إنهاء الحروب على طريقة ترمب... دبلوماسية «اللامتوقع»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يعتمد على الكلام اللطيف الدبلوماسي والمُنمّق (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يعتمد على الكلام اللطيف الدبلوماسي والمُنمّق (أ.ب)
TT

إنهاء الحروب على طريقة ترمب... دبلوماسية «اللامتوقع»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يعتمد على الكلام اللطيف الدبلوماسي والمُنمّق (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يعتمد على الكلام اللطيف الدبلوماسي والمُنمّق (أ.ب)

في عام 1906 حصل الرئيس الأميركي، تيودور روزفلت (جمهوري)، على جائزة نوبل للسلام بسبب توسّطه في الحرب اليابانيّة الروسيّة. شكّلت هذه الحرب هزيمة مدوية لروسيا، وهي أول حرب تنتصر فيها دولة آسيويّة على دولة غربيّة في العصر الحديث.

آمن روزفلت بعقيدة الرئيس جيمس مونرو، لكنه طوّرها لرسم منطقة نفوذ أميركية في القارة الأميركيّة، كما حق التدخّل العسكري عند الحاجة. لكنه، أي روزفلت، آمن أيضاً بدور أميركا في العالم، وهو الذي أرسل الأسطول الأبيض ليجوب بحار العالم إعلاناً عن صعود أميركا بصفتها «قوة بحرية كونيّة». اعترف روزفلت بمنطقة نفوذ اليابان في شرق آسيا، الأمر الذي وضع شبه الجزيرة الكورية تحت الهيمنة اليابانيّة.

الرئيسان الصيني شي جينبينغ والأميركي دونالد ترمب خلال قمة «جي 20» في أوساكا (اليابان) في 29 يونيو 2019 (رويترز)

يسعى الرئيس دونالد ترمب (جمهوري) للحصول على جائزة نوبل للسلام، عبر سعيه لهندسة الحلول للحروب الدائرة في كل من أوكرانيا وقطاع غزة. كما يسعى لرسم منطقة نفوذ حول الولايات المتحدة الأميركية في كل من غرينلاند، وقناة بنما وكندا؛ الأمر الذي حدا بالكثير من المفكّرين إلى القول والتنظير بعودة مفهوم «مناطق النفوذ». تهيمن حالياً الصين على محيطها المُباشر، فهل سيعترف ترمب بمنطقة نفوذ صينيّة تضمّ تايوان؟

يختلف ترمب عن روزفلت في اعتماده على الجيواقتصاد بدل الجيوسياسة. كما يختلف عما قاله روزفلت حول الوسائل التي يجب على الدولة استعمالها في الدبلوماسيّة: «تحدّث بلطف، لكن احمل عصا غليظة، وسوف تذهب بعيداً». لا يعتمد ترمب على الكلام اللطيف الدبلوماسي والمُنمّق. لا بل كلامه مباشر، وجلف، وعلني، ومُهين في بعض الأوقات، ومباشر لبعض الضيوف من رؤساء الدول، وفي البيت الأبيض.

صورة مركبة للرؤساء الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأميركي دونالد ترمب (أ.ف.ب)

في الحرب الروسيّة - الصينيّة، كانت اليابان هي الرابح المُطلق. لكن في الحرب الأوكرانية وفي قطاع غزة، لم يتضح حتى الآن من هو الرابح، حتى ولو كانت الكفة تميل إلى كل إسرائيل وروسيا.

ساهمت سياسات الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان (جمهوري) في تسريع سقوط الاتحاد السوفياتي، خاصة عبر جرّ السوفيات إلى سباق التسلّح، وأهمها «مبادرة الدفاع الاستراتيجيّ» عام 1983، التي سُمّيت بـ«حرب النجوم». أعلن الرئيس ترمب مؤخراً مشروع بناء «القبّة الذهبيّة»، بهدف حماية الأرض الأميركية من الصواريخ التي تُطلق من الأعداء. تقدّر تكلفة هذه القبة بـ175 مليار دولار، وتؤمّن، وحسب ترمب، حماية أميركا بنسبة قريبة من الـ100 في المائة.

