مَن يملك الثروة والقوة يُقرر مصير العالم. ومَن يملك ويتحكّم في مواد صنع الثروة يتحكّم في مصير من يسعى إلى الهيمنة على العالم. تُقاس عناصر قوّة الدولة بأربعة أبعاد هي: السياسة، والاقتصاد، والقوة العسكرية، وأخيراً وليس آخراً القوّة التكنولوجية بكل ما تملك من أبعاد. وعند الحديث عن التكنولوجيا، لا نعني بالضبط الداتا، وكيفيّة تجميعها، والتحكّم بها، ومعالجتها وتحويلها إلى معرفة للاستعمال بهدف إنتاج الثروة وبالتالي تجميع القوّة.
فكلمة «تكنولوجيا» هي من أصل يوناني. وهي مركّبة من كلمتين: «تكنو» تعني الحرفة. و«لوجيا» تعني المهارة. عند العرب كانت تعني علم الحِيل.
بكلام آخر، كانت التكنولوجيا موجودة منذ العصر الحجري عندما حوّل الإنسان الحجر الصوّاني إلى خنجر، وصولاً إلى السوبر - حاسوب، مروراً بالثورة الصناعيّة، وستبقى.

بين الماضي والحاضر
تبدأ الثورات التكنولوجيّة في مكان معيّن، بعدها تبدأ عملية الانتشار (proliferation). لكن سرعة الانتشار في الماضي مع الثورة الصناعية مثلاً، كانت كانتشار رقعة الزيت؛ بطيئة، ارتكزت أكثر ما ارتكزت على الاستعمار. أما الثورة التكنولوجية الحديثة، التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية في الخمسينات، فقد انتشرت بسرعة لم يسبق لها مثيل. يعود هذا الأمر إلى العولمة، والحرب الباردة، كما الانتشار الأميركيّ من خلال تقسيمها العالم إلى مناطق عسكريّة، كـ«القيادة الأوروبية» مثلاً خلال الحرب الباردة. وبسبب هذا الانتشار السريع، ظهرت في العالم ثورات تكنولوجية كثيرة، وفي الوقت نفسه يتعاون ويتنافس بعضها مع بعض. هي مترابطة ومتباعدة. فعلى سبيل المثال تتعاون أميركا مع تايوان جيوسياسياً، وفي مجال تصنيع أفضل شرائح ذكيّة في العالم. لكنها، أي أميركا، تتنافس مع الصين التي تريد ضمّ تايوان، كما تريد رسم منطقة نفوذ حولها خصوصاً جنوب بحر الصين.
حفلة تنصيب ترمب
يمكن تصنيف كلمة الرئيس دونالد ترمب في حفل تنصيبه على أنها «الاستراتيجية الكبرى للأمن القومي الأميركي». فهو أعلن حالة الطوارئ على الحدود الأميركية - المكسيكية. كما أعلن حالة طوارئ للطاقة والعودة إلى التنقيب، وغيّر اسم خليج المكسيك، وجمع حوله مباشرةً وخلال خطابه أهم مَن يملك الشركات الأميركية العظمى في التكنولوجيا («ميتا»، و«أمازون»، و«غوغل»، و«تسلا»).
يريد ترمب جعل الولايات المتحدة قوة عظمى تهيمن على الداتا، خصوصاً الذكاء الاصطناعيّ.
هذا في البُعد الداخلي، أما في البُعد الإقليمي والمحيط المباشر للولايات المتحدة الأميركيّة، فهو أعلن عزمه على استعادة قناة بنما. يريد شراء غرينلاند التي تحتوي على أهمّ الثروات الطبيعيّة والأساسيّة للصناعات التكنولوجيّة. لم يذكر أوكرانيا. تحدث عن السلام في الشرق الأوسط. أما ذكر الصين فقد أتى في معرض الحديث عن الشركات الصينيّة التي تشغّل مرافئ بحريّة في بنما.

في بعض الوقائع
تملك الولايات المتحدة الأميركيّة 5 حواسيب سوبر من أصل 10 في العالم، التي تعد الأسرع في العالم. تملك الولايات المتحدة الأميركية نحو 2701 مركز لجمع الداتا، وذلك مقابل 443 للصين، و487 لألمانيا (2022). وأخيراً وليس آخراً، هناك مشروع ستارغيت (Stargate)، الذي تتبناه الشركات الأميركيّة التكنولوجية الكبرى، لتستثمر فيه نحو 500 مليار دولار. والهدف هو دائماً تبوُّؤ المركز الأول في مجال الذكاء الاصطناعي في العالم.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى كثير من الداتا لتدريبه عليها. وإذا كانت أميركا تملك أهم مراكز الداتا في العالم، وأهم مختبرات صناعة الشرائح الذكيّة، فهذا يعني أن أميركا تريد الهيمنة على الداتا في العالم، وذلك بعد أن رأت أنها تهيمن على البحار والمحيطات، كما تهيمن على الجوّ والفضاء حتى الفضاء السيبراني.
فهل يعني هذا الأمر أن الداتا ستكون أساس الصراع الجيوسياسي في العالم؟ وماذا عن الصراع الجيوسياسي التقليدي؟ حتى الآن، ما نشهده وما يبشّر به خطاب ترمب أن الصراع الجيوسياسي الجديد سيدور حالياً، وحتى إشعار آخر، على الشريحة، وفي الوقت نفسه تشريح الجغرافيا لتغيير الحدود.