أوكرانيا... من حرب الثبات إلى الحركيّة

تمثال لفلاديمير لينين أمام عَلم روسي وسط مدينة كورسك (أرشيفية - إ.ب.أ)
تمثال لفلاديمير لينين أمام عَلم روسي وسط مدينة كورسك (أرشيفية - إ.ب.أ)
TT
20

أوكرانيا... من حرب الثبات إلى الحركيّة

تمثال لفلاديمير لينين أمام عَلم روسي وسط مدينة كورسك (أرشيفية - إ.ب.أ)
تمثال لفلاديمير لينين أمام عَلم روسي وسط مدينة كورسك (أرشيفية - إ.ب.أ)

في البدء كانت كييف. وبعدها تأسّست موسكو. وبين تأسيس كييف ومن بعدها موسكو هناك فارق زمني يُقدّر بـ665 سنة. سيطر المغول على روسيا نحو 240 سنة، حتى قيل: «إذا حككت جلد الروسيّ، فإنك قد تجد مغوليّ». من هنا أهمية أن تسيطر روسيا على جبال تيان شين الممتدة من الصين إلى كازاخستان بوصفها عازلاً. قاتلت مملكة السويد روسيا، وهدّدت أمنها القوميّ. لكنَّ معركة بولتافا (في شرق أوكرانيا اليوم) كانت فاصلة عندما هزم بطرس الأكبر السويد. من هنا أهمية فنلندا الحالية، وبحر البلطيق للأمن القومي الروسي. هاجم هتلر روسيا عبر أوكرانيا، فكان حصار ستالينغراد، ومعركة كورسك الشهيرة مع روسيا. من هنا أهمية العازل الأوكراني لأيٍّ من كان يحكم روسيا.

لا تزال هذه الهواجس الجيوسياسيّة تتحكّم بعقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهو قيصر القرن الحادي والعشرين، لكن مع ربطة عنق. هو القيصر المتحوّر شكلاً، مع الحفاظ في المضمون على مُسلّمات الأمن القومي الجيوسياسي الروسيّ.

مرّت روسيا بثلاثة تحوّلات جيوسياسيّة مصيريّة. وقد يمكن اعتبار هذه التحوّلات على أنها بمستوى حدث «البجعة السوداء Black Swan»، أي إنه حدث يأتي مفاجئاً، لا يمكن تغيير مساره، وبالتالي تكون مفاعيله كبيرة جدّاً وتغييريّة. فما هذه التحوّلات؟

التحوّل الأول: سقوط الإمبراطورية الروسيّة مع الثورة البلشفية. أراد الزعيم المفّكر فلاديمير لينين إبقاء الإمبراطوريّة القديمة لكن دون تغيير جغرافيّ، لكن مع اعتماد اسم جديد، وآيديولوجيّة جديدة. وصل الامتداد السوفياتي إلى قمته أيام الزعيم جوزف ستالين وبعد نهاية الحرب الباردة.

التحوّل الثاني: سقط الاتحاد السوفياتي في عام 1991، وأعلن على أثره الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عن قيام نظام عالمي جديد. تقلّصت جغرافيّة روسيا، وخسرت أوروبا الشرقيّة، بحيث انضمت دولها إلى حلف الناتو المعادي لروسيا.

التحوّل الثالث: وهي المرحلة التي تعيشها روسيا اليوم، أي بعد حرب بوتين على أوكرانيا في عام 2022. أراد بوتين استرداد المناطق العازلة التاريخيّة حول روسيا، وأهمّها أوكرانيا.

وحدّد الرئيس بوتين في خطاب له في مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2007 المسار لروسيا في المراحل المقبلة. بدأ الانفلاش الروسي الجيوسياسي في جورجيا 2008، وبعدها في سوريا عام 2015، وأخيراً وليس آخراً حربه على أوكرانيا عام 2022، هذا بالإضافة إلى الوجود الروسي في القارة السوداء عبر مجموعة «فاغنر».