لا يسعى الرئيس ترمب إلى إسقاط روسيا الحالية. كما لا يسعى إلى ضرب الأهداف الجيوسياسيّة للرئيس فلاديمير بوتين، في أوروبا الشرقيّة، وخاصة في أوكرانيا. لا بل، يُفسّر سلوكه على أنه عملية إنقاذ للرئيس بوتين في حربه المُتعثّرة في أوكرانيا.

إطلاق قذيفة مدفعية من قبل وحدة أوكرانية باتجاه المواقع الروسية (رويترز)

هندسة الحلول

في الأزمة الكوبية، هندس الرئيس جون كينيدي الحل عبر القنوات السريّة، وليس عبر المؤسسات الدولية. فهو فعلاً فضح الخداع السوفياتي حول نشر صواريخ نوويّة في كوبا، بعد أن عرض الصور الجويّة في مجلس الأمن التي تؤكّد ذلك.

في عام 1952، هدّد الرئيس دوايت أيزنهاور باستعمال السلاح النووي، وذلك في محاولة لإنهاء الحرب الكوريّة. شكّل السلاح النووي في ذلك الوقت أكبر رادع لأعداء الولايات المتحدة الأميركيّة - الرد الشامل (Total Response)، وذلك حتى بدء الحرب الفيتنامية، حيث اعتمد مبدأ الرد المرن (Flexible Response). في الحرب الفيتنامية، هندس هنري كيسنجر الحل عبر التصعيد، كما الدبلوماسيّة في باريس، وفي الوقت نفسه عبر اعتماد استراتيجيّة «الرجل المجنون» في العلاقات الدوليّة، (Mad Man Theory)، التي تشير إلى أن «القائد غير عقلانيّ، غير مُتوقّع؛ الأمر الذي يكسب هذا القائد ميزة وتفوّقاً في التفاوض».

يقول الخبراء إن هناك نمطاً أصبح واضحاً ومعروفاً لسلوك الرئيس ترمب في علاقاته الدولية، ألا وهو «اللامُتوقّع»، (Unpredictability)، لكن من دون مبدأ «الرجل المجنون»، الذي يتطلّب التهديد بالقوّة العسكريّة. لكن تكرار السلوك غير المتوقّع، سيؤدّي حكماً إلى تظهّر نمط واضح، ليصبح اللامتوقع متوقّعاً.

دمار في غزة جراء الحرب الإسرائيلية (أ.ب)

وإذا صدقت مقولة «إن على كل حرب أن تنتهي»، فمن الضروري إذن هندسة الحلول. تنتهي الحرب إما بانتصار فريق على آخر، أو عبر التفاوض، خاصة إذا أصبحت الحرب مُكلفة، وبعد أن وصلت إلى امتدادها الأقصى. عند الهندسة، يجب إرضاء الأفرقاء المتقاتلة. فالمهمّ هو في الصورة، وفي كيفيّة إخراج الحل. وهنا قد تُطرح الكثير من الأسئلة حول الحرب الأوكرانيّة، وهي:

تعتبر الحرب لأوكرانيا على أنها مسألة حياة أو موت. فهل ستتخلى عن الشرق الأوكراني حيث الثروات الطبيعيّة، ووحدة الأرض؟ فما هو الحد الأدنى الذي من الممكن أن تقبل به أوكرانيا؟ وكيف سيتم إخراج صورة الحل؟ خاصة أن التفاوض حول إنهاء الحرب يحصل علناً، ومع تسريب من وقت إلى آخر لخرائط عن التنازلات الأوكرانية لصالح روسيا. هذا بالإضافة إلى غياب البعد العسكري (عصا روزفلت) الأميركي تجاه روسيا، ومحاولة إضعاف الحليف الأوكراني عبر حرمانه من العصا العسكريّة.

تعتبر أوكرانيا في العقل الروسي على أنها روسيا الصغرى. وهي جزء أساسي وحيوي من الأمن القومي الروسي. وحسب المفكّر الأميركي الراحل زبيغنيو بريجينسكي، لا يمكن لروسيا استعادة موقعها باعتبارها قوة عظمى من دون السيطرة على أوكرانيا.


