بوتين يتحدى «الجنائية الدولية» في منغوليا... تعزيز الشراكة العسكرية وتنسيق السياسات

قواته تواصل التقدم في دونيتسك وتعلن عن «خسائر فادحة» لكييف في كورسك

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)
TT

بوتين يتحدى «الجنائية الدولية» في منغوليا... تعزيز الشراكة العسكرية وتنسيق السياسات

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)

سار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطوة جديدة، الثلاثاء، في كسر الحصار الدولي المفروض عليه من جانب الغرب، وإظهار قدرته على تطوير العلاقات بحلفاء بلاده رغم الصعوبات التي تواجهها روسيا، ومساعي ملاحقته من جانب محكمة الجنايات الدولية.

وشكلت الزيارة التي قام بها بوتين إلى منغوليا المجاورة واستمرت يوماً واحداً، نقطة فارقة في تحدي الغرب، لكونها الزيارة الأولى لبوتين إلى بلد عضو في محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت العام الماضي مذكرة اعتقال ضده. وسبق لبوتين الذي قلص إلى درجة كبيرة تحركاته الخارجية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أن قام بزيارات نادرة داخل الفضاء السوفياتي السابق، كما زار الصين وكوريا الشمالية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ(ا.ف.ب)

وحظي بوتين باستقبال دافئ لدى وصوله إلى العاصمة المنغولية في الليلة السابقة قبل بدء الزيارة العالية المستوى التي تعدّ تعبيراً عن التحدي للمحكمة وكييف والغرب ومجموعات حقوقية، والتي دعت جميعها إلى اعتقاله.

والتقى بعد ذلك بالرئيس أوخنانغين خورلسوخ في ساحة جنكيز خان وسط العاصمة. وعزفت فرقة موسيقى عسكرية النشيدين الوطنيين الروسي والمنغولي، بينما وقف الرئيسان في الساحة قرب جنود منغوليين بزي تقليدي وبعضهم على الأحصنة.

وبدا الارتياح على الزعيم الروسي وهو يجدد علاقات التحالف الوثيقة التي كان الاتحاد السوفياتي السابق قد أقامها مع الجمهورية المجاورة التي تقيم علاقات متوازنة بكل من الحليفين الروسي والصيني.

ووصف نتائج المفاوضات مع نظيره المنغولي أوخناجين خوريلسوخ في أولان باتور بأنها شكلت نقطة تحول مهمة نحو تعزيز العلاقات التقليدية.

وقال: «خلال مفاوضات اليوم، ناقشت أنا والرئيس خوريلسوخ مجموعة واسعة من قضايا التفاعل في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية، وتبادلنا وجهات النظر حول المشكلات الدولية والإقليمية الأكثر إلحاحاً».

وأشار الرئيس إلى أنه تم خلال الاجتماع إيلاء كثير من الاهتمام لبناء العلاقات التجارية والاستثمارية ذات المنفعة المتبادلة. وفي الوقت نفسه، أشار إلى أن روسيا هي أحد الشركاء الاقتصاديين الأجانب الرئيسيين لمنغوليا.

وأشار بوتين إلى أن موسكو تستجيب دائماً لطلبات أولان باتاور لتلبية الاحتياجات المتزايدة للوقود ومواد التشحيم، بما في ذلك الشروط التفضيلية. وشدد على أن روسيا زودت اقتصاد الجمهورية لفترة طويلة وبشكل موثوق بموارد الطاقة المطلوبة. ووفقاً لبوتين فإن نحو 90 في المائة من احتياجات منغوليا من البنزين والديزل جاء العام الماضي من روسيا.

متظاهرون يحملون علم أوكرانيا احتجاجاً على زيارة بوتين في عاصمة منغوليا أولانباتور الاثنين (رويترز)

وتوقف بوتين بشكل خاص عند ملف التعاون العسكري التقني والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، مع منغوليا التي تعد بين أبرز الشركاء العسكريين لبلاده. وقال إن تعزيز تفاعل البلدين في هذه المجالات يساهم في ضمان الأمن في آسيا.

