ولادة متعثرة للحكومة الفرنسية بعد مساومات ومناورات مستفيضة

ماكرون أبقى على 3 وزارات سيادية بين يديه

الرئيس إيمانويل ماكرون نجح في قلب نتائج الانتخابات وتعيين حكومة مشتركة بين معسكره واليمين التقليدي (إ.ب.أ)
الرئيس إيمانويل ماكرون نجح في قلب نتائج الانتخابات وتعيين حكومة مشتركة بين معسكره واليمين التقليدي (إ.ب.أ)
TT

ولادة متعثرة للحكومة الفرنسية بعد مساومات ومناورات مستفيضة

الرئيس إيمانويل ماكرون نجح في قلب نتائج الانتخابات وتعيين حكومة مشتركة بين معسكره واليمين التقليدي (إ.ب.أ)
الرئيس إيمانويل ماكرون نجح في قلب نتائج الانتخابات وتعيين حكومة مشتركة بين معسكره واليمين التقليدي (إ.ب.أ)

يتعين الاعتراف بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نجح في قلب نتائج الانتخابات البرلمانية، التي جرت جولتها النهائية يوم 7 يوليو (تموز) لصالحه، رغم الهزيمة التي لحقت بمعسكره الذي فقد في البرلمان الجديد نحو 100 نائب، ومعها خسر الأكثرية المطلقة. ويكفي النظر للحكومة الجديدة التي أعلن تشكيلها برئاسة المفوض الأوروبي ميشال بارنييه، بعد مشاورات ومناورات دامت أسبوعين، ليتبين أن ما حصل ليس حكومة جديدة، بل هي أقرب إلى تعديل وزاري.

والدليل على ذلك أن الوزارات الرئيسية، الخارجية والدفاع والاقتصاد، يشغلها وزراء ينتمون إلى المعسكر الرئاسي. والاستثناء الوحيد، على مستوى الوزارات السيادية، يكمن في إيكال وزارة الداخلية وما وراء البحار إلى برونو ريتايو، رئيس مجموعة اليمين التقليدي في مجلس الشيوخ، وهو الأبرز بين الوزراء الذين ينتمون لتياره. وكان أحد الأثمان التي قبل إيمانويل ماكرون وبارنييه بدفعها لحزب «اليمين الجمهوري» (سابقاً الجمهوريون) لقبول الانضمام للحكومة.

عملياً، ونظراً للتحالف الحكومي بين الأحزاب الداعمة لماكرون؛ وهي «معاً من أجل الجمهورية» و«هورايزون» و«الحركة الديمقراطية» و«اليمين الجمهوري» يكون ماكرون قد حقّق ما كان يريد تحقيقه منذ أكثر من سنتين، وهو قيام تحالف بين هذين المكونين. ووفق المحللين كافة، فإن الحكومة الجديدة هي الأكثر يمينية، بل إن بعض طروحات وزرائها، وعلى رأسهم وزير الداخلية الجديد، تدفع بها إلى اليمين المتشدد، فضلاً عن أن بارنييه، الذي أخذ الفرنسيون يعدّونه «الشخصية المفضلة» لديهم، ليس وسطياً.

وما تناوله خلال الأسبوعين الماضيين ينم عن يمينيته، خصوصاً بشأن ملفي الهجرات والأمن والمسائل الاجتماعية، مثل قانون التقاعد. ومنذ تعيينه، لم يتردد معارضوه من العودة إلى برنامجه عندما كان مرشحاً رئاسياً عام 2022، حيث قدّم طروحات محافظة للغاية.

