بطارية «الحالة الصلبة»… تُنهي عصر البنزين

«مرسيدس» تختبرها بمساعدة باحثين صينيين- أميركيين بعد أبحاث استمرت عقداً من الزمن

المهندس كيلر قرب سيارة مرسيدس سيدان التي اختبرت فيها البطارية
المهندس كيلر قرب سيارة مرسيدس سيدان التي اختبرت فيها البطارية
TT

بطارية «الحالة الصلبة»… تُنهي عصر البنزين

المهندس كيلر قرب سيارة مرسيدس سيدان التي اختبرت فيها البطارية
المهندس كيلر قرب سيارة مرسيدس سيدان التي اختبرت فيها البطارية

في يومٍ باردٍ من أوائل يناير (كانون الثاني) الماضي، وبينما كانت سيو هوانغ تعمل في مكتبها بضاحية بيليريكا في مدينة بوسطن، ماساتشوستس، تلقت رسالةً نصيةً من كلمتين، كما كتب جاك إيوينغ (*).

العجلات تدور

«العجلاتٌ تدور»، هكذا قالت الرسالة التي أرفقت بمقطع فيديو قصير يُظهر سيارةً تسير على عجلات في مركز اختبار داخلي.

وبالنسبة للعين غير المُدربة، لم يكن هناك شيءٌ مُلفتٌ للنظر في الفيديو. كان من المُمكن أن تكون السيارة خاضعة لاختبار انبعاثاتها في ورشة إصلاح سيارات في مكان ما (باستثناء عدم وجود أنبوب عادم). لكن بالنسبة لهوانغ، الرئيسة التنفيذية لشركة «فاكتوريال إنرجي»، كان الفيديو علامةً فارقةً في سعيٍ استغرق عقداً من حياتها.

بطارية الحالة الصلبة الجديدة

بطاريات الحالة الصلبة

كانت هوانغ وزوجها أليكس يو وموظفوهما في شركة «فاكتوريال» يعملون على نوع جديد من بطاريات السيارات الكهربائية، يُعرف باسم بطاريات الحالة الصلبة solid state، الذي قد يُحدث نقلة نوعية في صناعة السيارات خلال بضع سنوات، إذا ما تم التغلب على عدد هائل من التحديات التقنية.

بالنسبة لهوانغ وشركتها، كان لهذه البطارية القدرة على تغيير نظرة المستهلكين للسيارات الكهربائية، ومنح الولايات المتحدة وأوروبا ميزة تنافسية على الصين، والمساهمة في إنقاذ كوكب الأرض.

وكانت «فاكتوريال» واحدة من عشرات الشركات التي تسعى إلى ابتكار بطاريات تُشحن أسرع، وتقطع مسافات أطول، وتجعل السيارات الكهربائية أرخص وأكثر راحة من السيارات التي تعمل بالبنزين. ويُعدّ النقل أكبر مصدر لغازات الاحتباس الحراري من صنع الإنسان، ويمكن أن تكون السيارات الكهربائية سلاحاً فعالاً في مواجهة تغير المناخ وتلوث الهواء في المناطق الحضرية.

خلايا البطارية تختبر داخل مختبرات مرسيدس

نجاح الاختبارات

كان الفيديو الذي وصل إلى هاتف هوانغ من أوي كيلر، رئيس قسم تطوير البطاريات في شركة «مرسيدس-بنز»، التي كانت تدعم أبحاث فاكتوريال بالمال والخبرة.

أشار مقطع قصير لسيارة مرسيدس سيدان في مختبر أبحاث بالقرب من شتوتغارت، ألمانيا، إلى أن الشركة قد ركّبت بطارية فاكتوريال في سيارة، وأنها قادرة بالفعل على تحريك العجلات.

