حرب بيئية باردة تلوح في الأفق

منافسة تجارية عالمية تهدّد انتشار التقنيات الخضراء

حملة غربية من أجل تعزيز الإنتاج المحلي لتقنيات الطاقة النظيفة بما في ذلك توربينات الرياح (أ.ب)
حملة غربية من أجل تعزيز الإنتاج المحلي لتقنيات الطاقة النظيفة بما في ذلك توربينات الرياح (أ.ب)
TT

حرب بيئية باردة تلوح في الأفق

حملة غربية من أجل تعزيز الإنتاج المحلي لتقنيات الطاقة النظيفة بما في ذلك توربينات الرياح (أ.ب)
حملة غربية من أجل تعزيز الإنتاج المحلي لتقنيات الطاقة النظيفة بما في ذلك توربينات الرياح (أ.ب)

تُطلِق الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، العنان لسيل من الحوافز والإعانات الحكومية من أجل تعزيز الإنتاج المحلي لتقنيات الطاقة النظيفة، بما في ذلك الألواح الشمسية وتوربينات الرياح ووسائل النقل الكهربائية. وبينما تسهم هذه الخطوة في تسريع التحوُّل نحو اقتصادات محايدة كربونياً، فإنها تهدف أيضاً إلى تحدّي هيمنة الصين في قطاع التكنولوجيا الخضراء.

الغرب يخشى صدمة صينية جديدة

ترتبط الإعانات الحكومية للتقنيات النظيفة ارتباطاً وثيقاً بمتطلبات المحتوى المحلي الصارمة، التي تفرض أن يكون مصدر جزء كبير من المكوّنات والمواد المستخدمة في هذه التقنيات محلي الصنع. ويؤدي ذلك إلى زيادة التنافسية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، حيث تسعى جميع الدول إلى حماية صناعاتها المحلية وتعزيز مكاسبها في سوق التكنولوجيا الخضراء، التي من المتوقع أن تبلغ قيمتها العالمية 630 مليار دولار في 2030.

وتنفق الدول الغربية بسخاء على التقنيات النظيفة. فالاتحاد الأوروبي يعمل على توفير 272 مليار دولار لتخضير الصناعة، بما في ذلك تقديم إعفاءات ضريبية للشركات التي تستثمر في تقنيات الانبعاثات الصفرية. وسبق لحكومة الولايات المتحدة أن تعهدت بتخصيص 369 مليار دولار على شكل إعانات دعم مباشرة وإعفاءات ضريبية لتقنيات الطاقة النظيفة.

وتخشى الولايات المتحدة «صدمة صينية» جديدة، تشبه ما حصل خلال الفترة بين 1997 و2011 نتيجة اندماج الصين في النظام التجاري العالمي، ما أدى إلى فقدان نحو مليون عامل أميركي وظائفهم بسبب البضائع الصينية الرخيصة. ومنذ إطلاق أجندة «صُنِع في الصين» في عام 2014، تجاهلت الصين قواعد التجارة العالمية وأغدقت الهِبات على قطاعاتها الصناعية، لا سيما شركات صناعة السيارات، حيث بلغت المنح الحكومية للسيارات الكهربائية والهجينة ما يصل إلى 57 مليار دولار خلال الفترة ما بين 2016 و2022.

هذا التاريخ الطويل من التوترات التجارية، المدفوعة بالصراعات الجيوسياسية الباردة والمخاوف بشأن السياسات الصناعية التي تفرضها الحكومة الصينية، قد يتحوَّل إلى تصعيد حاد تواجه فيه الاقتصادات الغربية السطوة الصينية، عبر فرض تعريفات جمركية إضافية على الواردات الصينية أو تسريع التحقيقات في مكافحة الإغراق والدعم الحكومي.

وفي مقابل ذلك، يمكن للصين أن تلوّح دائماً بتدابيرها الانتقامية، كأن تفرض حظراً على تصدير المواد الخام كالمعادن النادرة التي لا غنى عنها في مسار التحوُّل الأخضر. وتهيمن الصين على منتجات التقنيات الخضراء، فحصّتها من الإنتاج العالمي تزيد على 80 في المائة من الألواح الشمسية و60 في المائة من توربينات الرياح. كما تحتل البلاد مكانةً رائدةً في مجال المعادن النادرة، حيث تسيطر على 95 في المائة من إنتاجها العالمي، ما يجعلها صاحبة اليد العليا في فرض الأسعار والتحكُّم بالصادرات.