حكومة يمينية بامتياز

صورة مركبة للوزراء الرئيسيين في الحكومة الجديدة التي ولدت بعد 15 يوماً من المشاورات (أ.ف.ب)

تفيد الأرقام أن الحكومة الجديدة تحظى بدعم ما بين 215 و230 نائباً في البرلمان، بينما الأكثرية المطلقة تتطلب 289 نائباً، فيما بقية المجلس تتشكل من نواب «الجبهة الشعبية الجديدة» (أي أحزاب اليسار والخضر)، ونواب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن. والحال أنه من غير الضوء الأخضر الذي أعطته لوبن لترشيح بارنييه، ما كان هذا الأخير سيكلف تشكيل الحكومة. ولكن لوبن، التي وعدت مباشرة أو بالواسطة، الرئيس ماكرون بأن نوابها لن ينضموا إلى نواب اليسار لسحب الثقة من الحكومة لدى أول مناسبة، تريد «ثمناً» لتسامحها يتعين أن تقبضه من خلال «تناغم» سياسات بارنييه في ملفات الهجرات والأمن والمطالب الأخرى. من هنا، تفهم الأسباب التي دفعت ماكرون وبارنييه إلى تسليم حقيبة الداخلية إلى روتايو، كدليل على التجاوب الضمني مع ما تريده لوبن.

بالنظر إلى ما سبق، فإن حكومة بارنييه تواجه ألغاماً وتحديات كثيرة، وتفتقد الانسجام والدعم المطلق حتى من نواب المعسكر الماكروني. وبأي حال، ثمة قناعة راسخة أن ماكرون لن يتردد، الصيف المقبل، في حل البرلمان مرة جديدة من أجل تغيير التوازنات الحالية داخله، حيث تشكّل 3 مجموعات كبيرة؛ أولاها مجموعة اليسار، تليها مجموعة المعسكر الماكروني، وثالثتها مجموعة اليمين المتطرف.

ومنذ اليوم الأول من عمر الحكومة، وصف أوليفيه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، الحكومة بأنها «رجعية تشكل استهزاء بالديمقراطية»، مؤكداً أن حزبه سيعمد إلى طرح الثقة بالحكومة سريعاً، فيما عدّها زعيم حزب «فرنسا الأبية» والمرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون «فاقدة للشرعية السياسية»، داعياً إلى التخلص منها «بأسرع وقت».

وحثّ الرئيس (الاشتراكي) السابق فرنسوا هولند، المعروف باعتداله، رفاقه في الحزب إلى عدم التأخر في طرح الثقة. وبانتظار أن يعود مجلس النواب إلى الالتئام، وأن يستمع النواب إلى البرنامج الذي من المفترض ببارنييه أن يقدّمه في الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، فإن تعبير اليسار عن رفض ما يسمونه «سرقة نتائج الانتخابات» يتخذ 3 أشكال؛ أولها مسار تنحية ماكرون في البرلمان بالاستناد إلى النصوص الدستورية. وثانيها تواصل المظاهرات كل يوم سبت في باريس وكثير من المدن الكبرى والمتوسطة، وثالثها سحب الثقة من الحكومة.

مخاطر السقوط في البرلمان

رئيسا الحكومة السابق والحالي غابرييل أتال وميشال بارنييه لدى احتفالية التسلم والتسليم يوم 5 سبتمبر (أ.ف.ب)

بيد أن ماكرون مطمئن بالنسبة للمسار الأول بالغ التعقيد قانونياً، الذي يتطلب تبنيه تصويت ثلثي النواب والشيوخ لصالحه. والحال أن أمراً كهذا غير متوافر. كذلك، فإن المظاهرات لن تُفضي إلى إسقاط الحكومة أو استقالتها، لأنها حتى اليوم لم تحشد ما يكفي من الدعم الشعبي، خصوصاً أن نسبة من المواطنين تريد أن تعطيها الفرصة لكي تبدأ العمل، وأن تنظر لاحقاً في النتائج.

