فرنسا على مفترق طرق وأزمة إسقاط بارنييه تتفاعل وكل الخيارات المتاحة سيئة

ماكرون يريد الإسراع في إقفال الأزمة السياسية قبل تفاقمها باختيار رئيس حكومة في أقرب وقت

TT

فرنسا على مفترق طرق وأزمة إسقاط بارنييه تتفاعل وكل الخيارات المتاحة سيئة

رئيس الحكومة المستقيل ميشال بارنييه في البرلمان مساء الأربعاء لدى التصويت على الثقة بحكومته (أ.ف.ب)
رئيس الحكومة المستقيل ميشال بارنييه في البرلمان مساء الأربعاء لدى التصويت على الثقة بحكومته (أ.ف.ب)

لم تحصل «الأعجوبة» التي كان ينتظرها ميشال بارنييه فأسقطه البرلمان ومعه حكومته مساء الأربعاء بأكثرية مريحة (331 صوتاً) فسارع صباح الخميس إلى قصر الإليزيه ليقدم استقالته لرئيس الجمهورية الذي كلفه تصريف أعمال البلاد حتى تعيين رئيس حكومة جديد.

بيد أن أعجوبة أخرى حصلت وعنوانها «تعاضد الأضداد»، وهي من جهة اليمين المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبن ومن جهة أخرى تحالف أحزاب اليسار والخضر رغم أن لا شيء يجمع بينهما.

مجلس النواب الفرنسي مساء الأربعاء خلال جلسة التصويت على الثقة بالحكومة ورئيسها والتي أفضت إلى إسقاطه (د.ب.أ)

كانت لكل منهما أسبابه ودوافعه الخاصة، لكن كانت لهما «مصلحة موضوعية» في التخلص من بارنييه الذي لم يتح له التنعم بمنافع ترؤس الحكومة. وأمضى الرجل البالغ من العمر 73 عاماً الأشهر الثلاثة على رأسها وهو يعاني مأساة حاجته إلى إرضاء هذا واستمالة ذلك، ليس فقط من قطبي المعارضة، بل أيضاً، وخصوصاً من «الكتلة المركزية» الداعمة له مبدئياً والمشكلة من الأحزاب الثلاثة الداعمة لماكرون ومن اليمين التقليدي.

ولم يلتف هؤلاء حول بارنييه إلا عندما تبين لهم أن ترحيله عن الحكومة أصبح أمراً جدياً. لكن استفاقتهم المتأخرة وعجز إيمانويل ماكرون عن مد يد المساعدة لرئيس حكومته ساهما في إسقاطه وفي قلب صفحة من تاريخ فرنسا السياسي الحديث.

 

مستقبل ماكرون

يجمع المحللون والمراقبون على أن المستهدف من إسقاط الحكومة ورئيسها ليس بارنييه، بل ماكرون. ويرى هؤلاء أن مصلحة مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف وجان لوك ميلونشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية» و«دينامو» تحالف اليسار والخضر تكمن في دفع ماكرون إلى الاستقالة وإجراء الانتخابات الرئاسية بعدها، علماً أن الأخير لا يحق له الترشح لولاية ثانية. وسبق له في عامي 2017 و2022 أن هزم لوبن في الدورة الثانية والحاسمة من الانتخابات الرئاسية.

وبالنظر للمشهد السياسي المفتت اليوم، فإن لوبن وميلونشون واثقان من قدرتهما على التأهل للدورة الثانية والنهائية من هذه الانتخابات، خصوصاً في ظل التنافس والتناحر الذي يعرفه المعسكر الرئاسي من جهة واليمين التقليدي من جهة ثانية. ولذا؛ ليس من باب المصادفة أن الدعوات المطالِبة باستقالة ماكرون تصدر بشكل خاص عن حزب «فرنسا الأبية» وعن «التجمع الوطني» اليميني المتطرف.

والرأي السائد أنه يتعين على ماكرون الإسراع في ملء الفراغ الحكومي؛ لأن تواصل الأزمة سيعني تزايد وتشدد الأصوات الداعية إلى استقالته باعتبارها المخرج من الوضع الراهن.