كان الاختبار خطوة مهمة إلى الأمام في رحلة بدأت بينما كان الزوجان هوانغ ويو لا يزالان طالبي دراسات عليا في جامعة كورنيل. حتى ذلك الحين، كان كل عملهما في المختبرات. وكانت هوانغ متحمسًة لانطلاق اختراعهما إلى العالم.

لكن الطريق لا يزال طويلاً. لم تكن سيارة مرسيدس المزودة ببطارية فاكتوريال قد وضعت على الطرق بعد، أي في الميدان الوحيد الذي تُعدّ فيه هذه التكنولوجيا ذات أهمية حقيقية.

نماذج أولية في طور التصميم

وقد أنتج العديد من الشركات الناشئة نماذج أولية لبطاريات الحالة الصلبة. لكن لم يُثبت أي مصنع سيارات أميركي أو أوروبي أن هذه التكنولوجيا قادرة على الصمود في وجه المطبات والاهتزازات ورطوبة الشوارع. أو إن كانت نجحت أي منها في ذلك، فقد أبقته سراً.

في أواخر عام 2023، اقترح كيلر، وهو مهندس مخضرم في «مرسيدس»، على هوانغ أن يُجرّبا وضع النماذج. وقال كيلر لاحقاً: «نحن من عشاق السيارات. نؤمن بالأشياء التي تُحدث نقلة نوعية».

مصممة البطارية سيو هوانغ

جذور صينية

تتميز هوانغ في قطاع يهيمن عليه رجال من وادي السيليكون الذين يتفاخر بعضهم بأسبوع عملهم الذي يصل إلى 100 ساعة؛ أما هوانغ فتؤمن بالنوم الهانئ. وتقول: «إن صفاء الذهن لاتخاذ القرار الصائب أهم من عدد ساعات العمل».

وهوانغ شخصية يسهل التواصل معها وتضحك بسهولة، لكنها تتميز أيضاً بالعزيمة. وقد تخرجت في جامعة كورنيل - دكتوراه في الكيمياء وماجستير في إدارة الأعمال.

وكانت الباحثة نشأت في نانجينغ، الصين، حيث التحقت ببرنامج في مدرسة ابتدائية لجمع البيانات البيئية. وغرس البرنامج فيها اهتماماً بالكيمياء ووعياً بعوادم السيارات والتلوث الصناعي الذي يُخنق هواء نانجينغ. وتذكر يو أن زوجته أدركت «أننا بحاجة إلى بناء كوكب أكثر صحة للبشر».

ويشغل يو الآن منصب الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في شركة فاكتوريال. وبهذا المعنى، تُعتبر الشركة شركة عائلية.

استثمارات «مرسيدس» للتخلص من البطاريات السائلة

في البداية، ركزت الشركة على تحسين المواد التي تسمح للبطاريات بتخزين الطاقة. تغير ذلك بعد استثمار «مرسيدس» في فاكتوريال عام 2021. كانت «مرسيدس» تتطلع إلى قفزة تكنولوجية أكبر، وشجعت فاكتوريال على السعي وراء بطاريات الحالة الصلبة.

تسمى هذه التقنية بهذا الاسم لأنها تتخلص من الخليط الكيميائي السائل، المعروف باسم «الإلكتروليت»، الذي يساعد على نقل الأيونات المحملة بالطاقة داخل البطارية. والإلكتروليتات السائلة شديدة الاشتعال، ولذا فإن استبدالها بإلكتروليت صلب أو شبيه بالجيلاتين يجعل البطاريات أكثر أماناً.

يمكن شحن البطارية التي لا ترتفع حرارتها بشكل أسرع، ربما في وقت قصير مثل ملء سيارة بالبنزين. كما أن بطاريات الحالة الصلبة تخزن طاقة أكبر في مساحة أصغر، مما يقلل الوزن ويزيد المدى.