وبأي حال، يعدّ المحللون أن سقوط بارنييه سيوجد مشكلة مستعصية، وسيعيد الأزمة السياسية إلى المربع الأول، باعتبار أن توازنات البرلمان لن تتغير، وأنه لن يحق لماكرون، وفق النصوص الدستورية، حل مجلس النواب مجدداً قبل مرور عام كامل على حلّه المرة الأولى. أما تضافر اليسار واليمين المتطرف لإسقاط الحكومة، فإنه مستبعد أقله على المدى المنظور، لأن لوبن ستمثل، بدءاً من أول أكتوبر (تشرين الأول) أمام محكمة الجنايات في باريس مع 26 من زملائها، للاشتباه في اختلاس أموال أوروبية مخصصة لتوظيف مساعدين برلمانيين من أجل دفع رواتب موظفي التجمع الوطني. وتطعن زعيمة الحزب في التهم الموجهة إليها. ولذا، سيكون من الصعب عليها وعلى نوابها أن يخوضوا معركتين في وقت واحد: سياسية وقضائية. من هنا، فإن سقوط الحكومة السريع ليس مرتقباً.

كثيرة هي التحديات التي تواجهها حكومة بارنييه، وأوّلها إيجاد الانسجام بين مكوناتها ودعمها للعمل بوجهة واحدة. وتحديها الثاني عنوانه إقرار ميزانية عام 2025، التي تأخر إيصالها إلى مكتب البرلمان ليبدأ النظر في فقراتها، علماً أنه يتعين على وزارة المالية أن تعمد إلى اقتطاع مخصصات بالمليارات. والحال أن فرنسا بعيدة جداً عن معاييير الاتحاد، الذي يفرض على أعضائه ألا يزيد عجز الميزانية عن 3 بالمائة، فيما عجز فرنسا يجاور 6 بالمائة. وتجدر الإشارة الى أن ديون فرنسا تزيد على 3 آلاف مليار يورو.

الحقائب السيادية بيد ماكرون

تفتقر الحكومة الجديدة إلى شخصيات سياسية وازنة، لأن أنظار هذه الشخصيات شاخصة نحو الاستحقاقات الانتخابية، ولا تريد أن «تحرق أجنحتها» في حكومة قصيرة العمر. ونجح ماكرون في الإبقاء على وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو في منصبه، وعيّن في الخارجية جان نويل بارو، الذي كان سكرتير دولة للشؤون الأوروبية في الحكومة السابقة. وينتمي بارو إلى «الحركة الديمقراطية» الوسطية، ولا تعرف عنه مواقف محددة، ولا شك أنه سيكون أداة طيعة بيدي ماكرون كما حال لوكورنو.

وعيّن بنجامين حداد وزيراً للشؤون الأوروبية، وكان انتخب نائباً في الانتخابات الأخيرة على اللائحة الرئاسية. بيد أن حداد معروف بميوله الأطلسية وبتأييده المطلق لأوكرانيا وإسرائيل. وسبق له أن عمل في واشنطن لصالح المركز اليميني المعروف «أتلانتيك كاونسل». أما أنطوان أرماند، فتسلّم حقيبة المالية، وهو بالغ من العمر 33 عاماً. وقد انتخب على اللائحة الرئاسية نائباً مرتين، وكان يفترض به أن يترأس اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب لو لم يعطَ حقيبة المالية، التي هي الأخطر في الوقت الراهن. وعُيّن إلى جانبه لوران سان مارتان، بصفته سكرتير دولة.

وإلى جانب وزراء الوسط واليمين، هناك وزير «يساري» واحد هو وزير العدل ديديه ميغو، الاشتراكي السابق البالغ من العمر 72 عاماً، وسبق له أن تقلد مناصب إدارية رفيعة، وانتخب نائباً لفترات طويلة.


مقالات ذات صلة

ماكرون يزور المغرب لإعادة إطلاق العلاقات الثنائية

شمال افريقيا الملك محمد السادس مستقبلاً الرئيس ماكرون خلال زيارته للرباط في نوفمبر 2018 (رويترز)

ماكرون يزور المغرب لإعادة إطلاق العلاقات الثنائية

أعلن قصر الإليزيه لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيزور المغرب في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شمال افريقيا الرئيسان الجزائري والفرنسي في أغسطس 2022 (الرئاسة الجزائرية)

ماكرون لتقديم اعتراف مثير في «مصالحة الذاكرة» مع الجزائر

تشير مؤشرات، تتعلق بمسعى «مصالحة الذاكرتين» بين الجزائر وفرنسا، إلى اعتراف وشيك من الرئيس ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن تعذيب واغتيال العربي بن مهيدي.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون 26 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

ماكرون: نتانياهو سيرتكب خطأ إن رفض وقف إطلاق النار مع «حزب الله»

 قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم (الخميس)، إن فرنسا تعارض أن يصبح لبنان غزة جديدة وطالب إسرائيل بوقف هجماتها وحزب الله بالتوقف عن الرد.