كما نوه إلى انفتاح موسكو على إطلاق مشاريع نووية سلمية مع أولان باتور.

وشدد على أن «العمل المشترك مع الأصدقاء المنغوليين والاتفاقات التي تم التوصل إليها ستساهم في مواصلة تطوير الشراكة الروسية المنغولية متعددة الأوجه».

وخلال الزيارة وصف بوتين خلال اجتماعه مع رئيس وزراء منغوليا لوفسانمسرين أويون إردين، العلاقات بمنغوليا بأنها أولوية بالنسبة لروسيا، والآن يواجه البلدان مهمة تنويعها وتعزيزها بمجالات جديدة.

بوتين يلقي خطابا الذكرى الـ85 لانتصار القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان في معركة خلاخين غول عام 1939(ا.ف.ب).

وتأتي زيارة الرئيس الروسي وسط جدل حول مذكرة «الاعتقال» التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية مع قبول منغوليا اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لكن موسكو بدت مطمئنة على هذا الصعيد، وقال السكرتير الصحافي لرئيس الدولة ديمتري بيسكوف، رداً على سؤال عما إذا كانت هناك مفاوضات مع أولان باتور بشأن هذه المسألة، إن جميع جوانب الرحلة تم إعدادها بعناية.

وأعربت كييف عن استياء بسبب الزيارة، متّهمة منغوليا بـ«المسؤولية المشتركة» مع روسيا عن «جرائم الحرب» التي لوحق بوتين من جانب المحطمة الدولية بسببها، وحضّت منغوليا على تطبيق مذكرة التوقيف، بينما أفادت المحكمة الجنائية الدولية الأسبوع الماضي، بأن من «واجب» جميع أعضائها اعتقال المطلوبين من قبل المحكمة.

الرئيس بوتين والرئيس أوخناجين خوريلسوخ خلال المؤتمر الصحافي المشترك(ا.ب.أ)

ولم تُدِن منغوليا العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وامتنعت عن التصويت خلال الجلسات المتعلّقة بالنزاع في الأمم المتحدة.

رغم ذلك، خرجت مظاهرة صغيرة في العاصمة المنغولية قبل الزيارة، رفع خلالها بعض المحتجين لافتة كتب عليها «أخرجوا مجرم الحرب بوتين من هنا».

ومنعت الإجراءات الأمنية المشددة مظاهرة أخرى كانت مقررة الثلاثاء، من الاقتراب من مكان وجود الرئيس الروسي.

وتجمّع المحتجون بدلاً من ذلك على مقربة من «النصب التذكاري المخصص للمقموعين سياسياً»، الذي يكرّم الأشخاص الذين عانوا في ظل النظام الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفياتي الذي حكم منغوليا لعقود.

وتأتي الزيارة لإحياء للذكرى الـ85 لانتصار حاسم حققته القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان.

وقبل الزيارة، أشار بوتين إلى عدد من «المشروعات الاقتصادية والصناعية الواعدة» بين البلدين، في مقابلة أجرتها معه صحيفة «أونودور» المنغولية ونشرها الكرملين.

وقال إن هذه المشروعات تشمل بناء خط لأنابيب الغاز يربط بين الصين وروسيا ويمر بالأراضي المنغولية.

وأضاف أنه «مهتم بمواصلة العمل» باتّجاه عقد قمة ثلاثية مع نظيريه المنغولي والصيني.

من جانبها، حذّرت منظمة «العفو الدولية»، الاثنين، من أن فشل منغوليا في توقيف بوتين يمكن أن يقوّض أكثر شرعية المحكمة الجنائية الدولية، ويعطي دفعة إلى الأمام لبوتين لتحدي السلطات القضائية الدولية.

وقالت المديرة التنفيذية لمنظمة «العفو الدولية» بمنغوليا، ألتانتويا باتدورج، في بيان، إن «الرئيس بوتين فار من العدالة... أي زيارة إلى دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية لا تنتهي بتوقيفه فستشجّع الرئيس بوتين على مواصلة سلوكه الحالي، ويجب أن يُنظر إليها على أنها جزء من جهد استراتيجي لتقويض عمل المحكمة الجنائية الدولية».