لكن بطاريات الحالة الصلبة لها عيب كبير يفسر سبب عدم إمكانية شراء سيارة مزودة بها اليوم، فخلايا هذه البطاريات أكثر عرضة لتكوين نتوءات شائكة تسبب قصراً (دائرة قصيرة) في الدوائر الكهربائية. لذا فإن الشركات تحتاج إلى مبالغ مالية هائلة للتغلب على هذه المشكلة وتطوير بطارية متينة وآمنة وسهلة التصنيع إلى حد معقول.

داخل مختبرات شركة فاكتوريال

جحيم الإنتاج

من البديهي في صناعة البطاريات أن إنتاج نموذج أولي رائع هو الجزء السهل. يكمن التحدي في إيجاد طريقة لصنع ملايين البطاريات الصلبة بسعر معقول.

وقد واجهت شركة فاكتوريال هذه المشكلة في عام 2022، فأنشأت مصنعاً تجريبياً صغيراً في تشيونان، كوريا الجنوبية، وهي مدينة قريبة من سيول تشتهر بصناعتها التكنولوجية. وأصبح المشروع، على حد تعبير هوانغ، «جحيم الإنتاج» - وهي العبارة نفسها التي استخدمها إيلون ماسك عندما كانت شركة تسلا تكافح لإنتاج سيارة سيدان بكميات كبيرة وكادت أن تُفلس.

لجني الأرباح، لا يمكن لمصنع بطاريات إنتاج الكثير من الخلايا المعطوبة. ومن الناحية المثالية، يجب أن تكون نسبة الخلايا الصالحة للاستخدام 95 في المائة على الأقل. ويُعد تحقيق هذا الهدف أمراً بالغ الصعوبة، إذ يتطلب استخدام مواد كيميائية متطايرة وفواصل هشة مُركّبة ومُغلّفة في خلايا مع هامش خطأ صفري. الآلات التي تُجري كل هذا مُغلّفة بحجرات من البليكسيغلاس، ويشرف عليها عمال يرتدون معدات واقية تغطي كامل الجسم لمنع التلوث.

تنافس شركات السيارات

تسعى عشرات الشركات إلى إنتاج خلايا الحالة الصلبة بكميات كبيرة، بما في ذلك شركات صناعة سيارات كبيرة مثل «تويوتا»، وشركات أصغر مثل كوانتم سكيب، وهي شركة ناشئة في وادي السيليكون مدعومة من «فولكس فاغن». كما تعمل «مرسيدس»، في محاولة للتحوّط في رهاناتها، مع شركة برولوغيوم التايوانية.

وفي الصين تسوق شركة نيو الصينية لصناعة السيارات، سيارةً تُسوّق لها على أنها بطارية حالة صلبة. ويقول المحللون إن هذه التكنولوجيا أقل تطوراً مما تُطوّره شركة فاكتوريال، حيث تُقدّم مزايا أقل من حيث الوزن والأداء. لكن لا شك أن الشركات الصينية تستثمر بكثافة في خلايا الحالة الصلبة.

نظراً لصعوبة تصنيع بطاريات الحالة الصلبة، يشكك العديد من المسؤولين التنفيذيين في قطاع السيارات في جدوى هذه البطاريات تجارياً في المستقبل القريب. وقد انخفضت أسهم العديد من الشركات الناشئة في مجال بطاريات الحالة الصلبة، وأصبحت الاضطرابات الإدارية أمراً شائعاً.

نجاح إنتاجي

وفي البداية، كان خط تجميع النماذج الأولية لشركة فاكتوريال في كوريا الجنوبية يحقق إنتاجية بنسبة 10 في المائة فقط، مما يعني أن 90 في المائة من بطارياتها كانت معطوبة.

بحلول عام 2023، كانت شركة فاكتوريال قد أنتجت ما يكفي من الخلايا المناسبة لسيارة، لذا بدأ كيلر، الرجل الذي عمل في «مرسيدس» لمدة 25 عاماً، يفكر في تركيبها في سيارة. كانت التكلفة واحتمال الفشل مرتفعين بما يكفي لطلب موافقة رؤسائه. ومتسلحاً بعروض تقديمية من «باوربوينت»، ذهب كيلر إلى أولا كالينيوس، وهو سويدي مهيب يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة مرسيدس.