مقالات ذات صلة

أميركا تخطط لزيادة عدد الدول على قائمة حظر السفر لأكثر من 30

الولايات المتحدة​ دونالد ترمب (إ.ب.أ) play-circle

أميركا تخطط لزيادة عدد الدول على قائمة حظر السفر لأكثر من 30

قالت وزيرة الأمن الداخلي الأميركية كريستي نويم، الخميس، إن إدارة الرئيس دونالد ترمب تخطط لزيادة عدد الدول التي يشملها حظر سفر إلى أكثر من 30 دولة.

الولايات المتحدة​ وزيرة العدل الأميركية بام بوندي (أ.ب)

وزيرة العدل الأميركية تكلف «إف بي آي» بإجراء تحقيقات تتعلق بالإرهاب الداخلي

أمرت وزيرة العدل الأميركية بام بوندي، الخميس، سلطات إنفاذ القانون الاتحادية بتكثيف التحقيقات بشأن حركة (أنتيفا) المناهضة للفاشية وغيرها من «الجماعات المتطرفة».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ لقطة من فيديو نشره الرئيس الأميركي دونالد ترمب لقارب يحترق قبالة سواحل فنزويلا بعد إصابته بغارة أميركية (أرشيفية - رويترز)

مقتل 4 أشخاص في ضربة أميركية استهدفت قارباً يشتبه بتهريبه المخدرات

قال الجيش الأميركي، اليوم، إنه قتل أربعة أشخاص في غارة على قارب يشتبه في أنه كان ينقل مخدرات في المياه الدولية في شرق المحيط الهادي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد لافتة لشركة «لوك أويل» على منصة النفط فيلانوفسكوغو في بحر قزوين بروسيا (رويترز)

الولايات المتحدة تعلن تعليق بعض عقوباتها على شركة نفط روسية

أعلنت الولايات المتحدة تعليق بعض العقوبات التي فرضتها على شركة النفط الروسية العملاقة «لوك أويل»، للسماح لمحطات الوقود في خارج روسيا بمواصلة العمل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
رياضة عالمية مركز كيندي سيكون مقراً لسحب قرعة كأس العالم 2026 في واشنطن (رويترز)

إيران ستحضر قرعة كأس العالم بعد التلويح بالمقاطعة بسبب التأشيرات

ذكرت تقارير إعلامية، اليوم (الخميس)، أن وفداً إيرانيّاً سيحضر قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 غداً (الجمعة) رغم إعلان إيران سابقاً مقاطعة الحفل المقرر بواشنطن.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

بلاغ عن تعرّض سفينة لإطلاق نار على بعد 15 ميلاً بحرياً غرب اليمن

صورة من الأقمار الاصطناعية تظهر سفينة الشحن «روبيمار» المملوكة لبريطانيا والتي تعرضت لهجوم من قبل الحوثيين في اليمن قبل غرقها في البحر الأحمر - 1 مارس 2024 (رويترز)
صورة من الأقمار الاصطناعية تظهر سفينة الشحن «روبيمار» المملوكة لبريطانيا والتي تعرضت لهجوم من قبل الحوثيين في اليمن قبل غرقها في البحر الأحمر - 1 مارس 2024 (رويترز)
TT

بلاغ عن تعرّض سفينة لإطلاق نار على بعد 15 ميلاً بحرياً غرب اليمن

صورة من الأقمار الاصطناعية تظهر سفينة الشحن «روبيمار» المملوكة لبريطانيا والتي تعرضت لهجوم من قبل الحوثيين في اليمن قبل غرقها في البحر الأحمر - 1 مارس 2024 (رويترز)
صورة من الأقمار الاصطناعية تظهر سفينة الشحن «روبيمار» المملوكة لبريطانيا والتي تعرضت لهجوم من قبل الحوثيين في اليمن قبل غرقها في البحر الأحمر - 1 مارس 2024 (رويترز)

ذكرت هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية، اليوم (الجمعة)، أن سفينة تم تحديد موقعها على بعد 15 ميلاً بحرياً غرب اليمن أبلغت عن واقعة.

وقالت الهيئة إن «سفينة أبلغت عن رصد قارب صغير... وعن التعرض لإطلاق نار».

وتشن جماعة الحوثي في اليمن هجمات على سفن تجارية في البحر الأحمر تقول إنها مرتبطة بإسرائيل، وذلك منذ اندلاع الحرب في غزة بعد هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على جنوب إسرائيل. وقالت الجماعة إن هجماتها للتضامن مع الفلسطينيين.


