كيف تنكّر جاسوسان روسيان كعائلة أرجنتينية تقيم في سلوفينيا؟

بوتين أثناء استقباله مواطنين روسيين في موسكو 1 أغسطس بعد إتمام صفقة التبادل (إ.ب.أ)
بوتين أثناء استقباله مواطنين روسيين في موسكو 1 أغسطس بعد إتمام صفقة التبادل (إ.ب.أ)
TT

كيف تنكّر جاسوسان روسيان كعائلة أرجنتينية تقيم في سلوفينيا؟

بوتين أثناء استقباله مواطنين روسيين في موسكو 1 أغسطس بعد إتمام صفقة التبادل (إ.ب.أ)
بوتين أثناء استقباله مواطنين روسيين في موسكو 1 أغسطس بعد إتمام صفقة التبادل (إ.ب.أ)

تلقت داريا ستيفانتشيك، رسامة معروفة في سلوفينيا عرضاً مفاجئاً من معرض فني غامض تديره امرأة أرجنتينية تُدعى ماريا روزا ماير مونوس، مما أثار شكوكها حول مصداقية العرض.

شعرت الرسامة بأنها ربما تكون ضحية احتيال، وقلقت من أن المعرض لم يسمع به أحد تقريباً في مشهد الفن الصغير والمتماسك في سلوفينيا.

لاحقاً، تبين أن هذا المعرض الفني كان واجهة للاستخبارات الروسية، وأن المرأة الأرجنتينية وزوجها كانا في الحقيقة جاسوسين روسيين، تم زرعهما كجزء من شبكة تجسس واسعة. حسبما أفادت صحيفة «نيويورك تايمز».

تاريخ روسيا، وقبلها الاتحاد السوفيتي، طويل في الاستثمار بكثافة في الجواسيس الذين يتغلغلون في البلدان المستهدفة على مدى سنوات عديدة، لا يتمتع هؤلاء بحصانة من الملاحقة القضائية أو صلات واضحة بروسيا ويصعب اكتشافهم للغاية، على عكس الجواسيس (الشرعيين) الذين يعملون تحت غطاء دبلوماسي في السفارات الروسية.

بوتين مُصافحاً مواطناً روسياً أُفرج عنه بموجب صفقة تبادل في 1 أغسطس (أ.ف.ب)

قال كالدر والتون، مدير الأبحاث لمشروع الاستخبارات في مدرسة كيندي بجامعة هارفارد: «إن فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي والضابط السابق في الـ(KGB) لديه ولع حقيقي بالاستخبارات السرية».

وحسب الصحيفة، فإن مالكة المعرض الفني في سلوفينيا، اسمها الحقيقي آنا دولسيفا، قامت بعمل جيد جداً في تقمص شخصية فنانة أرجنتينية تُدعى ماريا روزا ماير مونوس، حتى أن أطفالها لم يعلموا أن للعائلة أي صلة بروسيا حتى تم نقلهم إلى موسكو يوم الخميس الماضي كجزء من تبادل الأسرى الشامل بين الشرق والغرب.

استقبل بوتين و سيرغي ناريشكين، رئيس وكالة الاستخبارات (SVR)، الأطفال -ابنة عمرها 12 عاماً وابناً عمره 9 سنوات- باللغة بالإسبانية، اللغة التي كانت تتحدثها العائلة في سلوفينيا إلى جانب الإنجليزية لإخفاء صلاتهم بروسيا.

«Buenas noches» (أمسيه سعيدة) يمكن سماع بوتين يقول في فيديو لحفل الاستقبال في مطار موسكو الذي أطلقه التلفزيون الرسمي.

تفاصيل الاعتقال

قامت السلطات السلوفينية بمداهمة منزل الجواسيس في ديسمبر (كانون الأول) 2022 في تشرنوتش، ضاحية ليوبليانا، بعد مراقبتهما لشهور بناءً على معلومات استخباراتية بريطانية. وكان الزوجان يزورانها كثيراً تحت غطاء العمل، ونظمت دولسيفا معرضين فنيين في مدينة إدنبرة الإسكتلندية، وزارت بريطانيا عدة مرات.

وتم ضبطهما متلبسين أثناء تواصلهما مع موسكو باستخدام معدات خاصة لتجنب استخدام الإنترنت والهاتف.

الحياة السرية

عاش الزوجان، اللذان عُرفا في سلوفينيا كعائلة أرجنتينية تحمل اسم ماير مونوس، حياة منعزلة.