وافق كالينيوس على المشروع، مُعتبراً أن الهدف الملموس سيُحفز الفريق ويُسرّع عملية التطوير. وشبه ذلك بسباقات الفورمولا 1. ويتذكر كالينيوس: «إذا كنت تُطارد القائد، وفجأة تراه، تُصبح أسرع».

اندهشت هوانغ قليلاً عندما أخبرها كيلر في أواخر عام2023 أن «مرسيدس» تُريد تركيب الخلايا في سيارة صالحة للعمل. قالت ضاحكة: «لم نكن ندرك أن الأمر سيأتي قريباً هكذا، بصراحة».

ولكن بحلول يونيو (حزيران) 2024، تمكنت شركة فاكتوريال من إنتاج ما يكفي من الخلايا عالية الجودة للإعلان عن بدء تسليمها إلى «مرسيدس». وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حقق المصنع في كوريا الجنوبية إنتاجاً بنسبة 85 في المائة، وهي أفضل نتيجة حتى الآن.

اختبار مرسيدس ببطارية جديدة

لا يزال على «مرسيدس» إيجاد طريقة لتغليف الخلايا بطريقة تحميها من اتساخ الطرق السريعة ورطوبة الجو. وكان عليها أيضاً دمج حزمة البطارية في السيارة، وربطها بأنظمة التحكم فيها.

بحلول عيد الميلاد 2024، أرسل فريق يعمل في مركز أبحاث مرسيدس الرئيسي في سيندلفينغن، خارج شتوتغارت، رسالة نصية إلى كيلر تحتوي على الكلمتين: «عجلات تدور». وبعد عدة أسابيع، أخذ مهندسو «مرسيدس» السيارة المزودة ببطارية فاكتوريال، وهي سيارة سيدان كهربائية قياسية من طراز EQS، إلى حلبة الشركة لإجراء أول اختبار قيادة لها.

قاد المهندسون السيارة ببطء في البداية، وراقبوا بعناية البيانات الفنية المعروضة على شاشة لوحة القيادة. انطلقوا بسرعة فائقة حتى وصلوا في اليوم الرابع إلى سرعة 160 كيلومتراً في الساعة على الطرق السريعة. لم تنفجر البطارية. نظرياً، يمكنها تشغيل السيارة لمسافة 600 ميل، أي أكثر مما تستطيع معظم السيارات التقليدية قطعه بخزان بنزين واحد.

وستكون الخطوة التالية هي تجهيز أسطول من سيارات مرسيدس بالبطاريات، وإتقان عملية التصنيع، وإجراء الاختبارات اللازمة لبدء بيعها. وسيستغرق ذلك على الأرجح حتى عام 2028 على الأقل. لا يتوقع العديد من الخبراء أن تكون السيارات المزودة ببطاريات الحالة الصلبة متاحة على نطاق واسع حتى عام 2030 على أقرب تقدير.

هوانغ تجرّب بطاريتها

وفي أبريل (نيسان) الماضي، وجدت هوانغ أخيراً وقتاً للسفر إلى شتوتغارت وقيادة السيارة بنفسها.

شاهدت هوانغ العديد من صور السيارة، لكنها شعرت بالإثارة عندما فُتحت أبواب المرأب. قالت: «شعرتُ وكأنني صديقٌ فقدته منذ زمن. كأنني أقول: أخيراً أراكِ!»

اصطحبها سائق مرسيدس في جولة على مسار الاختبار، حيث انطلقت بسرعةٍ على طريقٍ إسفلتيٍّ مستقيم، ثم انعطفت حول منحنى مائل، قالت هوانغ إنه أشبه برحلةٍ في قطارٍ ملاهٍ.

* خدمة «نيويورك تايمز».