«الشرق الأوسط» (مونتريال)
شؤون إقليمية البحث عن ناجين بعد ضربة جوية إسرائيلية شمال بيروت الخميس (رويترز)

جهود فرنسية لمنع اشتعال الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية

الدبلوماسية الفرنسية تنشط لتجنب الحرب الواسعة، والرئيس ماكرون يسير على خطى سلفه جاك شيراك.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حضر اجتماع غداء في الأمم المتحدة (رويترز)

ماكرون يدعو لتقييد حق استخدام «الفيتو» بمجلس الأمن في حالات «القتل الجماعي»

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم (الأربعاء)، إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي عبر تقييد حقّ استخدام «الفيتو» في حالات «القتل الجماعي».

«الشرق الأوسط» (باريس)

تعديل العقيدة النووية الروسية... بوتين يصعّد لهجة تحذيراته للغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
TT

تعديل العقيدة النووية الروسية... بوتين يصعّد لهجة تحذيراته للغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)

رفعت موسكو سقف تهديداتها للغرب، في إطار مواجهة ما وصف بأنه «تهديدات جديدة» تتعرض لها روسيا. وفي أول خطوة عملية للرد على زيادة معدلات الانخراط الغربي في الحرب الأوكرانية، وضعت التعديلات التي استحدثها الرئيس فلاديمير بوتين في العقيدة النووية الروسية مجالات أوسع لاستخدام محتمل للسلاح غير التقليدي، وخفضت سقف الشروط التي كانت تقيّد اللجوء إلى الترسانة النووية للدفاع عن مصالح روسيا وحماية وحدة أراضيها وسيادتها.

الرئيس الروسي ترأس اجتماعاً الأربعاء لمجلس الأمن القومي خُصّص لمناقشة ملف «الردع النووي» (رويترز)

عقب إعلان الرئيس الروسي اتهمت أوكرانيا القيادة في موسكو بـ«الابتزاز النووي». وقال أندري يرماك، كبير مسؤولي مكتب الرئيس الأوكراني، عبر تطبيق «تلغرام»: «لم يتبق لروسيا سوى الابتزاز النووي. ليس لديها أي وسيلة أخرى لترويع العالم»، مضيفاً أن محاولة الترويع لن تجدي نفعاً.

ولم يخفِ الكرملين أن الرسالة الأولى والأهم في التعديلات على العقيدة النووية موجهة مباشرة إلى الغرب الذي تتهمه موسكو بالانخراط المباشر في الأعمال العدائية على جبهات القتال. وهو أمر أوضحه بشكل جلي الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف عندما قال، الخميس، إن «التغييرات في العقيدة النووية الروسية تحمل إشارة مباشرة للدول غير الصديقة».

وأوضح: «هذه إشارة تحذير لتلك الدول من العواقب إذا شاركت في هجوم على بلادنا بوسائل مختلفة، وليس بالضرورة بالوسائل النووية فقط».

ونبَّه إلى أن «رؤساء الدول العقلاء» كانوا يدركون في السابق خطورة تصريحات بوتين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بـ«مثل هذه المواجهة غير المسبوقة» التي أثارتها المشاركة المباشرة للدول الغربية في الصراع الأوكراني.

المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف (إ.ب.أ)

وأضاف بيسكوف أن إمكانات روسيا النووية ودورها الرادع معروفان في جميع أنحاء العالم. ووفقاً له، يجري الآن «تعديل مقومات الردع النووي»، مع الوضع في الحسبان التوتر المتفاقم على طول محيط حدود البلاد. وشدد ممثل الكرملين على أن «ضامن الردع هو الثالوث النووي الروسي» (الحاملات للرؤوس النووية والمقصود هنا الغواصات والطائرات والصواريخ الاستراتيجية).