المظاهرة الباريسية الخميس بناءً لدعوة من النقابات للمطالبة بزيادة الرواتب ومعالجة النقص بالقطاعين الصحي والتعليمي وفي الإدارة الرسمية (إ.ب.أ)

في هذا السياق، دعت رئيسة الجمعية الوطنية يائبل براون - بيفيه ماكرون صباح الخميس في حديث لإذاعة «فرنس أنتير» إلى تعيين رئيس جديد للوزراء «سريعاً». وبدأ ماكرون مشاوراته رسمياً، وفق ما يقوله الدستور، باستقبالها ثم استقبال رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه للبحث في الأزمة الحالية والحلول الممكنة.

كذلك، سيتعين عليه استشارة الكتل النيابية كلها للتعرف على مطالبها وما تقبله أو لا تقبله. وهمه الأول، «فبركة» تشكيلة تحظى على الأقل بأكثرية «نسبية» أو، على الأقل، بضمانات لعدم إسقاطها في أول تجربة برلمانية كما حصل مع بارنييه.

في ضوء ما سبق، يمكن فهم قرار ماكرون التوجه بكلمة إلى الفرنسيين مساء الخميس ليطلعهم على قراءته للأزمة وعلى ما ينوي القيام به لإخراج فرنسا من أزمة سياسية يمكن أن تتحول سريعاً إلى أزمة نظام. وأفادت أوساط الإليزيه بأن ماكرون ينوي تعيين خليفة لبارنييه سريعاً، علماً أنه انتظر خمسين يوماً، منذ صدور نتائج الانتخابات البرلمانية، بداية شهر يوليو (تموز) الماضي حتى استقر خياره على رئيس الحكومة المستقيل. والحال، أنه لم يعد لديه اليوم ترف القيام باستشارات ومناورات لا تنتهي لأن وضع البلاد لم يعد يحتمل هذا النوع من المقاربة بسبب تداخل الأزمات سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ومالياً، ناهيك بتدهور صورة فرنسا في الخارج وضعف وضعها داخل الاتحاد الأوروبي.

وأمس، توقفت إدارات رسمية عدة عن العمل وتعطلت الرحلات الجوية جزئياً واضطرب النقل العام في المدن الكبرى وسارت المظاهرات في العاصمة والكثير من المدن بسبب مطالب اجتماعية تتراوح ما بين المطالبة بزيادة الرواتب أو المعاشات التقاعدية أو دعم المزارعين ومساعدة القطاعين التعليمي والصحي... وليس ما حصل الخميس سوى أول الغيث؛ إذ تتحضر النقابات لحراك أوسع أيام 10 و11 و12 الحالي.

ميشال بارنييه أسقطه البرلمان ومعه حكومته... لكن كلفه ماكرون تصريف أعمال البلاد حتى تعيين رئيس حكومة جديد (أ.ب)

 

معضلة تربيع الدائرة

 

تتمثل مشكلة ماكرون في أنه، بقراره الفجائي وغير المفهوم حل البرلمان الربيع الماضي، قد أخرج المارد من القمقم وهو ليس بقادر على إعادته إليه. وترجمة هذا الكلام أنه، من بين كل الحلول التي يمكن تصورها ليس هناك حل جيد؛ إذ إنها كلها تتضمن الكثير من الرهانات ولا يوفر أي منها لرئيس الجمهورية الضمانة التي يسعى إليها، أي بقاء الحكومة قائمة حتى الصيف المقبل.

وإذا توفر له ذلك، سيتاح له مجدداً أن يحل المجلس النيابي بحثاً عن أكثرية أو عن وضع مريح بالنسبة إليه يمكنه من إنهاء ولايته الثانية ربيع عام 2027 في ظروف مقبولة. ذلك أن فرنسا تعيش اليوم تجربة مٌرّة، لا، بل لا يتردد البعض عن وصفها بـ«المصيرية». وثمة حاجة إلى حكومة قادرة على تهدئة الأوضاع والتحاور مع الجميع، وخصوصاً الاستدامة. ذلك أن حكومة جديدة تسقط في البرلمان خلال ثلاثة أشهر تعني أن على ماكرون الرحيل عن الرئاسة، وهو أمر لا يريده ويصرّ على البقاء في الإليزيه حتى آخر يوم من ولايته.

مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف والساعية للوصول إلى رئاسة الجمهورية في البرلمان مساء الأربعاء (أ.ف.ب)

يمكن تلخيص مشكلة ماكرون المستعصية أن عليه أن يوفق بين مجموعات نيابية رافضة للتعاون فيما بينها. ومن سخرية الأقدار بالنسبة لماكرون أنه برر حل المجلس النيابي برغبته في تجنيب حكومة رئيس الوزراء الأسبق غابرييل أتال سحب الثقة بمناسبة التصويت على ميزانية عام 2025. لكن، هذا بالضبط، ما حصل مع بارنييه ما يبين، إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من القرائن، أن خطوته فشلت فشلاً ذريعاً، وأن «العقاب» استهدفه شخصياً كونه المسؤول المباشر عما جرى. وذهبت صحيفة «لو موند» المستقلة في افتتاحيتها، الخميس، إلى القول إن نتيجتها الأولى جعلت اليمين المتطرف «حكماً للمشهد السياسي» بحيث يقيم أو يسقط حكومة متى شاء.

زعيمة حزب «التجمع الوطني» الفرنسي مارين لوبن كما بدت أمس... وما زالت تراهن على سباق رئاسي آخر (أ.ب)

كثيرة الأسماء التي يُتَداول بها للحلول محل بارنييه، على رأسها وزير الدفاع الحالي سيباستيان لو كورنو، ويليه رئيس حزب «الحركة الديموقراطي» فرنسوا بايرو وكلاهما يحظى، مبدئياً، بقبول مارين لوبن. ثم هناك رئيس بلدية مدينة «تروا» الوزير السابق فرنسوا باروان ووزير الداخلية الحالي برونو روتايو... وانتقاء أحد هذه الأسماء ممكن إذا أراد ماكرون دفع الحكومة إلى مزيد من اليمينية.

كتلة اليسار في البرلمان (رويترز)

في المقابل، فإن اليسار الاشتراكي والخضر والشيوعيين يحثّون ماكرون على اختيار شخصية يسارية قادرة على العمل مع «الكتلة الوسطية» الداعمة لماكرون. ومن الأسماء المطروحة برنار كازنوف، رئيس الحكومة الاشتراكي الأسبق وبوريس فالو، رئيس مجموعة نواب الحزب الاشتراكي في البرلمان حالياً، وكلاهما قادر على العمل مع وزراء ينتمون إلى المعسكر الرئاسي وحتى إلى اليمين التقليدي شرط البقاء بعيداً عن اليمين المتطرف. أما في حال سقوط هذه السيناريوهات كافة، فيبقى أمام ماكرون احتمال اللجوء إلى حكومة من التكنوقراط أي غير مسيسة مهمتها تسيير شؤون البلاد وبداية إقرار الموازنة العامة وموازنة الضمان الاجتماعي. والقرار بين يدي ماكرون فهل سينجح هذه المرة في خياره أم أن فرنسا ستتجه إلى مزيد من التوتير والتدهور؟


مقالات ذات صلة

أميركا تندد بتنصيب مادورو رئيساً... وتفرض عقوبات جديدة على فنزويلا

الولايات المتحدة​ الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يُحيي أنصاره لدى وصوله إلى الجمعية الوطنية لأداء اليمين الدستورية لولاية ثالثة مدتها 6 سنوات في كاراكاس بفنزويلا 10 يناير 2025 (رويترز)

أميركا تندد بتنصيب مادورو رئيساً... وتفرض عقوبات جديدة على فنزويلا

ندّدت الولايات المتحدة، اليوم (الجمعة)، بـ«مهزلة» تنصيب نيكولاس مادورو رئيساً لفنزويلا لولاية ثالثة، وفرضت عقوبات جديدة على كاراكاس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أميركا اللاتينية غلق جسر أتاناسيو غيرادوت الدولي بأوامر من رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو (أ.ف.ب)

فنزويلا تغلق حدودها مع كولومبيا قبل تنصيب مادورو

أغلقت فنزويلا حدودها مع كولومبيا متحدثة عن «مؤامرة دولية» قبل ساعات من تنصيب الرئيس نيكولاس مادورو لولاية ثالثة من 6 سنوات.

