تستضيف العاصمة البريطانية، الأربعاء، اجتماعاً جديداً عن أوكرانيا سيكون نسخة عن الاجتماعات التي استضافتها العاصمة الفرنسية يوم الجمعة الماضي، ولكن على مستوى الخبراء. وكانت باريس شهدت مجموعة من اللقاءات توجت باجتماع عقد في قصر الإليزيه برئاسة إيمانويل ماكرون بمشاركة ثلاثة وفود وزارية «أميركي، وأوكراني، وفرنسي»، وممثلين عن بريطانيا، وألمانيا. وجاءت المشاركة الأوروبية لتضع حداً لاستبعاد القارة القديمة من المفاوضات المنفصلة التي تجريها الولايات المتحدة مع روسيا، وأوكرانيا.
ويأتي اجتماع الأربعاء وسط مناخات أميركية متناقضة؛ إذ هدد الرئيس الأميركي دونالد ترمب ووزير خارجيته ماركو روبيو، السبت، بالتخلي عن الوساطة «في الأيام القليلة القادمة» إذا تبين للإدارة الأميركية أنه لا أمل بالتوصل إلى اتفاق سلام بين موسكو وكييف. لكن ترمب قال عكسه في اليوم التالي حين كتب على منصة «تروث سوشيال» التابعة له: «آمل أن تتوصل روسيا وأوكرانيا إلى اتفاق الأسبوع الحالي». كما قال نائبه دي جي فانس، الجمعة، من روما: «نحن نشعر بالتفاؤل بأننا قادرون على إنهاء هذه الحرب الوحشية». بيد أن ترمب لم يوفر أي تفاصيل تبرر توقعاته الإيجابية، وكذلك لم يفعل نائبه. والخلاصة أن هناك نوعاً من الضبابية التي تحيط بالتوقعات، وبما يمكن أن يسفر عنه اجتماع لندن المرتقب. وفيما عادت الحرب بين القوات الروسية والأوكرانية إلى وتيرتها السابقة بعد الاتهامات المتبادلة بشأن مسؤولية الطرف الذي انتهك «هدنة الفصح»، فإن العنصر الجديد جاء من موسكو على لسان دميتري بيسكوف، الناطق باسم الرئاسة، الذي قال الاثنين: «لا يزال الرئيس بوتين والجانب الروسي منفتحين على السعي إلى تسوية سلمية. نحن مستمرون في العمل مع الجانب الأميركي، ونأمل بالطبع أن يسفر هذا العمل عن نتائج».
«وسيلة ضغط»
وتستبعد مصادر دبلوماسية أوروبية في باريس تخلي واشنطن عن وساطتها، وتعد ذلك «وسيلة ضغط على الطرفين الروسي والأوكراني لتليين مواقفهما». وبرأي هذه الأوساط، فإن الانسحاب الأميركي من الوساطة «سيضرب صورة ترمب في الخارج والداخل» وهو الذي يرى نفسه «صانع سلام» وسيبين «عجزه» السياسي والدبلوماسي بعد الوعود التي أطلقها و«سيظهره ضعيفاً» إزاء الرئيس فلاديمير بوتين. وفي أي حال، ترى هذه المصادر أنه «لا مصلحة لواشنطن» في الانسحاب، خصوصاً بعد أن نضجت صفقة المعادن النادرة مع أوكرانيا، حيث من المقرر أن يتوجه رئيس الحكومة الأوكرانية إلى واشنطن هذا الأسبوع لتوقيعها. وبالمقابل، لا مصلحة لموسكو أو كييف في الانسحاب: فالأولى ستخسر «الهدايا» التي يبدو أن ترمب مستعد لتقديمها، ومنها الاعتراف بضم المناطق الأوكرانية الخمس التي تسيطر عليها كلياً أو جزئياً، وحرمان أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف الأطلسي، ورفع بعض العقوبات المفروضة على موسكو. ومن جهتها، ستخسر كييف الدعم الأميركي، وستجد نفسها أمام مواصلة حرب تبدو خاسرة بالنسبة إليها. وبالنظر للأوضاع الراهنة، لا تبدو الدول الأوروبية قادرة «وربما غير راغبة» في ملء كامل الفراغ الأميركي عسكرياً، ومالياً.
