لم تحصل «الأعجوبة» التي كان ينتظرها ميشال بارنييه فأسقطه البرلمان ومعه حكومته مساء الأربعاء بأكثرية مريحة (331 صوتاً) فسارع صباح الخميس إلى قصر الإليزيه ليقدم استقالته لرئيس الجمهورية الذي كلفه تصريف أعمال البلاد حتى تعيين رئيس حكومة جديد.
بيد أن أعجوبة أخرى حصلت وعنوانها «تعاضد الأضداد»، وهي من جهة اليمين المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبن ومن جهة أخرى تحالف أحزاب اليسار والخضر رغم أن لا شيء يجمع بينهما.
كانت لكل منهما أسبابه ودوافعه الخاصة، لكن كانت لهما «مصلحة موضوعية» في التخلص من بارنييه الذي لم يتح له التنعم بمنافع ترؤس الحكومة. وأمضى الرجل البالغ من العمر 73 عاماً الأشهر الثلاثة على رأسها وهو يعاني مأساة حاجته إلى إرضاء هذا واستمالة ذلك، ليس فقط من قطبي المعارضة، بل أيضاً، وخصوصاً من «الكتلة المركزية» الداعمة له مبدئياً والمشكلة من الأحزاب الثلاثة الداعمة لماكرون ومن اليمين التقليدي.
ولم يلتف هؤلاء حول بارنييه إلا عندما تبين لهم أن ترحيله عن الحكومة أصبح أمراً جدياً. لكن استفاقتهم المتأخرة وعجز إيمانويل ماكرون عن مد يد المساعدة لرئيس حكومته ساهما في إسقاطه وفي قلب صفحة من تاريخ فرنسا السياسي الحديث.
مستقبل ماكرون
يجمع المحللون والمراقبون على أن المستهدف من إسقاط الحكومة ورئيسها ليس بارنييه، بل ماكرون. ويرى هؤلاء أن مصلحة مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف وجان لوك ميلونشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية» و«دينامو» تحالف اليسار والخضر تكمن في دفع ماكرون إلى الاستقالة وإجراء الانتخابات الرئاسية بعدها، علماً أن الأخير لا يحق له الترشح لولاية ثانية. وسبق له في عامي 2017 و2022 أن هزم لوبن في الدورة الثانية والحاسمة من الانتخابات الرئاسية.
وبالنظر للمشهد السياسي المفتت اليوم، فإن لوبن وميلونشون واثقان من قدرتهما على التأهل للدورة الثانية والنهائية من هذه الانتخابات، خصوصاً في ظل التنافس والتناحر الذي يعرفه المعسكر الرئاسي من جهة واليمين التقليدي من جهة ثانية. ولذا؛ ليس من باب المصادفة أن الدعوات المطالِبة باستقالة ماكرون تصدر بشكل خاص عن حزب «فرنسا الأبية» وعن «التجمع الوطني» اليميني المتطرف.
والرأي السائد أنه يتعين على ماكرون الإسراع في ملء الفراغ الحكومي؛ لأن تواصل الأزمة سيعني تزايد وتشدد الأصوات الداعية إلى استقالته باعتبارها المخرج من الوضع الراهن.
في هذا السياق، دعت رئيسة الجمعية الوطنية يائبل براون - بيفيه ماكرون صباح الخميس في حديث لإذاعة «فرنس أنتير» إلى تعيين رئيس جديد للوزراء «سريعاً». وبدأ ماكرون مشاوراته رسمياً، وفق ما يقوله الدستور، باستقبالها ثم استقبال رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه للبحث في الأزمة الحالية والحلول الممكنة.
كذلك، سيتعين عليه استشارة الكتل النيابية كلها للتعرف على مطالبها وما تقبله أو لا تقبله. وهمه الأول، «فبركة» تشكيلة تحظى على الأقل بأكثرية «نسبية» أو، على الأقل، بضمانات لعدم إسقاطها في أول تجربة برلمانية كما حصل مع بارنييه.
في ضوء ما سبق، يمكن فهم قرار ماكرون التوجه بكلمة إلى الفرنسيين مساء الخميس ليطلعهم على قراءته للأزمة وعلى ما ينوي القيام به لإخراج فرنسا من أزمة سياسية يمكن أن تتحول سريعاً إلى أزمة نظام. وأفادت أوساط الإليزيه بأن ماكرون ينوي تعيين خليفة لبارنييه سريعاً، علماً أنه انتظر خمسين يوماً، منذ صدور نتائج الانتخابات البرلمانية، بداية شهر يوليو (تموز) الماضي حتى استقر خياره على رئيس الحكومة المستقيل. والحال، أنه لم يعد لديه اليوم ترف القيام باستشارات ومناورات لا تنتهي لأن وضع البلاد لم يعد يحتمل هذا النوع من المقاربة بسبب تداخل الأزمات سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ومالياً، ناهيك بتدهور صورة فرنسا في الخارج وضعف وضعها داخل الاتحاد الأوروبي.
