطف التاريخي حضر أخيراً هذه المرة، بعد أن كان ضيفاً ممجوجاً في مؤتمراتنا الصحافية الصفراء على امتداد العقود الطويلة الماضية؟ أهو حقاً المنعطف الأخير عند أقصى حافة عالمنا؟! ألهذا يلازمني الدوار؟!

أصحو في قعر البئر، ويخيل إليَّ أنني أسمع أصداء أصوات خافتة تحاول القراءة على اختلاف لغاتها في كتاب جديد... يقول إن السقوط الجماعي في الهاوية ليس بالضرورة خيارنا الاستراتيجي الوحيد... وإن الانتصار لحقنا وحق الآخرين وحق الإنسانية جمعاء في الحياة خيار أسمى، يعلو ولا يُعلى عليه.



«واشنطن بوست» لن تؤيد أي مرشح للرئاسة الأميركية

باتريك سون شيونغ (أ.ب)
باتريك سون شيونغ (أ.ب)
TT

«واشنطن بوست» لن تؤيد أي مرشح للرئاسة الأميركية

باتريك سون شيونغ (أ.ب)
باتريك سون شيونغ (أ.ب)

في كل انتخابات رئاسية وعامة تشهدها الولايات المتحدة، كان للمؤسسات الإعلامية الأميركية على الدوام نصيب من تداعياتها. وفي العادة أن جلّ المؤسسات الاعلامية كانت تنحاز لأحد طرفي السباق، حتى في بعض الانتخابات التي كانت توصف بأنها «مفصلية» أو «تاريخية»، كالجارية هذا العام. بل وكان الانحياز يضفي إثارة لافتة، لا سيما إذا «غيّرت» هذه المؤسسة أو تلك خطها التحريري المألوف، في محاولة للظهور بموقف «حيادي».

غير أن الواقع كان دائماً يشير إلى أن العوامل التي تقف وراء هذا «التغيير» تتجاوز مسألة الحفاظ على الحياد والربحية وتعزيز المردود المالي. إنها سياسية بامتياز، خصوصاً في لحظات «الغموض والالتباس» كالتي يمر بها السباق الرئاسي المحتدم هذا العام بين نائبة الرئيس كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي والرئيس السابق دونالد ترمب مرشح الحزب الجمهوري.

مقر «اللوس أنجليس تايمز» (أ.ب)

«واشنطن بوست» لن تؤيد أي مرشح!

يوم الجمعة، أعلن ويليام لويس، الرئيس التنفيذي وناشر صحيفة «واشنطن بوست»، التي يملكها الملياردير جيف بيزوس، رئيس شركة «أمازون» العملاقة، أنها لن تؤيد أي مرشح رئاسي لا في هذه الانتخابات، ولا في أي انتخابات رئاسية مستقبلية. وأضاف لويس، في مقال: «نحن نعود إلى جذورنا بالإحجام عن تأييد المرشحين الرئاسيين... هذا من تقاليدنا ويتفق مع عملنا في 5 من الانتخابات الـ6 الأخيرة». وتابع لويس: «ندرك أن هذا سيُفسَّر بطرق مختلفة، بما في ذلك اعتباره تأييداً ضمنياً لمرشح واحد، أو إدانة لمرشح آخر، أو تنازلاً عن المسؤولية... هذا أمر لا مفر منه. لكننا لا نرى الأمر بهذه الطريقة. إننا نرى ذلك متوافقاً مع القِيَم التي طالما دافعت عنها صحيفة (واشنطن بوست)». واختتم: «إن وظيفتنا في الصحيفة هي أن نقدّم من خلال غرفة الأخبار، أخباراً غير حزبية لجميع الأميركيين، وآراءً محفزة على التفكير من فريق كتّاب الرأي لدينا لمساعدة قرائنا على تكوين آرائهم الخاصة». إلا أنه في بيان وقّعه عدد من كبار كتّاب الرأي في الصحيفة، بينهم ديفيد إغناتيوس ويوجين روبنسون ودانا ميلبنك وجينيفر روبن وروث ماركوس، وصف الموقّعون القرار بأنه «خطأ فادح». وتابع البيان أن القرار «يمثّل تخلّياً عن المُعتقدات التحريرية الأساسية للصحيفة... بل في هذه لحظة يتوجّب على المؤسسة أن توضح فيها التزامها بالقيَم الديمقراطية وسيادة القانون والتحالفات الدولية والتهديد الذي يشكله دونالد ترمب على هذه القيم...». ومضى البيان: «لا يوجد تناقض بين الدور المهم الذي تلعبه (واشنطن بوست) بوصفها صحيفة مستقلة وممارستها المتمثّلة في تقديم التأييد السياسي... وقد تختار الصحيفة ذات يوم الامتناع عن التأييد، لكن هذه ليست اللحظة المناسبة، عندما يدافع أحد المرشحين عن مواقف تهدّد بشكل مباشر حرية الصحافة وقِيَم الدستور».

