شكَّل الإعلان، في 30 سبتمبر (أيلول) عام 2015، عن بدء عملية جوية روسية لدعم القوات النظامية في سوريا، بداية مرحلة جديدة شديدة التعقيد مهَّدت لتكريس واقع جديد حوّل روسيا، في غضون سنوات قليلة، إلى لاعب رئيسي على مسرح الأحداث السوري.
لكن التمهيد لذلك التحوُّل بدأ منذ منتصف أغسطس (آب) في العام نفسه، عندما طلب الجانب الإيراني تدخلاً مباشراً من جانب موسكو، في العمليات العسكرية الجارية في سوريا. ودلَّت معلومات تسربت في وقت لاحق، على أن القيادة الروسية بدأت في ذلك الوقت دراسة كل التفاصيل المرتبطة بالوضع العسكري والميداني، والأسس القانونية والتداعيات المحتملة على اتخاذ القرار الحاسم.
وعقد مجلس الأمن القومي الروسي والدائرة المقربة من الرئيس فلاديمير بوتين عدة اجتماعات، خُصّصت، وفقاً لمصادر روسية، لمناقشة هذه القضية وآليات التعامل معها.
وبدا أن القرار الحاسم اتُّخِذ في وقت مبكر، وارتبط بشروط وضعتها موسكو، من بينها إنشاء أساس قانوني لوجود دائم للقوات الروسية في هذا البلد. لذلك جرى في 26 أغسطس (آب) توقيع اتفاقية الوجود الروسي في قاعدة «حميميم» الجوية، وفور توقيع الاتفاقية، بدأت موسكو التمهيد للمعركة المقبلة، عبر إرسال قدرات عسكرية كبيرة إلى سوريا، بينها مقاتلات وأنظمة دفاع جوي ودبابات وآليات مصفحة، فضلاً عن تزويد القاعدة باحتياجات الإقامة الدائمة للجنود الروس.

وخلال شهر سبتمبر 2015، تم الانتهاء من وضع الترتيبات النهائية ميدانياً وعسكرياً، فيما تأجل الشق القانوني المتعلق بموافقة مجلس الاتحاد (الشيوخ) على منح الرئيس صلاحيات استخدام القوات المسلحة خارج البلاد إلى اللحظة الأخيرة. وهو أمر تم تنفيذه بسرعة ودقة، نهار 30 سبتمبر (أيلول)، عندما قطع المجلس جلسة عادية وحوَّلها إلى اجتماع مغلق جرت خلاله وبالإجماع الموافقة على الطلب الرئاسي.
بعد ذلك بساعات فقط، كانت القوات الروسية تعلن شن أول عمليات عسكرية على الأرض السورية، وقالت إنها استهدفت مواقع لتنظيم «داعش»، بينما أكد «الجيش السوري الحر»، في حينها، أن الضربات الروسية استهدفت مواقع تابعة له.
كانت تلك هي البداية. لتسجل روسيا أول انخراط عسكري مباشر في حرب تدور خارج الفضاء السوفياتي السابق. وقد وضعت موسكو أهدافاً علنية للتدخل «الجوي»، وأكدت أنها لن تنخرط في مواجهات برية، على رأسها مساعدة القوات النظامية في مواجهة «الإرهابيين»، ومنع انهيار الدولة السورية. لكن الأهداف الأبعد مدى سرعان ما اتضحت، وتمثلت في الخروج من العزلة الدولية التي أعقبت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. وفي استعادة نفوذ روسيا في الشرق الأوسط، الذي فُقد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وترسيخ مكانة روسيا كقوة عالمية قادرة على دعم حلفائها.
ومع استكمال الانتشار العسكري الروسي في وقت لاحق، عبر توقيع اتفاقية الإقامة الروسية الدائمة في قاعدة طرطوس، مطلع عام 2017، بدا أن موسكو التي نشطت قواتها الجوية في تغيير موازين القوى على الأرض خلال أكثر من عام، اقتربت من إنجاز أهدافها الرئيسية في تثبيت الإطلالة العسكرية الروسية على البحر المتوسط، وإيجاد نقطة ارتكاز أساسية لتحركات أساطيلها في البحار والمحيطات.