وكما أوضح بيسكوف، فإن العقيدة النووية تتكون من وثيقتين: «العقيدة العسكرية النووية» و«أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي». وقد صاغ الرئيس الروسي تعديلات على الوثيقة الثانية، الأربعاء، خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي الروسي، وهي الوثيقة التي تنظم آليات وشروط استخدام الترسانة النووية. على أن يتم اصدار مرسوم رئاسي في هذا الشأن قريباً، يكون ملزماً بشكل فوري ولا يحتاج إلى تدابير داخلية مثل مصادقة الهيئات التشريعية في البلاد عليه.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يستمع إلى الخطاب الافتتاحي للجمعية العمومية (د.ب.أ)

ماذا عدلت روسيا في وثيقتها؟

أعلن بوتين في مستهل اجتماع لمجلس الأمن المخصص لملف الردع النووي، عن قرار تحديث «أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي». وحدَّد أبرز ملامح التعديلات من خلال التأكيد على أن «العدوان على روسيا من قِبل أي دولة غير نووية بدعم من قوة نووية سيعدّ بمثابة هجوم مشترك؛ ما يمنح روسيا الحق في استخدام الأسلحة النووية حتى لو كان العدوان الذي تواجهه روسيا يتم باستخدام أسلحة تقليدية، بشكل يهدد سيادتها».

عملياً، تم تخفيض عتبة استخدام جميع الأسلحة الموجودة في الترسانة النووية الروسية التي وصفها بوتين بأنها «الأكبر والأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية في العالم».

بعبارة أخرى، فقد تم سدّ الثغرة التي واجهتها روسيا لفترة طويلة، خصوصاً منذ اندلاع الأعمال الحربية في أوكرانيا. وهي التي، وفقاً لبوتين «سمحت للقوى الغربية بمحاربة روسيا بالوكالة، باستخدام القوة البشرية للأوكرانيين». مع التعديل بات لدى بوتين سند قانوني وفقاً لتشريعات بلاده يسمح باتخاذ قرار استخدام أسلحة نووية ضد دول غير النووية إذا شنت عدواناً على روسيا بمساعدة قوى نووية.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يصافح الرئيس الأميركي جو بايدن على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (أ.ف.ب)

هذه هي الرسالة التحذيرية الصارمة التي حملتها التعديلات للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وهي البلدان النووية المنخرطة في الحرب وفقاً لوجهة نظر الكرملين. كما أن التهديد ينسحب بشكل مباشر على أوكرانيا وبولندا ورومانيا وبلدان حوض البلطيق وهي بلدان غير نووية تشارك بوتائر مختلفة في الجهد الحربي.

العنصر الثاني اللافت في التعديلات، تمثل في تحديد أنواع الخطر الذي يمكن تفسيره بأنه يسمح باللجوء إلى السلاح النووي. وهكذا نصت التعديلات على إمكانية استخدام الأسلحة النووية رداً على هجمات بالطائرات والصواريخ والطائرات من دون طيار. وهذه طرازات الأسلحة والمعدات التي تستخدمها أوكرانيا بنشاط في شن هجمات داخل الأراضي الروسية. هنا، لم تعد القيود على استخدام الترسانة النووية تقف عند مواجهة طرازات المعدات القادرة على حمل رؤوس نووية، الآن تستطيع روسيا الرد بشكل حاسم على أي محاولة لتحقيق اختراقات كبرى عبر الحدود باستخدام معدات جوية بما في ذلك المسيّرات.