والطفلان، اللذان وُضعا في الرعاية المؤقتة بعد توقيف والديهما، كانا يدرسان في المدرسة البريطانية الدولية القريبة، التي كانت رسومها أكثر من 10 آلاف دولار سنوياً لكل تلميذ تتجاوز بكثير ما يمكن أن يتحمله الزوجان بناءً على التقارير المالية التي قدماها عن أعمالهما. ولم يعرفا أي شيء عن صلة والديهما بروسيا، وتم نقلهما إلى موسكو كجزء من تبادل الأسرى.

قالت ماغدا كفاس، وهي امرأة تبلغ من العمر 93 عاماً تعيش مقابل منزل الجاسوسين، وهو منزل مكون من ثلاثة طوابق بحديقة صغيرة محاطة بسياج خشبي: «لم يقولا مرحباً لأحد وكانا يعيشان حياة منفصلة تماماً، وإن الجيران كانوا أحياناً يتحدثون عمن يكون الزوجان وما الذي يفعلانه لكنهم بشكل عام تجاهلوهما لأنهما لم يتسببا في أي مشكلة».

تداعيات القضية

يعتقد المحققون أن الزوجين كانا مهمين للغاية في شبكة التجسس الروسية، لكن التفاصيل الدقيقة حول مهامهما لا تزال قيد التقييم. وعثر على مبالغ كبيرة من النقود في منزلهما، مما أثار تكهنات حول دورهما في تمويل عمليات روسية في أوروبا.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبابلو غونزاليس (وسط) ومجموعة من السجناء المفرَج عنهم خلال وصولهم إلى مطار فنوكوفو الحكومي خارج موسكو (أ.ب)

الفن كغطاء

اختيار الفن كغطاء للجاسوسين كان قراراً استراتيجياً، لأن سوق الفن في سلوفينيا لا يخضع لتدقيق كبير، مما سمح لهما بالعمل بحرية.

قال تيفز لوغار، القيم الفني البارز في سلوفينيا، إن الفن في البلاد يعد مساحة آمنة بسبب قلة الرقابة عليه، وإن أغلب الأعمال التي كانت دولسيفا تعرضها للبيع هي من نوع الفن الذي تطلبه من الصين.

قضية الجاسوسين الروسيين في سلوفينيا تبرز مدى تعقيد وذكاء عمليات التجسس الروسية، واستخدامها للأغطية غير التقليدية، مثل الفن، للتخفي.

بينما تواصل السلطات السلوفينية التحقيق في أنشطة الزوجين، تبقى هذه القضية تذكاراً بمدى تشابك وتعقيد عالم التجسس الدولي.


مقالات ذات صلة

أوكرانيا: كشفنا 12 عميلاً يتجسسون لصالح روسيا على دفاعنا الجوي

أوروبا أوكرانيا تكشف 12 عميلاً يتجسسون لصالح روسيا (أ.ف.ب)

أوكرانيا: كشفنا 12 عميلاً يتجسسون لصالح روسيا على دفاعنا الجوي

قال جهاز الأمن الأوكراني (إس بي يو)، الثلاثاء، إنه كشف 12 عميلاً يتجسسون لصالح روسيا لرصد مواقع مقاتلات «إف - 16» وأنظمة الدفاع الجوي في أنحاء أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
شؤون إقليمية قوات الأمن الإسرائيلية تجري دورية في مكان وقوع إطلاق نار بالقرب من نقطة تفتيش (أ.ف.ب)

متورط بمخطط لتنفيذ هجوم... اعتقال إسرائيلي في القدس تجسس لصالح إيران

كشفت قوات الأمن الإسرائيلية اليوم أنها اعتقلت إسرائيلياً مقيماً بالقدس للاشتباه في أنه على اتصال بعملاء للمخابرات الإيرانية في إطار مخطط لتنفيذ هجوم.