في الواقع، لم تقتصر مشاركة القوات الجوية الفضائية الروسية في القتال ضد تنظيم «داعش» فحسب، خصوصاً في المراحل الأولى من العملية؛ ففي عام 2015. لم يكن الهدف هزيمة «داعش»، بل إنقاذ نظام بشار الأسد الذي وجد نفسه في وضع حرج، وكان مهدَّداً بشكل رئيسي من قِبل قوات المعارضة المعتدلة نسبياً. ووجهت القوات الجوية الفضائية ضرباتها الرئيسية ضد هذه الجماعات حتى سيطرت القوات الحكومية بالكامل على حلب، في ديسمبر (كانون الأول) 2016، مما شكل نقطة تحول في الحرب. في ذلك الوقت. لم يكن تنظيم «داعش» هو الخصم الرئيسي لبشار الأسد - في الواقع، إذ كان المكان الوحيد الذي قاتلت القوات السورية فيه «داعش» بنشاط، هو منطقة تدمر.

وفي مارس (آذار) 2016، أشار الرئيس الروسي بشكل غير مباشر إلى أن أحد أهداف العملية اختبار المعدات العسكرية الروسية الحديثة في ظروف القتال. ووفقاً لوزارة الدفاع الروسية، فقد تم استخدام 215 طرازاً من الأسلحة الروسية في العمليات القتالية في سوريا في الفترة من 30 سبتمبر 2015 إلى ديسمبر (كانون الأول) 2017. وشملت صواريخ «كاليبر» عالية الدقة بعيدة المدى، وصواريخ «إسكندر - إم»، و«توشكا - يو»، وعشرات الطرازات الأخرى التي لم تكن قد استُخدِمت في ظروف القتال المباشر بمعارك حقيقية.
وبدءاً من الشهر التالي للانخراط العسكري المباشر، تكثّفت ضربات القوات الجوية الفضائية الروسية بشكل ملحوظ؛ حيث انضمّت قاذفات الطيران بعيد المدى إلى قصف مواقع المسلحين. وبحلول نهاية عام 2015، نفّذ الطيران الروسي 5240 طلعة جوية كجزء من العملية السورية، بما في ذلك 145 طلعة جوية لطائرات قاذفة بعيدة المدى وحاملة للصواريخ الاستراتيجية.

وبين بداية العملية وحتى منتصف فبراير (شباط) 2016، عندما بدأت مفاوضات وقف إطلاق النار، كانت الطائرات الروسية قد نفذت أكثر من 7200 طلعة جوية من قاعدة «حميميم» الجوية، ودمرت أكثر من 12700 هدف. ومكّن الدعم من القوات الجوية الفضائية الروسية قوات الحكومة السورية، من وقف التوسع الإقليمي لقوات المعارضة، وشن هجمات مضادة مؤثرة في محافظات حماة وإدلب وحلب. علاوة على ذلك، بفضل الضربات الروسية، فقد المعارضون، وفقاً للتقارير الروسية، أكثر من نصف دخلهم من النفط المستخرَج في مناطق سيطرتهم.
في هذه المرحلة، بدأت موسكو في تبني سياسة لإجهاض التحركات الدولية الداعمة للحل السياسي وفقاً لقرارات دولية، لذلك تم تأسيس مركز تنسيق للمصالحة بين الأطراف المتنازعة في قاعدة حميميم الجوية، ليكون بديلاً عن آليات التحرك الدولية. وفي 27 فبراير، دخل وقف إطلاق النار بين القوات الحكومية وجماعات المعارضة المسلحة في سوريا حيز التنفيذ رسمياً.
لكن على الأرض لم ينطبق وقف النار على تنظيم «داعش»، أو على الفصائل الأخرى مثل «جبهة النصرة» وعدد آخر من الفصائل المعارضة السورية. وسرعان ما أمر بوتين بسحب «الجزء الرئيسي» من المجموعة العسكرية الروسية من الأراضي السورية، لتنطلق بعدها العملية السياسية التي رسم ملامحها «الكرملين» باتفاق مع تركيا وإيران. وكجزء من عملية مفاوضات أستانا، التي بدأت في يناير (كانون الثاني) 2017، تم التوصل إلى اتفاقيات بشأن إنشاء ثلاث مناطق خفض تصعيد في محافظة إدلب، وفي منطقة دمشق (الغوطة الشرقية)، وعلى حدود محافظتي حمص وحماة.