ورغم ما سبق، ثمة مؤشرات تفسر خلفيات التهديد الأميركي التي تبدو مرتبطة بالطروحات التي سمعها الوفد الأميركي في باريس. ووفق معلومات توافرت من أكثر من مصدر، فإن الوفد الأميركي، المؤلف من روبيو، ومن مبعوث ترمب ستيف ويتكوف، ونظيره الجنرال كيت كيلوغ، سمع طروحات متشددة من الجانب الأوكراني المدعوم أوروبياً، وهي تتناقض مع القراءة الأميركية للخطوط العريضة للحل الذي تعرضه واشنطن. ولخص وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أجواء المحادثات بقوله مساء الجمعة: «عن الطرف الأميركي فهم أن السلام العادل والدائم لا يمكن بلوغه من غير قبول ومساهمة الأوروبيين» الذين يدعمون، حتى النهاية، مطالب كييف ورؤيتها. ونقلت صحيفة «لوموند» في عددها ليومي السبت والأحد أن أندريه يرماك اغتنم «الفرصة للتشديد على الخطوط الحمراء» لكييف، والتي من الأفضل للأميركيين عدم تجاوزها في حال التوصل إلى تسوية سلمية: «لا وضع حيادياً لأوكرانيا؛ لا لنزع سلاح أو تقييد قواتها المسلحة؛ عدم الاعتراف باحتلال موسكو لأراضيها؛ ضرورة توافر ضمانات أمنية قوية لمنع المزيد من العدوان؛ عودة أسرى الحرب والمدنيين والأطفال المرحلين إلى روسيا». كذلك، تطالب أوكرانيا بأن تدفع روسيا تكاليف إعادة إعمارها تعويضاً لها. كما أنها تطالب بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والاستمرار في «مسارها الذي لا رجعة فيه» نحو حلف شمال الأطلسي رغم الفيتو الأميركي.
عدم تجاوب أوروبي
ويتضح مما سبق أن الطروحات الروسية والأوكرانية على طرفي نقيض، وأنه من الصعب التوفيق بينهما. والأوضح من ذلك أن الضغوط التي مارستها الإدارة الأميركية ممثلة بفانس، وروبيو، وويتكوف وكيلوغ لم تثنِ الجانب الأوكراني عن التمسك بمواقفه المبدئية. وترى مصادر أخرى في باريس أن الأوكرانيين رأوا في مشاركة ثلاثة وفود أوروبية في المحادثات مع الأميركيين «تشجيعاً» للتمسك بمبادئهم، ومتطلباتهم. وفُهم أن طروحاتهم جاءت بالتنسيق مع الأوروبيين. من هنا، فإن الطرف الأميركي ربما كان يراهن على موقف أوروبي من شأنه مساعدته على إقناع الرئيس فولوديمير زيلينسكي بـ«تليين» مطالبه.
وربما رأت واشنطن أن قبولها ضم ثلاث دول أوروبية (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا) إلى المفاوضات سيكون ثمنه وقوف الدول المذكورة إلى جانبها للدفع باتجاه تسوية رسمت خطوطها الرئيسة. من هنا، كانت إشارة روبيو إلى أن الحرب في أوكرانيا «تدور على التراب الأوروبي». لكن ما حصل جاء عكس توقعاتها، الأمر الذي يفسر، على الأرجح، أن روبيو أراد أن يوجه رسالته التهديدية وهو على الأراضي الفرنسية إلى الأطراف الأوروبية والأوكرانية والروسية قبل صعوده إلى الطائرة التي أقلته عائداً إلى واشنطن.
ويشار إلى أن روبيو اتصل بنظيره الروسي سيرغي لافروف من باريس لإطلاعه على ما حصل خلال اجتماعات باريس. ونقلت «لوموند» عن دبلوماسي فرنسي قوله إن روبيو «يعي بشكل أفضل ما يمكن أن يقبله الأوروبيون وأوكرانيا. أما ستيف ويتكوف فغير مهتم بذلك، وهمه فقط بدء مناقشات مع الروس». لكن يبدو أن التشدد الأوروبي - الأوكراني هو ما دفع روبيو للتهديد الذي غرضه الأول ليس حقيقة الانسحاب، بل اللجوء إلى وسيلة لانتزاع تنازلات من الطرفين الروسي والأوكراني لم تحصل عليها بلاده من خلال الدبلوماسية، حتى يتحقق أحد أهداف ترمب وهو الظهور بأنه «صانع للسلام».