بوتين: المقترح الأميركي بشأن أوكرانيا يتضمّن نقاطاً «لا يمكن الموافقة عليها»

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته بفعالية في موسكو بروسيا يوم 3 ديسمبر 2025 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته بفعالية في موسكو بروسيا يوم 3 ديسمبر 2025 (رويترز)
TT

بوتين: المقترح الأميركي بشأن أوكرانيا يتضمّن نقاطاً «لا يمكن الموافقة عليها»

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته بفعالية في موسكو بروسيا يوم 3 ديسمبر 2025 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته بفعالية في موسكو بروسيا يوم 3 ديسمبر 2025 (رويترز)

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن بعض المقترحات في خطة أميركية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، غير مقبولة للكرملين، مشيراً في تصريحات نُشرت اليوم (الخميس) إلى أن الطريق لا يزال طويلاً أمام أي اتفاق، لكنه شدد على ضرورة «التعاون» مع واشنطن لإنجاح مساعيها بدلاً من «عرقلتها».

وقال بوتين في التصريحات: «هذه مهمّة معقّدة وصعبة أخذها الرئيس (الأميركي دونالد) ترمب على عاتقه».

وأضاف أن «تحقيق توافق بين أطراف متنافسة ليس بالمهمة بالسهلة، لكن الرئيس ترمب يحاول حقاً، باعتقادي، القيام بذلك»، متابعاً: «أعتقد أن علينا التعاون مع هذه المساعي بدلاً من عرقلتها».

وأطلق الرئيس الأميركي دونالد ترمب أقوى دفعة دبلوماسية لوقف القتال منذ شنت روسيا الغزو الشامل على جارتها قبل نحو أربع سنوات. ولكن الجهود اصطدمت مجدداً بمطالب يصعب تنفيذها، خاصة بشأن ما إذا كان يجب على أوكرانيا التخلي عن الأراضي لروسيا، وكيف يمكن أن تبقى أوكرانيا في مأمن من أي عدوان مستقبلي من جانب موسكو.

وتأتي تصريحات الرئيس الروسي في الوقت الذي يلتقي فيه المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، جاريد كوشنر، بكبير المفاوضين الأوكرانيين رستم أوميروف، اليوم، في ميامي لإجراء مزيد من المحادثات، بحسب مسؤول أميركي بارز اشترط عدم الكشف عن هويته؛ لأنه غير مخوّل له التعليق علانية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وشخصيات روسية سياسية واقتصادية يحضرون محادثات مع المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب في قصر مجلس الشيوخ بالكرملين في موسكو بروسيا يوم 2 ديسمبر 2025 (أ.ب)

محادثات «ضرورية»

وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن محادثاته التي استمرت خمس ساعات، الثلاثاء، في الكرملين مع ويتكوف وكوشنر كانت «ضرورية» و«مفيدة»، ولكنها كانت أيضاً «عملاً صعباً» في ظل بعض المقترحات التي لم يقبلها الكرملين، وفق ما نقلته وكالة «أسوشييتد برس».

وتحدث بوتين لقناة «إنديا توداي تي في» قبل زيارته لنيودلهي، اليوم. وبينما لم تُبث المقابلة بأكملها بعد، اقتبست وكالتا الأنباء الروسيتان الرسميتان «تاس» و«ريا نوفوستي» بعض تصريحات بوتين.

ونقلت وكالة «تاس» عن بوتين القول في المقابلة، إن محادثات الثلاثاء في الكرملين تحتّم على الجانبين «الاطلاع على كل نقطة» من مقترح السلام الأميركي «وهذا هو السبب في استغراق الأمر مدة طويلة للغاية».

وأضاف بوتين: «كان هذا حواراً ضرورياً وملموساً»، وكانت هناك بنود، موسكو مستعدة لمناقشتها، في حين «لا يمكننا الموافقة» على بنود أخرى.

ورفض بوتين الإسهاب بشأن ما الذي يمكن أن تقبله أو ترفضه روسيا، ولم يقدّم أي من المسؤولين الآخرين المشاركين تفاصيل عن المحادثات.

ونقلت وكالة «تاس» عن بوتين القول: «أعتقد أنه من المبكر للغاية؛ لأنها يمكن أن تعرقل ببساطة نظام العمل» لجهود السلام.