«الشرق الأوسط» (القدس)
أوروبا الأمير أندرو (رويترز)

وسط اتهام مقرب منه بالتجسس... الأمير أندرو سيغيب عن احتفال العائلة المالكة بعيد الميلاد

من المقرر أن ينسحب الأمير أندرو، دوق يورك، من التجمع التقليدي للعائلة المالكة في عيد الميلاد بقصر ساندرينغهام الملكي (شرق إنجلترا) هذا العام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا الأمير أندرو (رويترز)

رجل أعمال صيني مقرّب من الأمير أندرو ينفي قيامه بالتجسس

نفى رجل أعمال صيني مقرّب من الأمير البريطاني أندرو، الاثنين، اتهامات موجّهة إليه بالتجسّس.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ علما الولايات المتحدة الأميركية والصين (أرشيفية - أ.ب)

واشنطن: 8 شركات اتصالات وعشرات الدول تأثرت بالقرصنة الصينية

قال مسؤول أميركي كبير للصحافيين، إن «كمية كبيرة» من البيانات الوصفية للأميركيين سُرقت في حملة تجسس إلكتروني.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الأمم المتحدة: 40 % من ضحايا الحروب نساء... و30 % أطفال

بلغت نسبة الضحايا المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة 70 % من مجموع القتلى المسجلين لدى وكالات الأمم المتحدة (رويترز)
بلغت نسبة الضحايا المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة 70 % من مجموع القتلى المسجلين لدى وكالات الأمم المتحدة (رويترز)
TT

الأمم المتحدة: 40 % من ضحايا الحروب نساء... و30 % أطفال

بلغت نسبة الضحايا المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة 70 % من مجموع القتلى المسجلين لدى وكالات الأمم المتحدة (رويترز)
بلغت نسبة الضحايا المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة 70 % من مجموع القتلى المسجلين لدى وكالات الأمم المتحدة (رويترز)

حالكاً كان المشهد العام بالنسبة إلى المرأة خلال العام الماضي في مناطق الصراعات المسلحة والأزمات الإنسانية، التي شهدت تضاعف عدد الضحايا من النساء مقارنة بالعام السابق عليه، ولن يكون أحسن حالاً خلال هذه السنة التي تشرف على نهايتها، كما يتبيّن من التقرير السنوي الذي يعدّه مكتب الأمين العام للأمم المتحدة بشأن حماية المدنيين في ظروف الحرب.

يرسم هذا التقرير، الذي صدر منذ أيام، صورة قاتمة جداً لما عانته النساء في الأزمات المسلحة خلال عام 2023، حيث شكّلن 40 في المائة من مجموع القتلى المدنيين؛ أي ضعف ما بلغته هذه النسبة عام 2022، فيما كانت نسبة الأطفال الذين قضوا في هذه النزاعات 30 في المائة، أي 3 أضعاف العام السابق عليه.

مدنيو غزة... 70 % من إجمالي الضحايا

سيدة فلسطينية تتفقد الدمار في حي الدرج بعد غارة إسرائيلية يوم 22 ديسمبر الحالي (أ.ف.ب)

كما يفيد التقرير بأن عدد الضحايا المدنيين في المدة نفسها ارتفع بنسبة 73 في المائة، حتى بلغ 34 ألفاً من القتلى غير المحاربين، وذلك بسبب نشوب نزاعات مسلحة جديدة، خصوصاً الحرب في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث كانت نسبة الضحايا في الأراضي الفلسطينية المحتلة 70 في المائة من مجموع القتلى الذين سجلتهم وكالات الأمم المتحدة.

يقول بابلو كاستيّو، وهو خبير دولي في شؤون المرأة شارك في إعداد التقرير الأممي بشأن المرأة والسلم والأمن، إن «نسبة النساء الضحايا ارتفعت في جميع الحروب، وإن السبب في ذلك هو عدم احترام القانون الدولي والمواثيق الإنسانية في ظروف الحرب؛ الباردة والساخنة، بين القوى العظمى، وأيضاً بسبب المناخ الجيوسياسي العام وزعزعة النظام الدولي متعدد الأطراف». ويحذّر كاستيّو بأن «ثمة تنامياً لمنحى مهاجمة كل ما يمكن تعريفه أنثوياً، والمشهد العام بالنسبة إلى وضع المرأة تدهور إلى حد اقتضى عودة الأمم المتحدة إلى استخدام سرديتها السابقة، وإدانة استهداف النساء في تقاريرها».

وينبّه التقرير إلى أن «العالم بات رهينة دوامة مخيفة من النزاعات وعدم الاستقرار والأزمات المسلحة، التي بلغ عددها 170 نزاعاً في العام الماضي، و612 مليوناً من النساء والبنات يعشن على مسافة لا تتخطى 50 كيلومتراً من مناطق القتال، أي بزيادة 150 في المائة على العقد السابق».

