يصف البعض تحركات الرئيس الأميركي دونالد ترمب السريعة في أول 100 يوم من رئاسته الثانية، لتحقيق أجندته واسعة النطاق، بأنها تعكس جزئياً تخوفه من احتمال تعطيلها في حال خسارة الحزب الجمهوري الانتخابات النصفية العام المقبل.
لكن ممّا لا شك فيه أنها تعكس أيضاً التغيير الذي طرأ على خيارات «الطبقة السياسية» على جانبي الطيف السياسي، ليس حول الحوكمة الداخلية فحسب، بل استراتيجية الولايات المتحدة ودورها وموقعها، في ظل توازن دولي للقوى، تعتقد أنه يختل على حسابها.
وتؤكد استراتيجية ترمب على أن الصين هي المنافس الأبرز، وخصّصت إدارته ميزانيات إضافية لبرامج ردعها ومواجهتها، دون تجاهل بقية العالم، خصوصاً من خلال برامج موجهة إلى روسيا وإيران وكوريا الشمالية. فما هي التغييرات التي أحدثتها وزارة الدفاع (البنتاغون) على انتشارها الاستراتيجي خلال هذه الفترة من عهده؟
أميركا أولاً
في يناير (كانون الثاني) وبعد أدائه اليمين الدستورية وزيراً للدفاع، وعد بيت هيغسيث بتغيير ثقافة الجيش الأميركي. وقال: «سنضع أميركا في المقام الأول. سنحقق السلام من خلال القوة. وسنجلب إلى البنتاغون 3 مبادئ؛ هي استعادة روح المحارب، وإعادة بناء جيشنا، وإعادة ترسيخ الردع».
وبعد شهرين فقط، بدأ تطبيق العديد من هذه التغييرات. فأقالت إدارة ترمب رئيس هيئة الأركان المشتركة تشارلز براون، ورئيسة العمليات البحرية الأدميرال ليزا فرانشيتي، ونائب رئيس أركان القوات الجوية الجنرال جيمس سلايف. كما خفّض هيغسيث 60 ألف وظيفة مدنية في البنتاغون.
وفي فبراير (شباط)، وجّه وزير الدفاع هيغسيث القوات العسكرية ووكالات الدفاع لتحديد 8 في المائة، أو نحو 50 مليار دولار، من التخفيضات السنوية التي يمكن إعادة استثمارها في أنشطة ذات أولوية أعلى. كما أنهى عقوداً مع وزارة الدّفاع بقيمة 5.1 مليار دولار، ضمن برنامج فيدرالي ضخم لخفض الميزانية، تعهّد به رئيس إدارة كفاءة الحكومة الأميركيّة، إيلون ماسك.
وأشار هيغسيت إلى «وقف 11 عقداً يتعلّق بالتّنوّع والمساواة والإدماج، والمناخ والاستجابة لجائحة (كوفيد 19)، وأنشطة غير أساسيّة أخرى»، موضحاً: «إنّنا بحاجة إلى هذه الأموال من أجل تحسين الرّعاية الصّحيّة لمقاتلينا وعائلاتهم، بدلاً من دفع 500 دولار في السّاعة للمستشارين».
وتتضمّن النّفقات المعنيّة 500 مليون دولار من المنح المخصَّصة لجامعة «نورث وسترن» وجامعة «كورنيل» الأميركيّتَين، اللّتين وُصفتا بأنّهما «مؤسّستان أكاديميّتان تتسامحان مع معاداة السّامية، وتدعمان برامج التّنوع والمساواة والإدماج المثيرة للانقسام».
وبالإضافة إلى القرارات التي أنهت ما يُسمى بـ«ثقافة اليقظة والتنوع» التي تؤثر على من يخدم في القوات المسلحة، فإن التغييرات الرئيسية طالت زيادة الإنفاق العسكري، وحجم القوات وانتشارها، وتحديث المعدات العسكرية. ولطالما دعم ترمب زيادة ميزانية الدفاع، وقد اقترح رفع ميزانية الدفاع إلى قرابة تريليون دولار. وكشف ترمب، في تصريحات أدلى بها لدى استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، في 7 أبريل (نيسان)، عن خطط لميزانية دفاعية بقيمة تريليون دولار في العام المقبل، وهي زيادة هائلة أكّد أنها ستوفر للبلاد قوة عسكرية «لا مثيل لها» لسنوات مقبلة.