القمة الروسية - الهندية تعزز «الشراكة الاستراتيجية» وتتحدى ضغوط واشنطن

لافتة ترحيبية ببوتين في أحد شوارع نيودلهي يوم 4 ديسمبر (رويترز)
لافتة ترحيبية ببوتين في أحد شوارع نيودلهي يوم 4 ديسمبر (رويترز)
TT

القمة الروسية - الهندية تعزز «الشراكة الاستراتيجية» وتتحدى ضغوط واشنطن

لافتة ترحيبية ببوتين في أحد شوارع نيودلهي يوم 4 ديسمبر (رويترز)
لافتة ترحيبية ببوتين في أحد شوارع نيودلهي يوم 4 ديسمبر (رويترز)

يبدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس، زيارة رسمية إلى الهند تستغرق يومين. وتعد واحدة من الزيارات الخارجية النادرة له منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022. ومثلما حظيت زيارته إلى الصين قبل ثلاثة أشهر، وقبلها إلى كوريا الشمالية العام الماضي، بأهمية كبرى في إطار رسم ملامح استراتيجية الكرملين في السياسة الخارجية، تُشكل الزيارة الحالية لنيودلهي منعطفاً حاسماً جديداً في مسار تعزيز تحالفات موسكو مع الشركاء التقليديين، خصوصاً على خلفية الضغوط الأميركية المتزايدة على الهند لتقليص تعاونها مع موسكو.

وفي أول زيارة له إلى العاصمة الهندية منذ أربع سنوات، يرافق بوتين وزير الدفاع أندريه بيلووسوف، ووفد واسع النطاق من قطاعي الأعمال، والصناعة. ومن أبرز الوجوه المرافقة لبوتين رئيسا شركتي الطاقة «روسنفت» و«غازبروم» اللتين تخضعان لعقوبات غربية، إلى جانب مسؤولي المجمع الصناعي العسكري، ومؤسسة «روس أبورون أكسبورت» المسؤولة عن الصادرات العسكرية. بالإضافة إلى رؤساء القطاع المصرفي الروسي الذي يخضع بدوره لعقوبات غربية. وتعكس تشكيلة الوفد المرافق أولويات أجندة الطرفين، وطبيعة النقاشات التي تم التحضير لها في موسكو، ونيودلهي.

برنامج حافل

على مدار يومي القمة، سيبحث الطرفان التعاون في مجالات الدفاع، والطاقة النووية، والهيدروكربونات، والفضاء، والتكنولوجيا، والتجارة.

تُشكل زيارة بوتين لنيودلهي منعطفاً حاسماً جديداً في مسار تعزيز تحالفات موسكو مع الشركاء التقليديين (أ.ف.ب)

واستبق الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف الزيارة بإشارة إلى أن بوتين سوف يناقش مع رئيس الوزراء ناريندرا مودي «القضايا الدولية، والإقليمية»، مشدداً على اهتمام الكرملين بتطوير التعاون الثنائي، وفتح مجالات جديدة للتعاون، وأشار إلى موقف واشنطن السلبي تجاه الزيارة، وتلويحها بمضاعفة التعريفات الجمركية في حال استمرت نيودلهي في تعزيز تعاونها مع موسكو، وخصوصاً في مجال الطاقة، موضحاً أنه «لا ينبغي أن تخضع العلاقات التجارية بين موسكو ونيودلهي لتأثير دول ثالثة»، وأعرب عن قناعته بأن «مسألة التعريفات الجمركية الأميركية تظل قضية ثنائية بين الولايات المتحدة والهند». ووصف بيسكوف الإجراءات المفروضة على قطاع النفط الروسي بأنها غير قانونية، مؤكداً أن روسيا تبذل كافة الجهود الممكنة لضمان استمرار تجارة الطاقة، وتدفقها دون انقطاع رغم التحديات. وأشار إلى أن الزيارة ستشهد توقيع حزمة مهمة من الوثائق الثنائية، دون الإفصاح عن تفاصيل محددة.

تعزيز التعاون في مجال الطاقة

قبل زيارة بوتين، أجرى مسؤولون من الجانبين محادثات في مجالات واسعة من الدفاع، إلى الشحن، والزراعة، وفي أغسطس (آب) الماضي، اتفق الطرفان على بدء محادثات بشأن اتفاقية تجارة حرة بين الهند والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بقيادة روسيا.