وأمس، توقفت إدارات رسمية عدة عن العمل وتعطلت الرحلات الجوية جزئياً واضطرب النقل العام في المدن الكبرى وسارت المظاهرات في العاصمة والكثير من المدن بسبب مطالب اجتماعية تتراوح ما بين المطالبة بزيادة الرواتب أو المعاشات التقاعدية أو دعم المزارعين ومساعدة القطاعين التعليمي والصحي... وليس ما حصل الخميس سوى أول الغيث؛ إذ تتحضر النقابات لحراك أوسع أيام 10 و11 و12 الحالي.
معضلة تربيع الدائرة
تتمثل مشكلة ماكرون في أنه، بقراره الفجائي وغير المفهوم حل البرلمان الربيع الماضي، قد أخرج المارد من القمقم وهو ليس بقادر على إعادته إليه. وترجمة هذا الكلام أنه، من بين كل الحلول التي يمكن تصورها ليس هناك حل جيد؛ إذ إنها كلها تتضمن الكثير من الرهانات ولا يوفر أي منها لرئيس الجمهورية الضمانة التي يسعى إليها، أي بقاء الحكومة قائمة حتى الصيف المقبل.
وإذا توفر له ذلك، سيتاح له مجدداً أن يحل المجلس النيابي بحثاً عن أكثرية أو عن وضع مريح بالنسبة إليه يمكنه من إنهاء ولايته الثانية ربيع عام 2027 في ظروف مقبولة. ذلك أن فرنسا تعيش اليوم تجربة مٌرّة، لا، بل لا يتردد البعض عن وصفها بـ«المصيرية». وثمة حاجة إلى حكومة قادرة على تهدئة الأوضاع والتحاور مع الجميع، وخصوصاً الاستدامة. ذلك أن حكومة جديدة تسقط في البرلمان خلال ثلاثة أشهر تعني أن على ماكرون الرحيل عن الرئاسة، وهو أمر لا يريده ويصرّ على البقاء في الإليزيه حتى آخر يوم من ولايته.
يمكن تلخيص مشكلة ماكرون المستعصية أن عليه أن يوفق بين مجموعات نيابية رافضة للتعاون فيما بينها. ومن سخرية الأقدار بالنسبة لماكرون أنه برر حل المجلس النيابي برغبته في تجنيب حكومة رئيس الوزراء الأسبق غابرييل أتال سحب الثقة بمناسبة التصويت على ميزانية عام 2025. لكن، هذا بالضبط، ما حصل مع بارنييه ما يبين، إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من القرائن، أن خطوته فشلت فشلاً ذريعاً، وأن «العقاب» استهدفه شخصياً كونه المسؤول المباشر عما جرى. وذهبت صحيفة «لو موند» المستقلة في افتتاحيتها، الخميس، إلى القول إن نتيجتها الأولى جعلت اليمين المتطرف «حكماً للمشهد السياسي» بحيث يقيم أو يسقط حكومة متى شاء.
كثيرة الأسماء التي يُتَداول بها للحلول محل بارنييه، على رأسها وزير الدفاع الحالي سيباستيان لو كورنو، ويليه رئيس حزب «الحركة الديموقراطي» فرنسوا بايرو وكلاهما يحظى، مبدئياً، بقبول مارين لوبن. ثم هناك رئيس بلدية مدينة «تروا» الوزير السابق فرنسوا باروان ووزير الداخلية الحالي برونو روتايو... وانتقاء أحد هذه الأسماء ممكن إذا أراد ماكرون دفع الحكومة إلى مزيد من اليمينية.
في المقابل، فإن اليسار الاشتراكي والخضر والشيوعيين يحثّون ماكرون على اختيار شخصية يسارية قادرة على العمل مع «الكتلة الوسطية» الداعمة لماكرون. ومن الأسماء المطروحة برنار كازنوف، رئيس الحكومة الاشتراكي الأسبق وبوريس فالو، رئيس مجموعة نواب الحزب الاشتراكي في البرلمان حالياً، وكلاهما قادر على العمل مع وزراء ينتمون إلى المعسكر الرئاسي وحتى إلى اليمين التقليدي شرط البقاء بعيداً عن اليمين المتطرف. أما في حال سقوط هذه السيناريوهات كافة، فيبقى أمام ماكرون احتمال اللجوء إلى حكومة من التكنوقراط أي غير مسيسة مهمتها تسيير شؤون البلاد وبداية إقرار الموازنة العامة وموازنة الضمان الاجتماعي. والقرار بين يدي ماكرون فهل سينجح هذه المرة في خياره أم أن فرنسا ستتجه إلى مزيد من التوتير والتدهور؟