مقر «الواشنطن بوست» (آ. ب.)

... وأيضاً «لوس أنجليس تايمز»

في الواقع خطوة «واشنطن بوست» سبقتها، يوم الأربعاء، استقالة مارييل غارزا، رئيسة تحرير صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، كبرى صحف ولاية كاليفورنيا، احتجاجاً على منع مالك الصحيفة، الملياردير باتريك سون شيونغ، مجلس التحرير من إعلان تأييد هاريس. وهذه الخطوة أشاد بها ترمب، وعلّقت حملته، في بيان، بأن «زملاء هاريس في كاليفورنيا يعرفون أنها ليست مؤهلة للوظيفة». غارزا كتبت في رسالة استقالتها «أن الصمت ليس مجرد لامبالاة، بل هو تواطؤ»، معربة عن قلقها من أن هذه الخطوة «تجعلنا نبدو جبناء ومنافقين، وربما حتى متحيّزين جنسياً وعنصريين بعض الشيء». وأردفت: «كيف يمكننا أن نمضي 8 سنوات في مهاجمة ترمب والخطر الذي تشكّله قيادته على البلاد ثم نمتنع عن تأييد المنافس الديمقراطي اللائق تماماً الذي سبق لنا أن أيدناه لعضوية مجلس الشيوخ؟»، في إشارة إلى هاريس. من جانبه، كتب سون شيونغ، في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، أن هيئة التحرير «أتيحت لها الفرصة لصياغة تحليل واقعي» للسياسات التي يدعمها كل مرشح خلال فترة وجوده في البيت الأبيض، وعلى مسار الحملة الانتخابية، كي يتمكّن «القراء (أنفسهم) من تحديد مَن يستحق أن يكون رئيساً»، مضيفاً أن الهيئة «اختارت الصمت»!

هل الدافع تجاري؟

بالمناسبة، سون شيونغ يُعد من الداعمين للديمقراطيين عموماً، يرجح البعض أن يكون الدافع وراء موقفه الاعتبارات التجارية، ومنها جذب مزيد من القراء، بمَن فيهم الموالون للجمهوريين، لرفع نسبة الاشتراكات والدعايات والإعلانات، عبر محاولة تقديم الصحيفة بمظهر وسطي غير منحاز. كذلك، سون شيونغ، الطبيب والقطب في مجال التكنولوجيا الحيوية من منطقة لوس أنجليس، الذي ليست له أي خبرة إعلامية، كان قد اشترى الصحيفة التي يزيد عمرها على 140 سنة والشركات التابعة لها، مقابل 500 مليون دولار عام 2018. لكن خسائر الصحيفة استمرت، ما دفعه إلى تسريح نحو 20 في المائة من موظفيها هذا العام. وذكرت الصحيفة أن مالكها اتخذ هذه الخطوة بعد خسارة «عشرات الملايين من الدولارات» منذ شرائها.

ترمب يدعو لإلغاء تراخيص الأخبار

ما حصل في «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» سلّط حقاً الضوء على التحديات التي تواجهها المؤسسات الإعلامية الأميركية وسط الضغوط المتزايدة عليها، وتحويلها مادة للسجال السياسي.

وفي الواقع، تعرّضت وسائل الإعلام خلال العقد الأخير للتهديدات ولتشويه صورتها، وبالأخص من الرئيس السابق ترمب، الذي كرر اتهام منافذ إخبارية كبرى بالتشهير، ومنع الصحافيين من حضور التجمّعات والفعاليات التي تقام في البيت الأبيض، وروّج لمصطلح «الأخبار المزيفة»، الذي بات يتبناه الآن العديد من قادة اليمين المتطرف في جميع أنحاء العالم.

وفي حملات ترمب الجديدة على الإعلام، اقترح أخيراً تجريد شبكات التلفزيون من قدرتها على بث الأخبار، إذا كانت تغطيتها لا تناسبه. وكتب على منصته «تروث سوشال» في الأسبوع الماضي «يجب أن تخسر شبكة (السي بي إس) ترخيصها. ويجب وقف بث برنامج (60 دقيقة) على الفور». وكرّر مطالبه في الخطب والمقابلات، مردداً دعواته السابقة لإنهاء ترخيص شبكة «الإيه بي سي» بسبب استيائه من الطريقة التي تعاملت بها مع المناظرة الوحيدة التي أُجريت مع هاريس.

وقال في مقابلة مع قناة «فوكس نيوز» الداعمة له: «سنستدعي سجلاتهم»، مجدداً ادعاءه أن تحرير الشبكة لمقابلتها مع هاريس في برنامج «60 دقيقة»، كان «مضللاً» ورفض عرض الشبكة إجراء مقابلة معه. وأيضاً رفض الإجابة عما إذا كان إلغاء ترخيص البث «عقاباً صارماً»، ليشن سلسلة من الإهانات لهاريس، قائلاً إنها «غير كفؤة» و«ماركسية».