وتأتي زيارة بوتين في وقت معقد للغاية على صعيد العمليات الحربية في أوكرانيا. وفي حين تواصل القوات الروسية تقدمها البطيء ولكن المستمر على محور دونيتسك جنوب البلاد، وتعزز هجماتها الكثيفة في اتجاه خاركيف شرقاً، تواجه البلاد منذ بداية الشهر الماضي أكبر اختراق أوكراني داخل العمق الروسي. بعدما نجحت كييف في التوغل بشكل مفاجئ في إقليم كورسك الروسي الحدودي وبسطت سيطرتها على عشرات البلدات والقرى.

وخلافاً للتأكيدات الروسية بأن الهجوم تم تنسيقه بعناية بين كييف وحليفاتها في الغرب، نقلت وسائل إعلام حكومية روسية، الثلاثاء، تقريراً نشرته مجلة «فورين أفيرز» الأميركية خلص إلى أن «الهجوم الأوكراني على مقاطعة كورسك سلط الضوء بشكل حاد على الافتقار الواضح للتنسيق بين كييف وحلفائها الغربيين».

وكتب مايكل كوفمان، الخبير في مؤسسة كارنيغي وروب لي، الخبير في معهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركية في مقال لـ«فورين أفيرز»: «إذا كان الأمر قبل الهجوم غير واضح، فإن هذا الهجوم يسلط الضوء بشكل حاد على الافتقار الواضح لاستراتيجية منسقة بين أوكرانيا وشركائها الغربيين».

وأضاف الكاتبان أن «مثل هذا التحول في الأحداث يجب أن يؤدي إلى مراجعة الاستراتيجية الحالية (لشركاء كييف الغربيين) في هذه الحرب».

وفي الوقت نفسه، يؤكد كوفمان ولي، أن «الولايات المتحدة لا تعرف كيف يمكن إنهاء الصراع في أوكرانيا بشروط مواتية لكييف».

ومع استمرار مواجهة موسكو الهجوم الأوكراني، شهدت الجبهة الشرقية تقدماً مهماً للقوات الروسية التي باتت على بعد كيلومترات قليلة من مدينة كراسنو آرمييسك، (باكروفسك بالأوكرانية) التي تعد مركزاً لوجيستياً حيوياً لقوات كييف، في ظل مكاسب ميدانية مستمرة منذ أسابيع كانت آخرها السيطرة على بلدتي بتيتشيا وفييمكا في دونيتسك.

وفي أحدث حصيلة روسية لم تؤكد كييف صحة المعطيات الواردة فيها، أعلنت وزارة الدفاع الروسية، الثلاثاء، أن قواتها نجحت في القضاء على 8900 عسكري أوكراني وتدمير 80 دبابة ومئات المدرعات والدبابات وراجمات الصواريخ لقوات كييف في مقاطعة كورسك منذ الـ6 من أغسطس (آب) عندما شنت كييف هجومها المباغت.

مركز رياضي في خاركيف قالت كييف ان روسيا دمرته بالهجوم الأحد(ا,ب)

قالت القوات الجوية الأوكرانية إنها أسقطت 27 من أصل 35 طائرة مسيرة أطلقتها روسيا خلال هجوم الليلة الماضية. وأضافت القوات الجوية، في بيان على تطبيق «تلغرام»، أن القوات الروسية استخدمت ثلاثة صواريخ باليستية وصاروخاً موجهاً في الهجوم.

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن 41 شخصاً على الأقل قُتلوا وأُصيب أكثر من 180، الثلاثاء، عندما استهدفت روسيا بصاروخين معهداً عسكرياً في مدينة بولتافا بوسط أوكرانيا في أعنف هجوم منفرد منذ بداية العام الحالي. وأضاف زيلينسكي في مقطع مصور أن القوات الروسية أطلقت صاروخين باليستيين، مما ألحق أضراراً بمبنى تابع لمعهد الاتصالات العسكري. وأمر بإجراء تحقيق شامل وسريع في ملابسات الهجوم. وبحسب وزارة الخارجية الأوكرانية، فإن نوعية الأسلحة المستخدمة لم تترك وقتاً يُذكر للناس لإيجاد ملجأ بمجرد انطلاق الإنذار الجوي.