وستمثل هذه الميزانية زيادةً بنحو 12 في المائة عن مستويات الإنفاق في السنة المالية الحالية. وأشار ترمب إلى أن جزءاً من الإنفاق الجديد سيستفيد من سياسات تقليص الإنفاق الذي وجّهت بها إدارة كفاءة الحكومة في مختلف الإدارات الحكومية.
إلى ذلك، أعرب ترمب عن نيته تنمية الجيش، وإعادة تموضعه. ومع ذلك، لا تزال التفاصيل المُتعلقة بأعداد القوات وعمليات نشرها غير واضحة، في ظل الأزمات الدولية المفتوحة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وبحر الصين الجنوبي.
تحفيز الصناعة الدفاعية
في 9 أبريل (نيسان)، وقّع الرئيس ترمب أمراً تنفيذياً لتحديث عمليات الاستحواذ الدفاعية، وتحفيز الابتكار في القاعدة الصناعية الدفاعية. ووجّه وزير الدفاع لتقديم خطة لإصلاح عملية الاستحواذ من خلال تسريعها، وإعطاء الأولوية للحلول التجارية، وتقليص المهام غير الضرورية. وأضاف قائلاً: «بينما أعمل على إعادة بناء القوة العسكرية الأميركية وقوة الردع التي بدّدها جو بايدن بغباء، نحتاج إلى إلقاء نظرة طويلة وفاحصة على مشتريات الدفاع وقاعدتنا الصناعية الدفاعية، لأنها ذبلت تماماً،
وبالنظر إلى كل الأموال التي ننفقها على البنتاغون، من غير المقبول أن تنفد ذخيرتنا أو أن نعجز عن إنتاج الأسلحة اللازمة بسرعة». ويشير الأمر التنفيذي إلى أنه مع «التطور السريع الذي يشهده خصوم مثل الصين وروسيا في تقنياتهم العسكرية، من الضروري إعطاء الأولوية للسرعة والمرونة والابتكار لتزويد قواتنا المسلحة بقدرات متطورة».
ولتعزيز التفوق العسكري، أعاد ترمب ترتيب أولويات نظام المشتريات الدفاعية، التي تشمل 9 برامج لسفن البحرية، وتسريع برنامج الصاروخ الباليستي «سنتينل» العابر للقارات الجديد التابع للقوات الجوية، وتسريع عملية إعادة تأهيل حاملة الطائرات النووية «يو إس إس جون ستينيس».
الابتعاد عن أوروبا
وتترافق التحولات الكبيرة التي تُنفّذها إدارة ترمب على مستوى السياسات العسكرية الداخلية، مع نظرة جديدة حيال سيادة الدول، خصوصاً بعد إعلان سعيها للسيطرة على جزيرة غرينلاند وقناة بنما. وخلال زيارته الأخيرة إلى بنما، قال وزير الدفاع هيغسيث إنه «بدعوة من حكومتها» قد تتمكن الولايات المتحدة من «إحياء» قواعدها العسكرية الموجودة بالفعل، مع إعادة نشر القوات الأميركية.
في الواقع، سعت كلٌّ من إدارة ترمب الأولى وإدارة جو بايدن إلى تقليص الانتشار العسكري الأميركي حول العالم، لتوفير موارد أكبر في منطقة المحيط الهادئ. ورغم ذلك، فقد جرّ غزو روسيا لأوكرانيا الولايات المتحدة إلى أوروبا مجدداً، كما جرّها هجوم حركة «حماس» على إسرائيل إلى الشرق الأوسط أيضاً.
لكن إدارة ترمب الثانية لم تُخفِ تراجع تعاطفها مع أوروبا، التي قد تشملها استراتيجية انسحاب عسكري جزئي للقوات الأميركية، بعدما قطعت شوطاً كبيراً في تغيير موقفها من أوكرانيا لمصلحة إعادة «ترميم» العلاقة مع روسيا. وصعّدت واشنطن من حدّة انتقاداتها العلنية لمستوى الإنفاق الدفاعي في أوروبا، مطالبة على لسان وزير خارجيتها ماركو روبيو برفع مساهمات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الآونة الأخيرة، أعرب نائب الرئيس، جي دي فانس، عن ازدرائه للأوروبيين، في رسائل بعث بها لمسؤولين في إدارة ترمب على تطبيق «سيغنال»، حيث قال: «أكره ببساطة إنقاذ أوروبا مجدداً».