الاعتداءات الجنسية

من المعلومات الأخرى المقلقة التي يكشف عنها التقرير أن حالات الاعتداءات الجنسية في مناطق الصراعات المسلحة والأزمات ارتفعت بنسبة 50 في المائة، وأن عدد البنات اللاتي يتعرضن لحالات اغتصاب خطرة قد ازداد بنسبة 35 في المائة. وتقول كريستين غارنت، الخبيرة في «الارتباط بين الحرب والنوع الاجتماعي»، إن «هذه الأرقام ليست وليدة الصدفة؛ لأن العنف الجنسي كان ولا يزال من الأسلحة المستخدمة في الحروب، ليس فحسب لدفع السكان إلى النزوح القسري، بل أيضاً للمقايضة بين الجماعات الإرهابية وسبيلاً لتمويل أنشطتها».

يشير التقرير في مواقع عدة إلى «حرب ضد النساء»، وإلى تعرّض المرأة لأشكال شتّى من المعاناة، فضلاً عن القتل والاغتصاب. فهي مثلاً تواجه صعوبات متصاعدة للحصول على العناية الطبية، وأيضاً ما لا يقلّ عن 500 امرأة وبنت يلقين حتفهن كل يوم في مناطق النزاعات المسلحة بسبب المضاعفات الصحية الناجمة عن الحمل و الولادة، «كما حدث في غزة المدمرة أواخر العام الماضي، حيث كانت تسجل 180 حالة ولادة يومياً، جلّها من غير عناية طبية أو مستلزمات صحية أساسية».

وتقول ماري فيكس، رئيسة فريق «أطباء بلا حدود» في السودان، إن «امرأة ريفية حاملاً اضطرت إلى الانتظار 3 أيام لتجمع المال الكافي كي تحصل على العناية الطبية، لكن عندما وصلت إلى المركز الصحي وجدت أن الأدوية والمستلزمات الأساسية لم تكن متوفرة، وعادت إلى منزلها حيث تدهورت حالتها في انتظار المساعدة إلى أن فارقت الحياة بسبب التهاب بسيط كانت معالجته سهلة».

«غياب الوعي العالمي»

نساء مُصطفّات للحصول على مساعدات غذائية بجنوب السودان في 13 نوفمبر الماضي (أ.ب)

يتضمّن التقرير أيضاً، لأول مرة، انتقاداً مباشراً لما يسميه «غياب الوعي العام الأساسي بخطورة هذه المظالم»، ولضعف التغطية الإعلامية لهذه الحالات: «تضاعفت كمية الأنباء المتداولة على وسائل الإعلام حول الحروب 6 مرات في السنوات العشر الماضية، لكن نسبة 5 في المائة منها فقط تناولت أوضاع المرأة ومعاناتها الناجمة عن الصراعات».

منذ سنوات تتوالى الاتهامات حول استخدام العنف الجنسي سلاحاً في الصراع الدائر بجمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث سجّلت الأمم المتحدة وقوع 123 ألف حالة اغتصاب في العام الماضي وحده؛ أي بزيادة 300 في المائة على عام 2020، لكن من غير أن يتعرض أي من المرتكبين للإدانة القضائية. والأغرب من ذلك، أن السنوات الماضية شهدت تراجعاً في تمويل المنظمات الناشطة ضمن برامج المساواة والحد من تداعيات الحروب والنزاعات المسلحة على النساء والبنات، في الوقت الذي ازدادت فيه الهجمات والانتقادات التي تتعرض لها هذه المنظمات. ويفيد التقرير بأن السلطات المحلية والوطنية في بلدان، مثل العراق وليبيا واليمن، منعت استخدام مصطلحات مثل «النوع الاجتماعي»، فيما شهدت بلدان كثيرة ازدياداً في الاعتداءات على المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين والفنانات.

في أفغانستان، يشير تقرير الأمم المتحدة إلى حالة «آبارتهايد» تتعرض لها المرأة؛ المحرومة منذ 3 سنوات من حقها في التعليم بعد الثانية عشرة من العمر، وإلى أن محاولات الانتحار تزداد بنسبة خطرة بين النساء منذ صيف عام 2021 عندما عادت «طالبان» إلى الحكم. ويدعو التقرير إلى اتخاذ تدابير عاجلة لمعالجة وضع المرأة في أفغانستان «قبل فوات الأوان».