مقالات ذات صلة

«سيسكو» ترسم ملامح عصر الذكاء الاصطناعي... والسعودية في قلب استراتيجيتها

خاص «سيسكو»: الذكاء الاصطناعي لم يعد مستقبلاً بل أصبح واقعاً يتطلب بنية تحتية جديدة وشاملة (سيسكو)

«سيسكو» ترسم ملامح عصر الذكاء الاصطناعي... والسعودية في قلب استراتيجيتها

«سيسكو» تطلق خلال مؤتمرها السنوي رؤية شاملة لعصر الذكاء الاصطناعي، واضعةً السعودية في قلب استراتيجيتها من خلال شراكات وبنية تحتية وتنمية المواهب.

نسيم رمضان (سان دييغو - الولايات المتحدة)
تكنولوجيا تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة أبل (رويترز)

«أبل» تطلق تطويراً ثورياً في أنظمة التشغيل مع توسع في الذكاء الاصطناعي

كشفت شركة أبل عن مجموعة واسعة من التحديثات الثورية لأنظمة التشغيل الخاصة بأجهزتها المختلفة.

مساعد الزياني (كوبيرتينو)
تكنولوجيا تسمح المنصة بترجمة ودبلجة صوت المتحدث إلى أكثر من 140 لغة في آن واحد مع محاكاة نبرة صوته الأصلية

«أكول»: ثورة في إنشاء الفيديو تُعيد تعريف التواصل المرئي بالذكاء الاصطناعي

تولد «شخصيات رقمية ذكية» في صور رمزية واقعية أو متخيلة قابلة للتخصيص بشكل كامل

خلدون غسان سعيد (جدة)
تكنولوجيا شخص يمشي بجوار أحد متاجر «أبل» (رويترز)

«أبل» تكشف عن رؤيتها البرمجية الجديدة في مؤتمر المطورين مع دفعة للذكاء الاصطناعي

ينطلق، اليوم (الاثنين)، مؤتمر شركة «أبل» السنوي للمطورين (WWDC 2025) في مدينة كوبرتينو بولاية كاليفورنيا الأميركية، وسط توقعات بأن تكشف الشركة عن حزمة من…

مساعد الزياني (كوبرتينو (كاليفورنيا))
الاقتصاد شخص يمر بجانب أحد متاجر «أبل» في مدينة نيويورك (رويترز)

«أبل» المتأخرة في الذكاء الاصطناعي تواجه تحديات معقّدة

تجد «أبل» نفسها أمام ملفات شائكة خلال عرضها التقديمي السنوي للمطورين، المزمع عقده اليوم الاثنين، في وقت تتسع فيه فجوة التأخّر عن منافسيها في الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (كوبرتينو )

شركة ذكاء اصطناعي... تسعى للاستيلاء على وظيفتك

شركة ذكاء اصطناعي... تسعى للاستيلاء على وظيفتك
TT

شركة ذكاء اصطناعي... تسعى للاستيلاء على وظيفتك

شركة ذكاء اصطناعي... تسعى للاستيلاء على وظيفتك

قبل عدة سنوات، عندما بدأتُ الكتابة عن جهود وادي السيليكون لاستبدال العمال والموظفين واستخدام الذكاء الاصطناعي، كان لدى معظم المديرين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا، على الأقل، الجرأة الكافية للكذب بشأن ذلك.

طمأنة خادعة للعاملين من تأثيرات الذكاء الاصطناعي

كان المديرون التنفيذيون يقولون لي: «نحن لا نُؤتمت العاملين، بل نُعزز قدراتهم. وأدوات الذكاء الاصطناعي لدينا لن تُدمر الوظائف، بل ستكون أدوات مساعدة تُحرر العاملين من العمل الروتيني».