أوكرانيا اليوم

فشل الرئيس بوتين في تحقيق أهدافه الكبرى في أوكرانيا. فشلت أوكرانيا في هجومها العكسي على القوات الروسيّة في الشرق. وانتقلت الحرب بعد ذلك إلى مرحلة الاستنزاف البطيء.

فشل الجيش الروسي في حرب المناورة في المرحلة الأولى للحرب. نجحت أوكرانيا في الحرب الخاطفة المحدودة في إقليمي خاركيف وخيرسون عام 2022. وهي تخوض اليوم حرب مناورة في إقليم كورسك. وبذلك، يكون الجيش الأوكراني قد انتقل مرتين من وضع الحرب الموضعيّة (Positional Warfare) إلى حرب المناورة الهجوميّة، وهو مبدأ كان المفكّر العسكري الراحل الروسي ألكسندر سفيشين قد كتب عنه في كتابه «الاستراتيجيّة».

بوتين قيصر القرن الحادي والعشرين لكن مع ربطة عنق (أ.ب)
بوتين قيصر القرن الحادي والعشرين لكن مع ربطة عنق (أ.ب)

يرى الخبراء أن أوكرانيا تعتمد الهجوم التكتيكي والدفاع الاستراتيجيّ. أما روسيا فهي تعتمد الدفاع التكتيكي والهجوم الاستراتيجيّ. ويعود سبب اعتماد هذه الاستراتيجية إلى الخلل في موازين القوى بين الدولتين. إذا تخوض أوكرانيا هجومها تكتيكيّاً، فقط لخلق واقع جديد على مسرح الحرب لتحسين وضعها، ومن ثمّ تعود إلى وضع الدفاع الاستراتيجيّ.

حالياً يخوض بوتين حرباً هجوميّة بطيئة، مُتدرّجة، تهدف إلى استنزاف أوكرانيا في العتاد والعديد كما الذخيرة. وهو يعتقد أنه على المدى البعيد، سيحقّق أهدافه لأن أوكرانيا تعاني في المجالات كافة، كما تعتمد على الغرب بشكل كلّي لنجاح استراتيجيّتها.

في التحليل

لم يحمل شهر أغسطس (آب) ومقاطعة كورسك، بشكل عام عبر التاريخ خيراً لروسيا. في أغسطس 1943 خاضت روسيا أكبر حرب دبابات في التاريخ في كورسك ضد الجيش الألمانيّ. خسر السوفيات في هذه المعركة نحو 500 ألف جندي و1200 دبابة.

في عام 2000 غرقت الغواصة كورسك في مضيق بارنتس. قضى في هذه الحادثة 118 بحاراً، وكان من الممكن إنقاذهم لو قَبِلَ بوتين بمساعدة الغرب. لكنَّ كبرياءه، ومحاولة إخفاء ضعف روسيا منعاه من ذلك.

في 6 أغسطس من الشهر الحاليّ، فاجأت أوكرانيا روسيا بهجوم مفاجئ على كورسك. إنها أول مرّة تحتّل قوّة غريبة أرضاً روسيّة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

استعملت أوكرانيا القتال المشترك في هذه المعركة، من مسيّرات، وحرب إلكترونيّة، ومن الخداع في التحضير، وفي الاستعلام التكتيكي، كما في استهداف مراكز ثقل الجيش الروسي في كورسك خصوصاً الاتصالات والقيادة والسيطرة.

رجال إطفاء يُخمدون حريقاً في منطقة أوديسا جراء قصف أوكراني (أرشيفية - رويترز)
رجال إطفاء يُخمدون حريقاً في منطقة أوديسا جراء قصف أوكراني (أرشيفية - رويترز)

أظهر هذا الهجوم هشاشة الوضع الأمني الداخليّ، كما أظهر عدم جهوزيّة الجيش الروسيّ. أرادت أوكرانيا ضرب صورة بوتين القويّ.

هدفت أوكرانيا من الهجوم إلى الأمور التالية: خلق فرص للحل السياسيّ، ومحاولة تخفيف الضغط عن الجبهة الشرقيّة في الدونباس.