وكانت الصين، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قد فرضت قيوداً على تصدير ثلاثة أنواع عالية النقاء من الغرافيت، وهو معدن ضروري لصنع أشباه الموصلات والإلكترونيات، ويشكِّل نحو 20 في المائة من كتلة بطاريات السيارات الكهربائية. وبموجب القواعد الجديدة، لا تستطيع الشركات الصينية تصدير أي من هذه الأنواع من دون الحصول على إذن مسبق من الحكومة.

وتأتي القيود الجديدة في أعقاب قواعد، وضعتها الصين في يونيو (حزيران) الماضي، على تصدير الغاليوم والجرمانيوم الضروريين لصناعة الإلكترونيات والمركبات الكهربائية. وتبدو الإجراءات الصينية نوعاً من رد الفعل في سياق الحرب التجارية الآخذة في الاتساع مع الولايات المتحدة، التي شددت قيودها الموضوعة منذ 2022 على أشباه الموصلات التي يمكن تصديرها إلى الصين، بهدف الحفاظ على التفوُّق التقني الأميركي.

تدافع من قبل دول غربية وأوروبية لتقنيات الطاقة النظيفة بما في ذلك توربينات الرياح (أ.ب)

وتسيطر الصين منذ فترة طويلة على قطاع السيارات الكهربائية العالمي، ليس فقط بسبب سوقها المحلية الكبيرة، ولكن أيضاً من خلال استثماراتها الضخمة في إنتاج البطاريات وسيطرتها على إمدادات المعادن. وتعمل على توسيع صادراتها من السيارات الكهربائية خارج البلدان النامية، مع استهداف الأسواق الأوروبية بشكل خاص. ومع ذلك، تبقى حصة السيارات الكهربائية الصينية دون 10 في المائة من مبيعات السيارات الكهربائية في الاتحاد الأوروبي، وفقاً لبيانات عام 2023.

مخاطر النزاع التجاري على المناخ العالمي

من المتوقع أن تؤدي السياسات الحمائية والانتقامية إلى تضخّم الأسعار في مختلف قطاعات الاقتصاد العالمي. ولذا قد تعيد الاقتصادات العالمية، على المدى الطويل، النظر في تحوُّلها بعيداً عن التقنيات المعتمدة على الكربون. فالتكاليف المرتفعة للتقنيات الخضراء سوف تجعلها أقل جدوى من الناحية الاقتصادية، ما سيدفع الحكومات إلى إعادة تقييم دعمها لاستثمارات الحياد الكربوني. وقد يؤدي ذلك إلى ركود أو حتى انعكاس التحوُّل الأخضر العالمي، ما سيعوق الجهود المبذولة للتخفيف من تغيُّر المناخ.

وفي الأسواق الناشئة، قد تتقلّص قدرة الدول الغربية على دعم تحوُّلات الطاقة، حيث من الممكن أن يؤدي تحويل الموارد نحو إنتاج التقنيات الخضراء المحلية إلى إجهاد القدرة المالية المتاحة لمساعدة البلدان النامية في انتقالها إلى مصادر طاقة أنظف. وسيتسبب ذلك في تفاقم أزمة فقر الطاقة السائدة في العديد من الدول النامية.

أراضٍ زراعية بالاستعانة بألواح شمسية في ثورمونت بماريلاند في الولايات المتحدة (أ.ب)

ومن المرجح أن تعرّض التوترات التجارية المتصاعدة أجندة المناخ العالمية للخطر، من خلال تأخير تحقيق أهداف خفض الانبعاثات إلى مستوى الصفر. فالتأثيرات المتراكمة لارتفاع التكاليف، وتعطيل سلاسل التوريد، والقيود التجارية المحتملة، ستسهم كلها في تأخير الجداول الزمنية الخاصة بتحقيق البلدان أهدافها في الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية.

لتجنُّب هذه السيناريوهات، يجب على الحكومات في الدول الغربية والصين الانخراط في تدابير استباقية للتخفيف من التوترات التجارية والتوجه نحو التعاون المستدام. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، إنشاء آليات حوار مفتوح وبنّاء لمعالجة الخلافات وتعزيز التعاون القائم على تبادل المنافع في قطاع التقنيات الخضراء. كما يتعيّن على المنظمات متعددة الأطراف، مثل منظمة التجارة العالمية، أن تلعب دوراً محورياً في وضع المبادئ التوجيهية والأُطر التي تعزز المنافسة العادلة وتحدّ من النزاعات التجارية الناشئة.