«الشرق الأوسط» (كراكاس)
أميركا اللاتينية الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يصل إلى مقر الجمعية الوطنية لحضور حفل تنصيبه (أ.ف.ب)

تنصيب نيكولاس مادورو لولاية رئاسية ثالثة في فنزويلا

أدى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو اليمين لولاية ثالثة تستمر 6 أعوام، الجمعة، ليبقى في السلطة على الرغم من نزاع استمر 6 أشهر بشأن نتائج انتخابات الرئاسة.

«الشرق الأوسط» «الشرق الأوسط» (كاراكاس)
المشرق العربي الرئيس الجديد جوزيف عون جالساً على كرسي الرئاسة في قصر بعبدا لأول مرة بعد انتخابه الخميس (أ.ف.ب)

ماكرون قريباً في لبنان... وتأكيد فرنسي على دعم «غير مشروط» بعد انتخاب عون

بعد انتخاب العماد جوزيف عون، تؤكد باريس أن «دعمنا للبنان سيكون متواصلاً وتاماً وغير مشروط»، وتحث السياسيين اللبنانيين على تشكيل حكومة قوية تدعم الرئيس.

ميشال أبونجم (باريس)
المشرق العربي سفراء الدول والدبلوماسيون حاضرون في جلسة انتخاب الرئيس اللبناني (رويترز)

ترحيب عربي ودولي واسع بانتخاب عون رئيساً للبنان

لاقى انتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً للبنان ردود فعل دولية وعربية مرحبّة ومشددة على أهمية أن تستعيد البلاد الأمن والاستقرار.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

الأوروبيون ينظرون بقلق إلى طموحات ترمب التوسعية و«الإمبريالية» وشولتس يعدها تهدد النظام العالمي

علم غرينلاند يرفرف في مستوطنة إيغاليكو (رويترز)
علم غرينلاند يرفرف في مستوطنة إيغاليكو (رويترز)
TT

الأوروبيون ينظرون بقلق إلى طموحات ترمب التوسعية و«الإمبريالية» وشولتس يعدها تهدد النظام العالمي

علم غرينلاند يرفرف في مستوطنة إيغاليكو (رويترز)
علم غرينلاند يرفرف في مستوطنة إيغاليكو (رويترز)

يوماً بعد يوم، ومع اقتراب عودته إلى البيت الأبيض، تتزايد مخاوف الأوروبيين من السياسات التي سيتبعها الرئيس دونالد ترمب إزاء مجموعة من الملفات التي تشغل أذهان التكتل الأوروبي، على رأسها ملف الحرب الأوكرانية.

رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في صورة جماعية مع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، يوم 19 ديسمبر 2024 (رويترز)

لقد دأب الأوروبيون، في اجتماعاتهم الأخيرة، على تأكيد أنهم مستمرون في دعم أوكرانيا طالما طال الزمن واحتاجت لذلك. لكن أصواتاً مختلفةً أخذت تُسمع في الفترة الأخيرة، وآخرها صدر عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يريد أن يُفرض كأفضل صديق وداعم لأوكرانيا. فقد دعا، في خطابه أمام السلك الدبلوماسي لبلاده، الأوكرانيين، إلى تقبل «إجراء مناقشات واقعية حول القضايا الإقليمية»، أي حول الأراضي التي تطالب كييف باستعادتها لوضع حد للحرب. وبكلام آخر، فإن ماكرون يدعو كييف لتبني مقاربة «براغماتية» باعتبار أن طرد القوات الروسية من شرق أوكرانيا ومن شبه جزيرة القرم لن يتم بقوة السلاح، وأن التمسك باستعادة كامل أراضيها المحتلة قد لا يكون مطلباً «واقعياً». إلا أن ماكرون سارع، بالمقابل، إلى تحذير الرئيس ترمب الذي يريد بناء علاقة وثيقة معه من أنه «لا يوجد حل سريع وسهل» في أوكرانيا، وأنه يعود للأوكرانيين «وحدهم» أن يتخذوا بأنفسهم القرارات التي تخص بلادهم، لا أن تفرض عليهم من الخارج فرضاً.

كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي مع وزراء خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا في روما يوم الخميس (إ.ب.أ)

عودة الإمبريالية الأميركية

بيد أن أوكرانيا ليست وحدها مصدر الصداع الذي يؤرق الأوروبيين. ففي الأيام الأخيرة، تتحدث الصحافة الغربية عن «طموحات ترمب» التوسعية التي وصفتها صحيفة «لو فيغارو» اليمينية و«لوموند» المستقلة بـ«الإمبريالية». وكرر ترمب في مؤتمره الصحافي الأخير أنه يريد شراء جزيرة غرينلاند من الدانمارك، ولم يستبعد اللجوء إلى القوة حال رفضت كوبنهاغن عرضه. كذلك أكد أنه عازم على «استعادة بنما الاستراتيجية، لوضع اليد مجدداً على قناتها التي تربط المحيطين الأطلسي والهادئ». وسبق له أن أعرب عن رغبته في تحول كندا إلى الولاية الأميركية الحادية والخمسين.

وكتبت «لو فيغارو»، في عددها ليوم الجمعة، أن طموحات ترمب «من شأنها أن تنسف العلاقات الدولية، وأنها أثارت الذهول والفوضى رغم أن عدداً من المحللين العقلانيين نظروا إليها على أنها جزءٌ من استراتيجية تفاوضية تقوم على المطالبة بالمستحيل للحصول على تنازلات محدودة اقتصادية وجمركية». ورأى آخرون أنها «تكتيكات» للهيمنة على المناقشات والمواضيع المطروحة والتفرد بالاهتمام الإعلامي.

ترمب وميلوني في صورة جمعتهما مع المرشّحين لمنصبي وزير الخزانة سكوت بيسنت (يسار) والخارجية ماركو روبيو في مارالاغو 4 يناير (إ.ب.أ)

كان أولاف شولتس، المستشار الألماني، من بين القادة الأوروبيين الأكثر جرأة في الرد على تهديدات ترمب، إذ شدد في تصريحاته الأخيرة على «مبدأ حرمة الحدود الذي ينطبق على أي دولة، سواء صغيرة أو دولة قوية للغاية، إنه مبدأ أساسي في القانون الدولي». إلا أن هذه الشجاعة لم يتحل بها وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، الذي امتنع الخميس، في حديث لقناة «سكاي نيوز»، عن «إدانة» طموحات ترمب التوسعية بتأكيده أن هدفه «ليس التنديد بأقرب حلفائنا» (الولايات المتحدة). وبرر لامي موقفه المتساهل بأن تهديدات ترمب «لن تتحقق»، قائلاً: «لنكن جديين: هذا أمر لن يحصل، إذ إن أي بلد ينتمي إلى الحلف الأطلسي لم يدخل في حرب (ضد عضو آخر) منذ أن أنشئ». وبرأيه، فإن ترمب «يشير إلى المخاوف المرتبطة (بما تقوم به) روسيا والصين في المحيط المتجمد الشمالي وهي مشروعة لأنها تتناول الأمن الاقتصادي الوطني» للولايات المتحدة.

أوروبا الخائفة

حقيقة الأمر أن ترمب يخيف الأوروبيين، وبعضهم لا يريد أن يوتر العلاقات معه، بل يحرص على التقرب منه، على رأس هؤلاء القادة جيورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، التي زارت ترمب في الرابع من الشهر الحالي، وكالت له المديح في العديد من المرات. وأكدت ميلوني أن ترمب «لن ينفذ» تهديداته، وأن ما قاله «رسائل موجهة إلى قوى عظمى (الصين وروسيا) أكثر مما تعبر عن مطامع» تطول الدنمارك أو بنما.