تحتلّ روسيا نحو 20 في المائة من الأرض الأوكرانيّة، أي 120 ألف كم2. وتحتلّ أوكرانيا حالياً 1000 كم2 من كورسك، أي 0.006 في المائة من مساحة روسيا الإجماليّة، خصوصاً أن مساحة روسيا تساوي 28 مرّة مساحة أوكرانيا.

هل يمكن لأوكرانيا البقاء في الداخل الروسي مع خطوط مواصلات وخطوط لوجيستيّة طويلة نسبيّاً؟ وهل سيؤثّر هذا الضغط في الداخل الروسي في محاولة الجيش الروسي احتلال مدينة بوكروفسك في مقاطعة دونيتسك؟ حتى الآن يتابع الجيش الروسي هجومه على المدينة.

استعملت أوكرانيا نخبة عسكرها في الهجوم على كورسك. كما سحبت البعض منهم من الجبهة الشرقية. فكيف يمكن لها التعويض؟

في الختام، ينصّ أحد بنود العقيدة النوويّة الروسيّة، على أن روسيا قد تستعمل النووي إذا كان هناك خطر مباشر على وحدة الأرض، خصوصاً من المحيط المباشر، حتى بواسطة السلاح التقليديّ... فكيف سيكون الردّ الروسيّ؟


مقالات ذات صلة

ردود فعل دولية منددة بالهجوم الروسي على سومي الأوكرانية

جانب من الدمار جراء الهجوم الروسي على مدينة سومي الأوكرانية اليوم (أ.ف.ب)

ردود فعل دولية منددة بالهجوم الروسي على سومي الأوكرانية

توالت ردود الفعل الدولية، اليوم (الأحد)، المنددة بالهجوم الروسي على وسط مدينة سومي بشمال شرقي أوكرانيا، الذي أدى إلى سقوط ما لا يقل عن 32 قتيلاً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا مباحثات بين وزيري الخارجية التركي هاكان فيدان والروسي سيرغي لافروف على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي السبت (الخارجية التركية)

تركيا تُعلن عن اجتماع دولي لبحث الأمن في البحر الأسود

قالت وزارة الدفاع التركية إن اجتماعاً سيعقد خلال الأيام القليلة المقبلة لمناقشة الحفاظ على السلام في البحر الأسود عقب وقف إطلاق النار المحتمل بين روسيا وأكرانيا

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية الاجتماع سيناقش أمن البحر الأسود بعد الموافقة على وقف إطلاق نار محتمل بين أوكرانيا وروسيا (رويترز)

تركيا تستضيف غداً اجتماعاً لمسوؤلين عسكريين لمناقشة أمن البحر الأسود

قالت وزارة الدفاع التركية، الأحد، إن مسؤولين عسكريين يمثلون تركيا ودولاً أجنبية سيجتمعون في تركيا يومي 15 و16 أبريل (نيسان) لمناقشة أمن البحر الأسود.

«الشرق الأوسط» (أنقرة)
أوروبا مقاتلتان أوكرانيتان من طراز «إف - 16»... (رويترز)

روسيا تعلن إسقاط مقاتلة «إف - 16» أوكرانية

نقلت وكالة «إنترفاكس» للأنباء عن وزارة الدفاع الروسية قولها، اليوم (الأحد)، إن أنظمة الدفاع الجوي التابعة لها أسقطت مقاتلة «إف - 16» تابعة للقوات الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا جثامين قتلى على الأرض بعد ضربة جوية روسية قتلت 20 شخصاً على الأقل في وسط مدينة سومي الأوكرانية (أ.ب)

31 قتيلاً على الأقل في ضربة روسية على مدينة سومي الأوكرانية

أدت ضربة صاروخية روسية إلى سقوط ما لا يقل عن 31 قتيلاً وإصابة نحو 100 بجروح وسط زحمة عيد الشعانين، اليوم (الأحد)، في وسط مدينة سومي بشمال شرقي أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)