بالطبع، كانت مثل هذه العبارات - التي غالباً ما كانت تهدف إلى طمأنة العاملين المتوترين وتغطية خطط أتمتة الشركات - تُشير إلى محدودية التكنولوجيا أكثر من دوافع المديرين التنفيذيين. في ذلك الوقت، لم يكن الذكاء الاصطناعي كافياً لأتمتة معظم الوظائف، وبالتأكيد لم يكن قادراً على استبدال العاملين الحاصلين على تعليم جامعي في قطاعات الأعمال المكتبية مثل التكنولوجيا والاستشارات والتمويل.

أولى النذائر.. ارتفاع معدلات البطالة بين الخريجين الجدد

هذا بدأ يتغير، إذ تستطيع بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم كتابة برمجيات، وإنتاج تقارير بحثية مفصلة، ​​وحل مسائل رياضية وعلمية معقدة. أما «وكلاء» الذكاء الاصطناعي الأحدث، فهي قادرة على تنفيذ سلسلة طويلة من المهام، والتحقق من عملها بأنفسها، كما يفعل الإنسان.

وبينما لا تزال هذه الأنظمة أقل كفاءة من البشر في العديد من المجالات، يخشى بعض الخبراء من أن الارتفاع الأخير في معدلات البطالة بين خريجي الجامعات يُعدّ مؤشراً على أن الشركات تستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل كبديل لبعض الموظفين المبتدئين.

مؤسسو الشركة من اليسار: بيسير أوغلو وماثيو بارنيت وإيجي إرديل

شركة ناشئة لأتمتة الوظائف

يوم الخميس، ألقيتُ نظرة خاطفة على مستقبل ما بعد العمل في فعالية أقامتها شركة «ميكانايز (Mechanize)» في سان فرانسيسكو، وهي شركة ناشئة جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، ولديها هدف طموح يتمثل في أتمتة جميع الوظائف - وظيفتك، ووظيفتي، ووظائف الأطباء والمحامين، والأشخاص الذين يصممون برامج الكمبيوتر وينشئون المباني ويرعون الأطفال.

قالت تاماي بيسير أوغلو، البالغة من العمر 29 عاماً، من مؤسسي «ميكانايز»: «هدفنا هو أتمتة العمل بالكامل. نريد الوصول إلى اقتصاد آلي بالكامل، وتحقيق ذلك في أسرع وقت ممكن».

إن حلم الأتمتة الكاملة ليس جديداً. إذ تنبأ جون ماينارد كينز، الخبير الاقتصادي، في ثلاثينات القرن العشرين بأن الآلات سوف تقوم بأتمتة جميع الوظائف تقريباً، ما يخلق وفرة مادية ويترك الناس أحراراً في متابعة هواياتهم.

هذا لم يحدث قط، بالطبع. لكن التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي أعادت إحياء الاعتقاد بأن التكنولوجيا القادرة على أتمتة العمل الجماعي باتت قريبة.

وكان داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة أنثروبيك، قد حذّر أخيراً من أن الذكاء الاصطناعي قد يحل محل ما يصل إلى نصف جميع الوظائف المكتبية المبتدئة في السنوات الخمس المقبلة.

التعليم المعزز

وتُعد شركة «ميكانايز» واحدة من عدد من الشركات الناشئة التي تعمل على تحقيق ذلك. تأسست الشركة هذا العام على يد بيسير أوغلو وإيجي إرديل وماثيو بارنيت، الذين عملوا معاً في شركة إيبوك إيه آي، وهي شركة أبحاث تدرس قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي.

وقد جذبت استثمارات من رواد التكنولوجيا المعروفين، بمَن فيهم باتريك كوليسون، مؤسس «سترايب»، وجيف دين، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في «غوغل». ويعمل لديها الآن خمسة موظفين، وتتعاون مع شركات رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي.

