يقود باحثون في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان (EPFL) ثورة علمية واعدة، يدرسون من خلالها كيف يمكن أن تُخزَّن صور البيانات الرقمية كصور السيلفي اليومية، وغيرها من البيانات، داخل الشيفرة الوراثية.
لماذا الحمض النووي «DNA»؟
وسائط التخزين التقليدية كالقرص الصلب وذاكرة «الفلاش» والأقراص البصرية تعاني من تقادم سريع. فمدة صلاحيتها لا تتجاوز 10 إلى 20 عاماً، وتستهلك طاقة كبيرة، كما أنها ضعيفة من حيث التحمل الفيزيائي. أمّا الحمض النووي، فهو فائق الكثافة وشديد الاستقرار ولا يحتاج إلى طاقة أثناء التخزين. إذ عُثر على عينات «DNA» عمرها آلاف، بل ملايين السنين، وهي لا تزال قابلة للقراءة. كل هذا يجعل من الحمض النووي وسيطاً جذاباً لأرشفة البيانات الرقمية طويلة الأمد.
من البكسل إلى القاعدة الوراثية
تخيل أن صورتك «السيلفي» التي تراها عادة على شاشة هاتفك، تتحول إلى سلسلة من قواعد داخل شريط الحمض النووي. يعمل مهندسو «EPFL» على تطوير ما يسمى «JPEG DNA»، وهي تقنية تضغط الصور مثل «JPEG» التقليدي، لكن بأسلوب متوافق مع بيولوجيا الحمض النووي. بدلاً من تخزين الملفات على الأقراص، يتم تحويلها إلى سلاسل «DNA» صناعية.
وللاسترجاع، تتم «قراءة» تلك السلاسل عبر تقنيات التسلسل الجيني، ثم إعادة بناء الصورة منها. وبالفعل طوّر الفريق نموذجاً يجمع بين خوارزميات الضغط، وتصحيح الأخطاء، والمحددات البيوكيميائية، لتوليد بيانات الحمض النووي قابلة للتخزين والاستخدام.

كيف تعمل التقنية؟
تبدأ العملية بتحويل الصورة (JPEG أو RAW) إلى تدفق بيانات مضغوطة باستخدام تنسيق «JPEG XL». يتم بعد ذلك تقسيم هذا التدفق إلى «أوليجو (oligos)» صغيرة (وهي الوحدات الأساسية التي تُكوّن الحمض النووي) كل واحدة بطول نحو 200 قاعدة وراثية مع إدخال «خوارزميات تصحيح الأخطاء». وقد أظهرت تجارب جامعة «EPFL» أن هذه التقنية تتيح تخزين صور بجودة أعلى باستخدام عدد أقل من سلاسل الحمض النووي مقارنة بالمحاولات السابقة وهو عامل مهم نظراً لارتفاع تكلفة التصنيع البيولوجي.
أبرز المزايا المتوقعة
من أبرز المزايا المتوقعة لتخزين البيانات على الحمض النووي أنه يوفّر كثافة تخزين غير مسبوقة، إذ يمكن لغرام واحد من الحمض النووي أن يحتوي على ألف تيرابايت من المعلومات، ما يجعله يتفوق بشكل هائل على الوسائط التقليدية مثل الأقراص الصلبة. بالإضافة إلى ذلك، يتميز الحمض النووي بعمر افتراضي طويل للغاية. فمع التخزين في ظروف مناسبة، يمكن أن تبقى البيانات محفوظة لقرون، وربما آلاف السنين، دون الحاجة إلى التحديث أو الترحيل المستمر كما هو الحال مع أنظمة التخزين الحالية. والأهم من ذلك، أن تخزين الحمض النووي لا يستهلك أي طاقة أثناء حفظ البيانات، إذ لا يُستهلك التيار الكهربائي إلا عند الحاجة إلى قراءة المحتوى، ما يجعله خياراً اقتصادياً ومستداماً في المدى البعيد.
تحديات أمام التعميم
رغم الإمكانات الواعدة التي يقدمها تخزين البيانات على الحمض النووي، لا تزال هذه التقنية في مراحلها الأولى وتواجه تحديين رئيسيين. يتمثل التحدي الأول في التكلفة والسرعة، إذ لا يزال إنتاج وقراءة سلاسل الحمض النووي عملية باهظة وبطيئة؛ فحتى تخزين عدد محدود من الصور قد يستغرق ساعات، ويتطلب مئات الدولارات. أما التحدي الثاني فيكمن في الأخطاء البيولوجية، حيث إن عمليات تصنيع وتسلسل الحمض النووي ليست دقيقة بالكامل، مما يدفع الفرق البحثية، مثل فريق «EPFL» إلى الاعتماد على تقنيات متقدمة لتصحيح الأخطاء. ومع أن هذه الحلول فعالة إلى حد ما، فإن هناك حاجة واضحة إلى المزيد من التطوير لضمان استقرار وجودة التخزين على نطاق واسع. ومع ذلك، تشير المؤشرات إلى تسارع الابتكار في هذا المجال، مع توقعات باعتماد معيار «JPEG DNA» رسمياً بحلول عام 2026، ما قد يشكل خطوة حاسمة نحو جعل التخزين البيولوجي عملياً ومتعدد الاستخدامات.

تطبيقات واقعية محتملة
إلى جانب السيلفي، يمكن أن تُستخدم هذه التقنية لحفظ أرشيفات وطنية وصور تاريخية وبيانات علمية، بل وحتى مكتبات كاملة في أنابيب صغيرة تحتوي على الحمض النووي. في المستقبل، قد تُغيّر هذه التقنية مفهومنا حول «الأرشيف»، من غرفة خوادم إلى قطرة شفافة تحمل معلومات لا تُقدّر بثمن.
ماذا يحمل المستقبل؟
رغم أن تخزين البيانات على «الحمض النووي» لا يزال في مراحله الأولى، فإن تقدم جامعة «EPFL» يشير إلى تحول حقيقي. ومع انخفاض التكاليف وتطور الخوارزميات وسرعة التسلسل، قد نرى في المستقبل القريب بياناتنا الأكثر قيمة أي صور العائلة والوثائق الرسائل مخزنة بيولوجياً كـ«كبسولات زمنية» دقيقة. يبدو أن مشروع «JPEG DNA» لا يمثل مجرد إنجاز علمي، بل هو لمحة عن مستقبل ما بعد «السيليكون» حيث تُحفظ ذكرياتنا الرقمية في وسيط بيولوجي صُمم ليصمد لقرون. من خلال هذا الجسر الفريد بين التقنية والطبيعة، قد تكون صور «السيلفي» اليوم هي الخطوة الأولى نحو أرشفة الذاكرة الإنسانية بأكثر الطرق استدامة وابتكاراً.