وفي هذا الشأن، يمكن الاستفادة من تجارب التعاون بين الدول الغربية ذاتها. فوسط مخاوف من اتساع الصدع التجاري بين ضفتي الأطلسي، تتابع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المفاوضات للوصول إلى اتفاق حول المعادن المهمة، من شأنه أن يسمح باحتساب المعادن الحيوية، المستخرجة أو المعالجة في الاتحاد الأوروبي، ضمن متطلبات الإعفاءات الضريبية للمركبات النظيفة بموجب قانون خفض التضخم الأميركي. كما يقوم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أيضاً بمواءمة السياسات المتعلقة بدعم أشباه الموصلات بموجب قوانين الرقائق الخاصة بكل منهما، التي تم إقرارها في عامي 2021 و2022.

ويدرك الطرفان أن هذا التعاون بين جانبي الأطلسي يعزز فرصهما في مواجهة العملاق الآسيوي ويحسّن قدرة شركاتهما على الوصول إلى مكونات البطاريات ومستلزمات التقنيات النظيفة. وفي الوقت ذاته، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تحقيق أهدافهما البيئية، لا سيما التوسع في استخدام السيارات الكهربائية، بمعزل عن التعاون مع الصين.

وبينما تسهم الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعةً بنصف الانبعاثات العالمية من ثاني أكسيد الكربون، يمكن لمستوى صحي من المنافسة أن يحفّز الابتكار ويدعم الطاقة النظيفة ويؤمن سلاسل التوريد. في المقابل، يؤدي التصعيد والعداء بين قوى التكنولوجيا الخضراء إلى إبطاء التنمية ومنع الأسواق في جميع أنحاء العالم من الوصول إلى أفضل الأدوات لمكافحة الانبعاثات.

إن النزاع المتصاعد يضع مسؤولية كبيرة على الحكومات التي يُفترض بها التأكد من أن الحوافز والإعانات المقدمة للتقنيات الخضراء، بهدف تعزيز القدرات المحلية وزيادة التنافسية العالمية، تتماشى مع الأهداف البيئية ولا تؤدي إلى استنزاف الموارد أو الإضرار بالبيئة. كما يتعيّن على البلدان المتقدمة أن تعمل معاً لدعم تحولات الطاقة في الأسواق الناشئة، وتوفير المساعدات المالية والخبرة التقنية لتسهيل انتقالها إلى مصادر طاقة أنظف.

وبينما ينطوي دعم التحوُّل الأخضر على طموح كبير بتحقيق مستقبل أكثر مرونة واستدامة، يحب أن يتم هذا التحوُّل على نحو مخطط وواعٍ لتفادي الحروب التجارية وضمان حصول الجميع على منافع التقنيات الخضراء.


مقالات ذات صلة

علماء يحذّرون من انهيار سريع لتيار رئيسي في المحيط الأطلسي

بيئة أشخاص يسبَحون في المحيط الأطلسي بجنوب غربي فرنسا (أ.ب)

علماء يحذّرون من انهيار سريع لتيار رئيسي في المحيط الأطلسي

دقّ علماء ناقوس الخطر بشأن انهيار أسرع من المتوقع لنظام معقّد من التيارات المحيطية بالمحيط الأطلسي، من شأنه أن يؤدي لعواقب «كارثية» على دول اسكندنافيا الغارقة.

«الشرق الأوسط» (اوسلو)
الاقتصاد طائرة تابعة لـ«طيران ناس» السعودي (الشرق الأوسط)

«طيران ناس» يوقع اتفاقية تعاون مع «سوق الكربون الطوعي الإقليمية»

وقّع «طيران ناس»، الناقل الجوي السعودي، اتفاقية مع «شركة سوق الكربون الطوعي الإقليمية» المملوكة لـ«صندوق الاستثمارات العامة» و«مجموعة تداول السعودية القابضة».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
علوم يتم إنتاج كميات كبيرة من الكتل الحيوية من مياه الصرف الصحي يومياً (جامعة ولاية بنسلفانيا)

استخراج مواد لاصقة ودهانات من مياه الصرف الصحي

تتجه مجموعة من الباحثين إلى إحداث ثورة في مجال تطبيقات «الكتلة الحيوية» المستخرجة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد من افتتاح «المنتدى اللوجيستي العالمي» في الرياض (تصوير: تركي العقيلي)