وسعت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية، إلى التخفيف من أهمية تصريحات ترمب، إذ قالت، في مقابلة مع صحيفة «لو موند»، يوم الخميس، إن واشنطن «تحترم ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على وجوب احترام السلامة الإقليمية للدول وسيادتها. ولذلك فإنني على يقين من أنها ستتبع هذه المبادئ أيضاً في المستقبل». وقد ذهبت كالاس إلى حد إيجاد الأعذار، لا بل الترحيب بما سمته «اهتمام الرئيس المنتخب بالقطب الشمالي، لأن هذه المنطقة مهمة للغاية من حيث المواد الخام الحيوية وطرق التجارة والأمن». أما رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، ورئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، فقد كتبا، في رسالتين متطابقتين على منصة «إكس»، أنه ينبغي على الولايات المتحدة وأوروبا «المضي قدماً جنباً إلى جنب»، ودعيا إلى «مشاركة إيجابية مع الإدارة الأميركية الجديدة، استناداً إلى قيمنا المشتركة ومصالحنا المشتركة. ففي عالم صعب، ستكون أوروبا والولايات المتحدة أقوى معاً».

طائرة تحمل رجل الأعمال الأميركي دونالد ترمب جونيور تصل إلى نوك في غرينلاند (أ.ف.ب)

كوبنهاغن: لا أزمة مع واشنطن

أما الحكومة الدنماركية، فإنها تسعى للتوفيق بين موقف متشدد من أطماع ترمب، والحرص على عدم إثارة أزمة دبلوماسية معه. كما أنها تسعى لموقف وطني جامع كان هدف الاجتماع الذي دعت إليه كل الأحزاب مساء الخميس الماضي. وقالت ميتي فريديريكسن، رئيسة حكومتها، إن غرينلاند «ملك لأهلها»، معتبرة أن اقتراح ترمب «عبثي». لكنها أكدت بالمقابل أن الولايات المتحدة «أقرب حليف لبلادها». وتبدو كوبنهاغن «مرتبكة»، وهو ما يبرز من خلال تصريحات لارس لوك راسموسن، وزير الخارجية، يوم الخميس، إذ نفى من جهة «وجود أزمة دبلوماسية» مع واشنطن، مضيفاً أن بلاده «لا تسعى بتاتاً إلى تأجيج حرب كلامية مع رئيس سيعود إلى المكتب البيضوي» قريباً. لكنه أضاف، من جهة ثانية، أنه لا بدّ من أن نأخذ «أقوال» ترمب على محمل الجدّ بدرجة كبيرة لكن ليس بالضرورة حرفياً.

قام نجل الرئيس المنتخب بزيارة خاصة لغرينلاند في 7 يناير (أ.ب)

ما سبق ليس سوى عينة من المشاكل التي ستندلع بين ترمب والقارة القديمة، إذ تتعين الإشارة إلى تهديدات الأخير بمضاعفة الرسوم المفروضة على الصادرات الأوروبية، ومطالبة الأوروبيين أعضاء الحلف الأطلسي برفع ميزانياتهم الدفاعية إلى 5 بالمائة، وهي لا تزيد بالإجمال راهناً عن اثنين بالمائة.

علما الدنمارك وغرينلاند (أ.ف.ب)

ويشتاط غيظ الأوروبيين من تدخل إيلون ماسك، حليف ترمب وعضو إدارته القادمة، من تدخلاته المتلاحقة في الشؤون الأوروبية، أكان بالنسبة للانتخابات الألمانية، أو إزاء رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر... إلا أن غيظهم لم يترجم، حتى الساعة، إلى إجراءات ما، إزاء مالك منصة «إكس»، ما يعكس، مرة أخرى، ضعفهم إزاء الحليف الأميركي وكبريات المنصات الرقمية الأميركية الكبرى.