وقال وزير الداخلية الأوكراني، إيهور كليمينكو، إنه «تم إنقاذ 25 شخصاً، على الأقل، من تحت الأنقاض. وفي المنطقة السكنية المجاورة، تحطمت النوافذ وتضررت الواجهات بسبب موجة الانفجار».


مقالات ذات صلة

بايدن يدين القصف الروسي «المخزي» لمدينة بولتافا الأوكرانية

أوروبا الرئيس الأميركي جو بايدن (إ.ب.أ)

بايدن يدين القصف الروسي «المخزي» لمدينة بولتافا الأوكرانية

دان الرئيس الأميركي جو بايدن، بشدة «الهجوم المخزي» الذي شنّته روسيا بالصواريخ على مدينة بولتافا الأوكرانية، متعهداً إمداد كييف بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا أرشيفية للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال زيارته جبهة خاركيف (أ.ف.ب)

استقالات بالجملة في أوكرانيا تمهيداً لتعديل وزاري واسع

استقال ستّة سياسيين أوكرانيين على الأقلّ، بينهم وزراء، وأقيل مستشار رئاسي، ليل الثلاثاء، عشية تعديل وزاري كبير، بحسب ما أعلن الحزب الحاكم.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا لقطة تُظهر المباني السكنية المتضرّرة بشدة في منطقة دونيتسك الأوكرانية وسط استمرار الحرب (رويترز)

«وحشية بوتين لا تعرف حدوداً»... ألمانيا وبريطانيا تندّدان بهجوم بولتافا في أوكرانيا

أكّدت برلين، الثلاثاء، أن وحشية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «لا تعرف حدوداً»، عقب مقتل عشرات الأوكرانيين في هجوم صاروخي روسي على مدينة بولتافا.

«الشرق الأوسط» (برلين - لندن)
تحليل إخباري بوتين ومرافقون ينزلون درجاً لمعبد بوذي في جمهورية توفا الروسية الاثنين (رويترز)

تحليل إخباري روسيا... بأي اتجاه؟

روسيا... الأمّة القلقة... متطلّباتها الأمنيّة أكبر بكثير من إمكاناتها الماديّة.

المحلل العسكري (لندن)
أوروبا جندي روسي يستخدم بندقية «كلاشنيكوف» (رويترز)

مادة جديدة في مدارس روسيا تتضمن كيفية استخدام «الكلاشنيكوف» والمسيّرات القتالية

أضافت المدارس الروسية مادةً جديدةً إلى مناهج الطلاب الذين يبلغون من العمر 13 عاماً أو أكثر، تتضمن تعليمهم كيفية استخدام بنادق «الكلاشينكوف» والمسيّرات القتالية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

ماكرون ما زال يبحث عن رئيس حكومة بعد 8 أسابيع على الانتخابات

الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي تييري بوديه، أحد الأسماء المطروحة لتشكيل الحكومة العتيدة في صورة مشتركة مأخوذة في أبريل الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي تييري بوديه، أحد الأسماء المطروحة لتشكيل الحكومة العتيدة في صورة مشتركة مأخوذة في أبريل الماضي (أ.ف.ب)
TT

ماكرون ما زال يبحث عن رئيس حكومة بعد 8 أسابيع على الانتخابات

الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي تييري بوديه، أحد الأسماء المطروحة لتشكيل الحكومة العتيدة في صورة مشتركة مأخوذة في أبريل الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي تييري بوديه، أحد الأسماء المطروحة لتشكيل الحكومة العتيدة في صورة مشتركة مأخوذة في أبريل الماضي (أ.ف.ب)

حتى بعد ظهر الثلاثاء، لم يكن قد خرج الدخان الأبيض من إحدى مداخن قصر الإليزيه ليبشر الفرنسيين بأن رئيسهم قد اختار، أخيراً، الشخصية التي تناسبه لتشكيل الحكومة الجديدة.