حشد الأساطيل في المنطقة
وفي مقابل الانتقادات المتكررة لحلفاء واشنطن الأوروبيين، أكّد ترمب استعداده لموصلة دعم إسرائيل عسكرياً، ومواجهة إيران إذا اقتضى الأمر ذلك.
وبدا هذا الالتزام واضحاً من خلال العمليات العسكرية الجارية في البحر الأحمر، والحشد العسكري الذي دفعت به واشنطن إلى المنطقة، حيث أعادت حاملة الطائرات «كارل فينسون» التموضع من المحيط الهادئ إلى الشرق الأوسط ضمن العمليات ضد الحوثيين في اليمن، وأيضاً تعزيز عامل الردع تجاه إيران، بالتزامن مع بدء مفاوضاتها مع طهران للتوصل إلى اتفاق جديد، سواء حول برنامجها النووي أو برنامجها الصاروخي أو دورها الإقليمي.
ونقلت الولايات المتحدة أيضاً بطاريتَي صواريخ «باتريوت» ونظام الدفاع الجوي عالي الارتفاع «ثاد»، كما أرسلت نحو 6 قاذفات من طراز «بي 2»، القادر على حمل قنابل تزن 30 ألف رطل، وهي ضرورية لتدمير البرنامج النووي الإيراني تحت الأرض، فضلاً عن أصول جوية ضخمة نقلت إلى قاعدة «دييغو غارسيا» في المحيط الهندي، وطائرات مقاتلة «إف 35»، إلى المنطقة.
الصين هي التحدي الأخطر
بحسب أولويات وزير الدفاع هيغسيث، التي ارتكزت على استراتيجيتي الدفاع الوطني لعامي 2018 و2022، فإن الصين تُشكّل التحدي الأخطر على الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، ما يتطلب استثمارات ضخمة في بناء السفن، والتحديث النووي، والدفاع الصاروخي، والحرب الإلكترونية، والفضاء، ومقاتلات وناقلات من الجيل القادم، وطائرات من دون طيار، وأنظمة الدفاع الجوي المضاد للطائرات من دون طيار، وذخائر وصواريخ، ونظام قيادة وتحكم مشتركاً شاملاً يدعم كل ذلك.
وفي مقابل اللهجة الحادّة التي تعتمدها إدارة ترمب حيال الصين، تؤكّد في الوقت نفسه على حرصها على الحفاظ على علاقات سلمية مع التنين الآسيوي. وأكّد هيغسيث أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب مع الصين، وأن الحرب معها ليست حتمية على الإطلاق، لكنها ستتصدى «لتهديدات» بكين في المنطقة.
ومع التحولات التي طرأت على طبيعة التهديدات ومصادرها، جاء إعلان إدارة ترمب عن الحاجة إلى «قبة حديدية» للدفاع الجوي، اعترافاً جزئياً بهذا التحول. ومع ذلك، فإنه يثير أيضاً مخاوف بشأن القدرة على تحمل التكاليف، نظراً لتكلفة التحديث والاستعدادات للمهمات الأخرى.
الحلفاء متشككون
يرى منتقدو الرئيس ترمب أن استراتيجية الدفاع التي اعتمدتها إدارته تحمل أخطاراً كبيرة، حتى في أولوياتها المعلنة. ومع تكرار انتقاداتها لحلفائها في «الناتو» ومطالبتهم بتحمل مسؤوليات أكبر للدفاع عن القارة، يقول تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية «سي إس آي إس» إن الحلفاء الأوروبيين قد لا يطورون القدرة والإمكانية لتولي الأدوار والمهام التي قد تتراجع أو تتخلى عنها الولايات المتحدة، بالحجم والوتيرة اللازمين، لكبح المخاوف من طموحات روسيا.
وقد يؤدي فقدان الثقة لدى حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، استجابةً للضغوط الدبلوماسية والاقتصادية الأميركية، إلى تآكل الرغبة في السماح للقوات الأميركية بالوصول إلى المواقع الرئيسية عالمياً، والتدريب والتمرين والعمل معها، أو شراء معدات أميركية، ما يقوض قدرة الإدارة على مواجهة التهديدات عند ظهورها في الخارج أو داخل حدودها. كما أن توحيد القيادات الإقليمية الأميركية (أفريكوم مع يوروكوم) من شأنه أيضاً أن يقيد قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن مصالحها. ومع ذلك، يرى البعض أن تقدم الحلفاء نحو تحقيق التزاماتهم بزيادة الإنفاق العسكري قد يعني تعاوناً مستقبلياً أكبر.