وقد أوضح الرئيس الروسي أن الوضع الجديد يجب أن يكون واضحاً لكل «خصومنا الاستراتيجيين». محدداً أن «شروط انتقال روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية يبرز بوضوح أيضاً، وسننظر في هذا الاحتمال بمجرد أن نتلقى معلومات موثوقة حول إطلاق ضخم للأسلحة الهجومية الجوية وعبورها حدود دولتنا». وأوضح مجدداً أن هذا يشمل «صواريخ كروز والطائرات من دون طيار والطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وغيرها من الطائرات».

بوتين يزور مصنعاً للطائرات المسيّرة (رويترز)

العنصر الثالث الذي برز في التعديلات أن روسيا سوف تستخدم أيضاً الردع النووي لحماية أقرب حلفائها، بيلاروسيا. ومعلوم أن موسكو نقلت في وقت سابق أسلحة نووية تكتيكية إلى البلد الجار وهددت باستخدامها في حال تعرّض الحليف البيلاروسي أو المناطق الحدودية المجاورة له إلى خطر أو تهديد. وهكذا باتت التعديلات الجديدة تضع سنداً قانونياً لكبس الزر الأحمر في هذه الحالة.

الخيار النووي.. أخير

لكن التعديلات المطروحة لا تعني انتقال روسيا تلقائياً إلى استخدام الأسلحة النووية، فهي تحمل طابعاً تحذيرياً وعنصراً ضاغطاً على السياسات الغربية من دون أن تستثني اللجوء إلى «الخيار الأخير» في حالات التهديد الخطر والمباشر.

وقد لفت نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف الانتباه إلى نقطة مبدأ العدوان من قِبل دولة غير نووية. ووفقاً له، الجميع يفهم ما هي البلدان التي نتحدث عنها. وأكد أن «التغيير ذاته في الشروط التنظيمية لاستخدام بلادنا المكون النووي يمكن أن يهدئ حماسة هؤلاء للانخراط أكثر في عدوانهم المتواصل».

وهذا الأمر ركز عليه بوتين أيضاً في خطابه عندما شدد على أن التطور يهدف «أولاً وقبل كل شيء، إلى تحديد المبدأ الأساسي لاستخدام الأسلحة النووية، وهو أن استخدام القوات النووية هو إجراء متطرف لحماية سيادة البلاد». مجدداً التأكيد على أن بلاده «تعاملت دائماً مع مثل هذه القضايا بأقصى قدر من المسؤولية. وإذ ندرك جيداً القوة الهائلة التي تمتلكها هذه الأسلحة، فقد سعينا إلى تعزيز الإطار القانوني الدولي للاستقرار العالمي ومنع «انتشار» الأسلحة النووية ومكوناتها».

ووصف الثالوث النووي بأنه «أهم ضمانة للأمن» بالنسبة لروسيا، و»أداة للحفاظ على التكافؤ الاستراتيجي وتوازن القوى في العالم». ومع ذلك، تابع بوتين، أن الوضع العسكري السياسي آخذ في التغير، وتظهر مصادر جديدة للتهديدات العسكرية لروسيا وحلفائها، وبالتالي يجب تكييف العقيدة «مع الحقائق الحالية»، مع توضيح شروط استخدام الأسلحة النووية.

زيلينسكي يزور مصنعاً للذخيرة في الولايات المتحدة (أ.ب)

تجب الإشارة إلى الفوارق الرئيسية التي أحدثتها التعديلات عن النسخة السابقة للعقيدة النووية؛ إذ كانت الشروط التي يمكن بموجبها لموسكو استخدام الأسلحة النووية منصوصاً عليها في أساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي لعام 2020 تقوم على أربعة شروط رئيسية:

حصول روسيا على معلومات موثوقة حول إطلاق صواريخ باليستية تهاجم أراضيها و/أو أراضي حلفائها؛ يستخدم العدو أسلحة نووية أو أنواعاً أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا و/أو حلفائها؛ إذا شن الخصم هجوماً بأي وسيلة ضد منشآت حكومية أو عسكرية بشكل يمكن أن يعطل رد فعل القوات النووية الروسية؛ وتعرّض روسيا لهجوم واسع بالأسلحة التقليدية؛ مما يهدد وجود الدولة ذاته.