بابا الفاتيكان يظهر لفترة وجيزة بعد قداس «أحد السعف»

لم ينسَ البابا في كلمته اليوم مَن يعانون بسبب الصراعات حول العالم (رويترز)
لم ينسَ البابا في كلمته اليوم مَن يعانون بسبب الصراعات حول العالم (رويترز)
TT
20

بابا الفاتيكان يظهر لفترة وجيزة بعد قداس «أحد السعف»

لم ينسَ البابا في كلمته اليوم مَن يعانون بسبب الصراعات حول العالم (رويترز)
لم ينسَ البابا في كلمته اليوم مَن يعانون بسبب الصراعات حول العالم (رويترز)

ظهر البابا فرنسيس لفترة وجيزة في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان، اليوم الأحد، في ختام قداس أحد الشعانين (السعف)، وهنأ الحشود وهو يجلس على كرسي متحرك، إذ يواصل التعافي من إصابته بالتهاب رئوي مزدوج.

ووفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، قال البابا قبل أن يعود إلى داخل مبنى الفاتيكان مع التوقف بين الحين والآخر للحديث مع بعض المحتشدين: «(أحد شعانين) مبارك وأسبوع آلام مقدس!».

ولم يكن البابا اليوم يتلقى الأكسجين عبر خرطوم صغير تحت أنفه مثلما حدث يوم الأحد الماضي عندما ظهر علناً للمرة الأولى منذ خروجه من المستشفى قبل ثلاثة أسابيع.

لم يتلقَ البابا اليوم الأكسجين عبر خرطوم صغير تحت أنفه (رويترز)
لم يتلقَ البابا اليوم الأكسجين عبر خرطوم صغير تحت أنفه (رويترز)

وغادر البابا فرنسيس (88 عاماً) المستشفى في 23 مارس (آذار) بعد أن أمضى خمسة أسابيع في العلاج من عدوى بالرئة، التي قال طبيبه لاحقاً إنها كادت تنهي حياته.

وحثه فريقه الطبي على التزام الراحة لمدة شهرين، وظل البابا في البداية بعيداً عن الأنظار بعد عودته إلى الفاتيكان. لكن في إشارة إلى أنه ربما يشعر بتحسن، ظهر أربع مرات على مدى أسبوع حتى الآن، والتقى أيضاً لفترة وجيزة بالملك تشارلز والملكة كاميلا.

لكن لم يتضح بعد نطاق مشاركته في الفعاليات الكثيرة خلال أسبوع الآلام الذي يعد الأهم للكنيسة.

ظهر البابا فرنسيس لفترة وجيزة بساحة القديس بطرس بالفاتيكان في ختام قداس «أحد الشعانين» (أ.ف.ب)
ظهر البابا فرنسيس لفترة وجيزة بساحة القديس بطرس بالفاتيكان في ختام قداس «أحد الشعانين» (أ.ف.ب)

ولم ينسَ البابا في كلمته اليوم من يعانون بسبب الصراعات حول العالم، وقال عن الحرب في السودان: «صراخ آلام الأطفال والنساء والضعفاء يعلو إلى السماء، ويتوسل إلينا لكي نتصرف. أجدد ندائي إلى الأطراف المعنية لكي يوقفوا العنف ويستأنفوا مسارات الحوار، وأدعو المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدات الأساسية للشعوب».

وعن الصراعات الأخرى في الشرق الأوسط والعالم، قال البابا: «لنتذكر أيضاً لبنان، الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية لخمسين سنة خلت، لكي يتمكن، بمعونة الله، من أن يعيش في سلام وازدهار. ولتحل أخيراً نعمة السلام في أوكرانيا المعذبة وفلسطين وإسرائيل وجمهورية الكونغو الديمقراطية وميانمار وجنوب السودان، ولتنل لنا مريم العذراء الأم الحزينة هذه النعمة، ولتساعدنا على عيش أسبوع الآلام بإيمان».