وكرست هذه الخطوات مسار تعزيز العلاقة رغم بروز بعض المخاوف لدى مسؤولين في الهند أعربوا عن قلق من أن أي صفقات طاقة ودفاع جديدة مع روسيا قد تُثير رد فعل من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي ضاعف الرسوم الجمركية إلى 50 في المائة في أغسطس على السلع الهندية، عقاباً على مشتريات نيودلهي من النفط الخام الروسي.

بوتين يتحدّث خلال مؤتمر في موسكو يوم 3 ديسمبر (رويترز)

ويُشكّل ملف تعزيز التعاون في مجال الطاقة إحدى أولويات الكرملين، الذي أكد أن الهند سوف تواصل الحصول على معاملة تفضيلية.

زادت واردات النفط الروسية على مدار سنوات اتفاقية التجارة الحرة بنسبة 600 في المائة، مما جعل الهند المشتري الرئيس لصادرات النفط الروسية (38 في المائة). كما تشتري الهند الأسمدة، والزيوت النباتية، والفحم، والمعادن.

تُنقل هذه الشحنات عبر الممر البحري الشرقي الذي افتُتح مؤخراً بين فلاديفوستوك وميناء تشيناي الهندي، وهو طريق بطول 10300 كيلومتر يربط بين موانٍ استراتيجية في المحيطين الهادئ والهندي. كما يعمل ممر النقل بين الشمال والجنوب فإن هذا الممر يتيح الاستقلال عن اللوجستيات الغربية، والتسويات بالعملات الوطنية تجاوزاً للعقوبات الغربية بنسبة تصل إلى 90 في المائة. وأكد الطرفان مجدداً هدفهما المتمثل في زيادة حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030 (من 67 مليار دولار حالياً). وتطلب الهند دعماً لصادراتها إلى روسيا، لا سيما في مجالات الأدوية، والهندسة، والمنتجات الزراعية، ولتوفير فرص عمل للعمال الهنود المهاجرين، ويأتي ذلك تقديراً لإنجازات الهند في الالتفاف على العقوبات الغربية، خصوصاً في مجال تجارة النفط.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يحضران اجتماعاً على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند - أوزبكستان يوم 16 سبتمبر 2022 (رويترز)

في المقابل، تسعى موسكو إلى الحصول على مساعدة الهند للحصول على قطع غيار، ومعدات تقنية لأصولها النفطية، حيث عرقلت العقوبات الوصول إلى الموردين الرئيسين.

ووفقاً لمصدر حكومي في الهند، فإن نيودلهي تسعى على الأرجح إلى استعادة حصة 20 في المائة لشركة التنقيب عن الغاز الحكومية في مشروع «سخالين-1» في أقصى شرق روسيا.

وتسعى موسكو أيضاً إلى تطوير تعاملها في القطاع المالي والمصرفي مع الهند، وصرح نائب وزير الخارجية الروسي، أندريه رودينكو، بأنه ستتم خلال الزيارة مناقشة إمكانية إطلاق نظام الدفع الروسي «مير» في الهند، والذي من شأنه أن يُسهم في زيادة السياحة الروسية. ووفقاً له، فقد طُرحت هذه المسألة سابقاً خلال اجتماع بوتين مع وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار. وستُناقش الآن على أعلى مستوى في نيودلهي.

الصفقات العسكرية

ورغم الضغوط الأميركية، لا تخطط الهند لتجميد علاقاتها الدفاعية مع موسكو، لأنها تحتاج إلى دعم مستمر للعديد من الأنظمة الروسية التي تشغّلها.

وقال مسؤولان هنديان مطلعان على الأمر لـ«رويترز» إن طائرات «سوخوي-30» الروسية تشكل غالبية أسراب المقاتلات الهندية البالغ عددها 29 سرباً، وعرضت موسكو مقاتلتها الأكثر تطوراً «سوخوي-57» والتي من المرجح أن تكون جزءاً من المحادثات.