السعودية تنجح في تجارب «أول قطار هيدروجيني» إقليمياً

نجحت السعودية في تجارب أول قطار هيدروجيني؛ بهدف قياس مدى مناسبة هذه التقنية للبيئة في المملكة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد مركز الملك عبد الله المالي في الرياض (الشرق الأوسط)

«السيادي» السعودي يضع 19.4 مليار دولار للإنفاق على المشاريع الخضراء

حدد صندوق الاستثمارات العامة السعودي متطلبات الإنفاق الرأسمالي الخاص بالمشاريع الخضراء المؤهلة بقيمة 19.4 مليار دولار.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

واشنطن وبكين لعقد قمة بشأن انبعاثات الميثان

المبعوث الأميركي للمناخ جون بوديستا خلال اجتماع ثنائي مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي في قاعة الشعب الكبرى في بكين 6 سبتمبر 2024 (إ.ب.أ)
المبعوث الأميركي للمناخ جون بوديستا خلال اجتماع ثنائي مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي في قاعة الشعب الكبرى في بكين 6 سبتمبر 2024 (إ.ب.أ)
TT

واشنطن وبكين لعقد قمة بشأن انبعاثات الميثان

المبعوث الأميركي للمناخ جون بوديستا خلال اجتماع ثنائي مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي في قاعة الشعب الكبرى في بكين 6 سبتمبر 2024 (إ.ب.أ)
المبعوث الأميركي للمناخ جون بوديستا خلال اجتماع ثنائي مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي في قاعة الشعب الكبرى في بكين 6 سبتمبر 2024 (إ.ب.أ)

أعلن المبعوث الأميركي للمناخ، جون بوديستا، الجمعة، أن واشنطن وبكين تحققان تقدماً باتجاه عقد قمة تتناول خفض انبعاثات الميثان، وغيره من الغازات المسببة لتلوّث شديد، التي لا تشمل ثاني أكسيد الكربون.

والصين أكبر مَصدَر في العالم لانبعاثات غازات الدفيئة المساهمة في تغير المناخ، بما في ذلك الميثان، تليها الولايات المتحدة.

وقال بوديستا إن المحادثات مع نظيره ليو جينمين، ووزير الخارجية وانغ يي، في بكين، كانت «ممتازة». وبينما أقر بوجود «بعض الخلافات»، أشار بوديستا إلى أن الجانبين وضعا خططاً لعقد قمة تتعلّق بالغازات غير ثاني أكسيد الكربون، وهي الميثان وأكسيد النيتروس ومركبات الهيدروفلوروكربون. وقال: «إنها تحظى باهتمام أقل لكنها تشكّل نصف (الغازات) المسببة للاحترار العالمي».

وأفاد وانغ، الجمعة، بأن محادثات بكين كانت «سلسلة»، مشيداً بـ«النتائج البراغماتية في مجال التعاون». وتابع: «الجانبان انخرطا في مزيد من الحوار، ووضّحا اتّجاه جهودنا المشتركة». وأضاف أن ذلك «يبعث رسالة إيجابية للعالم الخارجي مفادها أن الصين والولايات المتحدة، قوّتان كبريان، لا يتعيّن عليهما التعاون فحسب بل بإمكانهما بكل تأكيد العمل معاً».

وتتمحور محادثات المناخ عادة على خفض ثاني أكسيد الكربون، أحد أخطر غازات الدفيئة. لكن الميثان الذي يعد قوياً جداً، وإن كان لا يبقى مدة طويلة في الجو، هو هدف رئيسي للبلدان الساعية لخفض الانبعاثات بشكل سريع وتخفيف سرعة تغيّر المناخ.

يعود ذلك إلى أن مشاريع النفط والغاز تؤدي إلى تسرّب كميات كبيرة من الميثان إلى الجو. وازدادت انبعاثات الميثان الناجمة عن قطاع الوقود الأحفوري على مدى ثلاث سنوات متتالية، بحسب الوكالة الدولية للطاقة، لتصل إلى مستويات قياسية تقريباً عام 2023.

وعبّرت الولايات المتحدة عن نيتها عقد قمة مع الصين بشأن هذا النوع من الغازات أثناء قمة المناخ التي تنظمها الأمم المتحدة في أذربيجان في نوفمبر (تشرين الثاني) «كوب 29».

ولم توقع الصين على تعهّد عالمي قادته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لخفض انبعاثات الميثان العالمية بنسبة 30 في المائة على الأقل من المستويات المسجّلة في 2020 بحلول العام 2030.