في كل تلك المراحل كانت العلاقة مع الرئيس المخلوع بشار الأسد تمر بمراحل هبوط وصعود. وبدأ في أكثر من مفصل أن موسكو لم تثق بقدرته على إدارة عملية سياسية، وفي مراحل عدة وجهت رسائل مباشرة بأن صبرها قد بدأ ينفد. ووصل الوضع إلى ذروته، صيف 2024، أثناء اللقاء الأخير الذي جمع بوتين مع الأسد، أكدت موسكو خلاله على ضرورة التجاوب مع خطتها لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة لدفع عملية سياسية قابلة للحياة.
ومع تعدد اللقاءات على المستوى الرئاسي، بدءاً من اللقاءات الأولى التي جرت في موسكو وسوتشي بغياب البروتوكول وغياب أي مظاهر للسيادة الروسية، بما في ذلك عدم وجود مرافقين مع الأسد وعدم وضع العلم السوري في قاعة الاجتماعات، مروراً باللقاء الشهير في قاعدة «حميميم» في ديسمبر (كانون الأول) 2017 عندما استقبل بوتين الرئيس السوري المخلوع «على أرضه»، وبدا أنه (بوتين) سيد الموقف وصاحب القرار في البلاد، وصولاً إلى الزيارة الأخيرة اليائسة للأسد إلى موسكو في نوفمبر 2024، التي رفض خلالها بوتين استقباله، وعهد إلى وزير الخارجية سيرغي لافروف بتوجيه رسالة واضحة بضرورة «العودة وتسوية المشكلات بنفسه»، بدا أن موسكو كانت قد اتخذت قرارها النهائي بفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع دمشق، تراعي تفاهمات مع الأطراف الإقليمية، وتأخذ في الاعتبار فشل الأسد في دفع أي تسوية سياسية.

وقد اتضح جانب من هذا القرار مع تأكيد الرئيس أحمد الشرع، في مقابلة أخيرة، أنه أجرى اتصالات مع الجانب الروسي لتجنُّب الاشتباك مع القوات الروسية، بعد تقدُّم عملية ردع العدوان وتحرير مدينة حلب. ورغم تكتم موسكو على مجريات الاتصالات في تلك المرحلة، بدا أن روسيا جهزت سريعاً لمرحلة انتهاء عهد الأسد، بما في ذلك توجيه رسائل إلى قادة عسكريين بعدم المقاومة، ووضع ترتيبات لنقل البعض من رموز النظام السابق إلى قاعدة «حميميم»، تمهيداً لمغادرة سوريا.
ومع منح الأسد اللجوء الإنساني بعد أطاحت به، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بدا أن موسكو التي لمَّحت مراراً إلى أنه لن يسمح للرئيس المخلوع بممارسة أي نشاط سياسي، تسعى إلى طي صفحة كاملة في علاقاتها مع النظام السابق، واستشراف آفاق إقامة علاقة جديدة مع دمشق، تلبي مصالح الطرفين.
وحمل تأكيد نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك خلال زيارته أخيراً إلى دمشق، على إيلاء الكرملين أهمية خاصة للزيارة المرتقبة للرئيس السوري، في إطار أول قمة روسية عربية، أواسط الشهر الحالي، إشارة إلى رغبة روسية بتجاوز مرحلة رمت بظلال ثقيلة على علاقاتها مع الإدارة الجديدة.
ومع ترتيب هذه الزيارة، ينتظر أن تطوي موسكو ودمشق بشكل نهائي حقبة النظام المخلوع، وأن يدشن الطرفان آليات جديدة للعلاقة، في اللقاء الأول الذي ينتظر أن يجمع الرئيسين بوتين والشرع.