بوتين يلتقي المتطوعين المشاركين في جائزة #WeAreTogether الدولية في مركز التجارة العالمي في موسكو يوم 3 ديسمبر (إ.ب.أ)

ولم تتخذ الهند قراراً بعد بشأن النسخة المحدثة من «سوخوي»، لكن الكرملين أعلن أن هذا الموضوع سيكون مطروحاً للنقاش. ومن المرجح أن تناقش نيودلهي شراء المزيد من وحدات نظام الدفاع الجوي «إس-400» وفق تصريحات لوزير الدفاع الهندي راجيش كومار سينغ، الأسبوع الماضي. وتمتلك الهند الآن ثلاث وحدات، مع انتظار تسليم وحدتين إضافيتين بموجب صفقة عام 2018.

لكن الحديث عن تعاون دفاعي لا يقتصر على بيع الأسلحة، والمعدات، إذ قطعت موسكو ونيودلهي شوطاً مهماً لتوطين صناعات دفاعية في الهند لتصبح أبرز شريك عسكري لروسيا. وأفاد ديمتري شوغاييف مدير الهيئة الروسية للتعاون العسكري التقني بأن القمة الحالية سوف تبحث مشاريع عسكرية تقنية جديدة، وتوسيع العقود القائمة بين البلدين.

وتشير مصادر إلى أنه يمكن توطين إنتاج ما يقرب من نصف نظام «إس-400» في إطار سياسة نقل التكنولوجيا التي توليها الهند أولوية قصوى. وفي حال تم الاتفاق على شراء طائرات «سوخوي-57» المقاتلة، فسينتقل طيارو القوات الجوية الهندية بسهولة إلى الطائرات الروسية من الجيل الجديد، مع تأكيد أن شركة «هندوستان» للملاحة الجوية المحدودة المملوكة للدولة قادرة على صيانة الترسانة الروسية.

وأفادت تقارير بأن اتفاقيات قيد التطوير -أو وُقِّعت بالفعل- لإنتاج مشترك لنظام الدفاع الجوي «بانتسير»، واحتمال شراء الهند لنظام رادار الإنذار المبكر «فورونيج»، الذي يتجاوز مداه 6000 كيلومتر.

وأكد شوغاييف أن العلاقات العسكرية التقنية بين روسيا والهند تشهد تطوراً ملحوظاً رغم التحديات الدولية الراهنة، مشيراً إلى أنه لم يغلق أي مشروع عسكري تقني خلال عام 2025.

بوتين خلال تقديمه جائزة #WeAreTogether الدولية في موسكو، يوم 3 ديسمبر (إ.ب.أ)

ووفقاً للمسؤول الروسي ينتظر أن ينصب الاهتمام بشكل أساسي على الطائرات، وأنظمة الدفاع الجوي، والتعاون في تقنيات الطائرات المسيرة، والمساعدة في بناء سفن جديدة في أحواض بناء السفن الهندية. وأضاف: «تبدو آفاق الصادرات العسكرية إلى الهند في عام 2026 إيجابية للغاية، وأعتقد أن حجمها في العام المقبل سيتجاوز مستوى عام 2025»، مؤكداً أنه تم حل المشكلات المتعلقة بالجوانب اللوجستية، وتوريد المكونات للمشاريع المشتركة، بما في ذلك صيانة المعدات الموردة سابقاً.

وأشار شوغاييف إلى أن روسيا تسعى إلى تعاون عسكري تقني واسع النطاق مع الهند في مجال التقنيات الجديدة، حيث تتزايد حصة المشاريع المشتركة، والتقنيات التكنولوجية المتقدمة عاماً بعد عام.

وتنفذ روسيا والهند حالياً عشرات المشاريع العسكرية التقنية واسعة النطاق، ومن أهمها إنتاج الهند المرخص لطائرات «سوخوي-30»، ومحركات الطائرات، ودبابات «تي-90 إس»، والتعاون في إطار مشروع «براهموس» المشترك للصواريخ، وتحديث المعدات العسكرية التي سبق توريدها، والعمل المشترك في مجال تكنولوجيا الدفاع.