مع التعديلات لم تعد روسيا في حاجة إلى تحري معلومات أو انتظار هجوم، فهي بات بمقدورها شن هجوم استباقي حتى لو شعرت بخطر عبر استخدام مسيّرات أو هجمات جوية تقليدية.

كيف سار العمل على تغيير العقيدة؟

بدأت القيادة الروسية الحديث عن تغييرات في العقيدة النووية منذ بداية يونيو (حزيران) 2024. ولأول مرة، أدلى بوتين ببيان حول هذه المسألة خلال مشاركته في أعمال نادي «فالداي» للحوار الاستراتيجي أمام عشرات الخبراء من مختلف دول العالم. في تلك الجلسة أثير الحديث عن «فاعلية العقيدة النووية الروسية بنسختها الحالية في مواجهة التهديدات الجديدة»، خصوصاً المتمثلة في «عدوان واسع تشنّه بلدان نووية بشكل غير مباشر».

في ذلك الوقت قال بوتين: «علينا المضي بشكل أكثر صرامة على سلم التصعيد والاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية». إلى ذلك، أشار بوتين إلى بند العقيدة النووية القائل بأن روسيا ستستخدم مثل هذه الأسلحة في حالات استثنائية - إذا كان هناك تهديد مباشر لسيادتها وسلامتها الإقليمية. وخلص إلى أنه «لا أعتقد أن مثل هذه الحالة قد نشأت - ليست هناك حاجة إلى مثل هذه الحالة بعد (...)، لكن هذه العقيدة أداة حية، ونحن نراقب بعناية ما يحدث في العالم، من حولنا، ولا نستبعد إجراء بعض التغييرات على هذه العقيدة».

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (يمين) يزور مصنع ذخيرة الجيش في سكرانتون بولاية بنسلفانيا (إ.ب.أ)

في تلك الفترة تحديداً، أمر بوتين بإجراء تدريبات واسعة على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وبعد أسابيع من تلك التدريبات التي شملت إجراءات عملية مباشرة، بينها تدريبات على نقل الرؤوس النووية وتخزينها على مقربة من خطوط التماس ثم تفجيرها ضد مواقع العدو الافتراضي، أعلنت قيادة القوات النووية التكتيكية في رسالة وجهت إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة (بوتين) أنها باتت على أهبة الاستعداد.

السلاح النووي التكتيكي

لم تنص التعديلات التي تم الحديث عنها في العقيدة النووية على بند خاص يحدد آليات وظروف استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، على الأقل في الشق المعلن من هذه الوثيقة. لكن بوتين كان قد أشار أكثر من مرة في السابق إلى أن التطور المرتبط باستخدام محتمل للسلاح النووي التكتيكي بات على طاولة النقاش الروسي الداخلي.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يخاطب «قمة المستقبل» في «الأمم المتحدة» (إ.ب.أ)

وأوضح في وقت سابق أن سبب التركيز على هذا الموضوع «يرجع إلى ظهور عناصر جديدة - على أي حال، نحن نعلم أن الخصم المحتمل يعمل على ذلك - عناصر تتعلق بخفض عتبة استخدام الأسلحة النووية. على وجه الخصوص، يجري تطوير أجهزة نووية متفجرة ذات طاقة منخفضة للغاية، ونحن نعلم أنه في دوائر الخبراء في الغرب هناك أفكار تتداول حول إمكانية استخدام مثل هذه الأسلحة وليس هناك أي شيء فظيع في هذا الأمر».

ونبّه خلال زيارة نادرة إلى فيتنام قبل أسابيع «قد لا يكون الأمر فظيعاً، لكن يجب أن ننتبه لذلك». ولم يحدد في حينها كيف ستتغير العقيدة في مجالات الاستخدام المحتمل للسلاح النووي التكتيكي. والشيء الوحيد الذي قاله هو أننا «لسنا في حاجة إلى ضربة وقائية بعد... لأنه في الضربة الانتقامية سيتم تدمير العدو بشكل مضمون».