يركز نهج شركة «ميكانايز» لأتمتة الوظائف باستخدام الذكاء الاصطناعي على تقنية تُعرف باسم التعلم المعزز - وهي نفس الطريقة التي استُخدمت لتدريب جهاز كمبيوتر على ممارسة لعبة الطاولة «غو» بمستوى خارق للطبيعة قبل ما يقرب من عقد من الزمان.

تستخدم شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة اليوم التعلم المعزز لتحسين مخرجات نماذجها اللغوية، من خلال إجراء عمليات حسابية إضافية قبل توليد إجابة. وقد حققت هذه النماذج، التي تُسمى غالباً نماذج «التفكير (thinking)» أو «الاستدلال (reasoning)»، أداءً ممتازاً في بعض المهام المحددة، مثل كتابة التعليمات البرمجية أو حل المسائل الرياضية.

نظم ذكية لمهمات متعددة

لكن معظم الوظائف تتضمن القيام بأكثر من مهمة واحدة. ولا تزال أفضل نماذج الذكاء الاصطناعي اليوم غير موثوقة بما يكفي للتعامل مع أعباء

عمل أكثر تعقيداً، أو التعامل مع أنظمة الشركات المعقدة. ولإصلاح ذلك، تعمل «ميكانايز» على إنشاء بيئات تدريب جديدة لهذه النماذج - وهي في الأساس اختبارات مُعقدة يمكن استخدامها لتعليم النماذج ما يجب القيام به في سيناريو مُعين، والحكم على مدى نجاحها من عدمه.

بدأت شركة ميكانايز العمل في مجال برمجة الحاسوب، وهو مجالٌ أظهر فيه التعلم المعزز بعض النجاح. لكنها تأمل في إمكانية استخدام الاستراتيجية نفسها لأتمتة الوظائف في العديد من المجالات الإدارية الأخرى.

وكتبت الشركة في منشورٍ حديث على مدونتها: «لن ندرك نجاحنا إلا بعد أن نبتكر أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحمل جميع المسؤوليات تقريباً التي يمكن للإنسان القيام بها على الحاسوب».

الأتمتة الكاملة ستتم خلال نحو 20 سنة

ويدرك مؤسسو «ميكانايز» تماماً صعوبة أتمتة الوظائف بهذه الطريقة. فقد أخبرني بارنيت أن أفضل تقديراته تشير إلى أن الأتمتة الكاملة ستستغرق من 10 إلى 20 عاماً بينما يتوقع إرديل وبيسير أوغلو أن تستغرق من 20 إلى 30 عاماً.

وقد وجدتُ أيضاً أن عرضهم يفتقر، بشكلٍ غريب، إلى التعاطف مع الأشخاص الذين يحاولون استبدال وظائفهم، ولا يُبالون بمدى استعداد المجتمع لمثل هذا التغيير الجذري. وقال بيسير أوغلو إنه يعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيُحقق في النهاية «وفرة هائلة» وثروة يُمكن إعادة توزيعها على العمال المُسرّحين، في شكل دخل أساسي شامل يُمكّنهم من الحفاظ على مستوى معيشي مرتفع.

أخلاقيات إزاحة العامل البشري

في مرحلة ما خلال جلسة الأسئلة والأجوبة، سألتُ: هل من الأخلاقي أتمتة جميع أنواع العمل؟ أجاب بارنيت، الذي وصف نفسه بأنه ليبرالي، بـ«نعم». ويعتقد بارنيت أن الذكاء الاصطناعي سيُسرّع النمو الاقتصادي ويُحفّز تحقيق إنجازات تُنقذ الأرواح في الطب والعلوم، وأن مجتمعاً مزدهراً يعتمد على الأتمتة الكاملة سيكون أفضل من اقتصاد منخفض النمو حيث لا يزال البشر يمتلكون الوظائف. وأضاف: «إذا أصبح المجتمع كله أكثر ثراءً بكثير، فأعتقد أن ذلك سيُطغى على مساوئ فقدان الناس وظائفهم».

* خدمة «نيويورك تايمز».