جانب من لقاء بوتين ومودي على هامش أعمال مجموعة «بريكس» في كازان شهر أكتوبر 2024 (د.ب.أ)

وأشارت مصادر إلى أن الطرفين يُعدّان «بيانات مهمة» ستحدد التوجهات الرئيسة للمرحلة المقبلة من شراكتهما. ومن المتوقع أن تُمهّد الاتفاقيات الجديدة للتعاون العسكري الصناعي الطريق لمرحلة جديدة من التعاون الدفاعي بين البلدين، ما يتيح للهند الوصول إلى أحدث تقنيات التخفي، والدفاع الصاروخي. وتتوقع المصادر أن يُعزز هذا مكانة الهند في المنطقة الآسيوية.

من المتوقع توقيع عقود عسكرية لتوريد وإنتاج أنظمة دفاع جوي من الجيل الجديد، بما في ذلك نظام الدفاع الجوي إس-500. وقد لاقى نظام إس-400 الروسي استحساناً من الجيش الهندي خلال عملية سيندور، حيث أُشير إلى سرعة نشره في أقل من خمس دقائق لتكون ميزة كبيرة. ويُعتبر دمج نظام إس-400 في نظام الدفاع الجوي متعدد الطبقات الهندي على طول الحدود مع الصين وباكستان تعزيزاً أمنياً.

توازن بين الهند والصين

وتواجه موسكو -التي طورت علاقاتها مع الصين بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، وغدت بكين حليفاً رئيساً لها- تحدياً جدياً في إقامة توازن دقيق في العلاقة مع البلدين الخصمين.

الرئيسان الصيني شي جينبينغ (يمين) والروسي فلاديمير بوتين وبينهما رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في لقائهم بمدينة تيانجين الصينية في سبتمبر (أ.ب)

وأكد الكرملين أن موسكو تنطلق من أهمية المحافظة على علاقات مع «الشركاء التقليديين»، مشيراً إلى «تقدير خاص لاستعداد نيودلهي للمساهمة في البحث عن تسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا».

وفي إشارة مهمة، قال الناطق الرئاسي الروسي: «نحن مستعدون لتطوير علاقاتنا مع الهند في جميع المجالات الممكنة، إلى الحد الذي تكون فيه الهند مستعدة لذلك»، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن روسيا «تواصل تطوير علاقاتها مع الهند، والصين».

وتابع: «نحن نحترم العلاقات الثنائية بين الهند والصين، وليس لدينا شك في أن أقدم دولتين، الدولتين الأكثر حكمة في هذا العالم، ستكونان حكيمتين بما يكفي لتسوية جميع المشكلات من أجل الحفاظ على الاستقرار العالمي».

تحدي الضغوط الأميركية

رأت تعليقات في وسائل إعلام حكومية روسية عشية الزيارة أن نيودلهي سارت خطوات لتحدي الضغوط الأميركية المفروضة عليها بسبب علاقاتها مع موسكو. ومن ذلك، ألغت الهند مناقشات اتفاقية التجارة الهندية-الأميركية، وقالت الصحافة الروسية إن تلك الاتفاقية «تراجعت أهميتها الاستراتيجية مقارنة بالنتائج المتوقعة بعد زيارة بوتين». وزادت أن «الهند ردت عملياً على الهجوم على سيادتها».

ترمب ومودي في مؤتمر صحافي مشترك في البيت الأبيض في فبراير الماضي (رويترز)

كانت الحكومة الأميركية حملت نيودلهي مسؤولية تعزيز الجيش الروسي في أوكرانيا، واصفةً تصرفات الهند لاستيراد النفط الروسي بأنها «مزعزعة للاستقرار». ووصف الرئيس دونالد ترمب الهند بأنها «مغسلة للكرملين»، وهدد بفرض رسوم جمركية بنسبة 500 في المائة على الواردات الهندية إذا واصلت نيودلهي هذا المسار.

بدوره عارض الاتحاد الأوروبي مشاركة الهند في مناورات عسكرية مشتركة مع روسيا، بحجة أن صداقة نيودلهي مع موسكو تُشكل عقبة أمام تعميق التعاون الاستراتيجي مع أوروبا.

ورأت التعليقات الروسية أن «الهجوم السافر على السيادة الهندية من قبل الغرب فقد أثره. لقد اتُخذ القرار: التعاون مع روسيا أهم للهند منه مع الغرب، كما يتضح من زيارة بوتين. وقد اكتسبت روسيا والهند خبرة واسعة في العمل معاً ضمن مجموعة (بريكس)، ومنظمة شنغهاي للتعاون».