وما يحصل هو أن إيمانويل ماكرون ما زال يشاور يميناً ويساراً ويلتقي شخصيات ومرشحين من اليمين واليسار، ومنهم من ليس له لون سياسي محدد، ويخرج من قبعته «أرانب جديدة»، ويوهم هذا بأنه الشخص المختار، وليعلم ذاك بأن الشروط والظروف المطلوبة لتحميله مسؤولية استيلاد الحكومة الجديدة غير متوافرة.

ويرى كثيرون أن ماكرون بصدد كتابة وإخراج مسلسل طويل انطلقت حلقته الأولى مع الإعلان، ليل 7 يوليو (تموز) عن النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية التي خسرها معسكره، وحل تحالف اليسار والخضر في مرتبتها الأولى. فماكرون، مدعوماً من معسكره الذي يُطلق عليه «الكتلة الوسطية» ومن اليمين بجناحيه المعتدل والمتطرف، رفض تسليم مفاتيح السلطة التنفيذية إلى لوسي كاستيه، مرشحة تحالف اليسار والخضر، بحجة الحرص على «استقرار المؤسسات»، ولأن حكومة يسارية ترأسها متمسكة بتنفيذ برنامج «الجبهة الشعبية الجديدة» ستسقط لدى أول اختبار في البرلمان.

ولم تتأخر الاتهامات التي استهدفت ماكرون «المتنكر للديمقراطية»، الذي «يدوس على نتائج الانتخابات وخيار الفرنسيين»، ودفعت حزب «فرنسا الأبية» إلى إطلاق حملة تنحيته استناداً للدستور.

رئيس الوزراء الفرنسي الاشتراكي السابق برنار كازنوف، أحد المرشحين البارزين لتسلم رئاسة الحكومة (أرشيفية - أ.ف.ب)

بيد أن ماكرون لم يرف له جفن، لأن العقبات السياسية والدستورية تحول قطعاً دون إخراجه من الإليزيه. من هنا، بدأت الحلقة الثانية التي عنوانها إطلاق حملة استشارات مطولة من ثلاثة أيام شملت رؤساء الأحزاب والمجموعات في مجلسي النواب والشيوخ، واستكملها الثلاثاء باستقبال رئيسي الجمهورية السابقين نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولند. وهم ماكرون من كل هذه اللقاءات التي لم يتردد سياسيون في وصفها بـ«المسرحية» أن «يجس» نبض المجموعات البرلمانية ليرى نوعية ردود فعلها حال تسمية شخصية من اليمين أو اليسار أو من المجتمع المدني.

3 أسماء جديدة

خلال الأيام الأخيرة، برزت ثلاثة أسماء، أولها برنار كازنوف، رئيس آخر حكومة في عهد فرنسوا هولند، وقد انفصل عن الحزب الاشتراكي وأسس حزباً صغيراً برئاسته. وكازنوف معروف برصانته واعتداله وقد التقاه ماكرون صباح الاثنين في الإليزيه. وفائدة الإيحاء بتكليف كازنوف أنه يثير انقساماً داخل «الجبهة الشعبية الجديدة» وداخل الحزب الاشتراكي نفسه بين من يقبل التعامل معه وبين من يرفضه بحجة التخوف من سيره في سياسات ماكرون التي يرى اليسار أنها أثبتت فشلها، والتي لا تتوافق أبداً مع برنامجه.

ورغم هذه العوائق التي صعب التغلب عليها، فإن ماكرون تواصل مجدداً مع قادة اليمين التقليدي الذين تنادوا لاجتماع بغرض تحديد موقفهم من تسمية برتراند ووضعوا لذلك شرطين: الأول أن تعمد الحكومة الجديدة إلى تنفيذ مجموعة من المقترحات لقوانين تشريعية في البرلمان، أبرزها رفض التراجع عن قانون إصلاح سن التقاعد، والثاني، ألا تواجه برتران أكثرية في البرلمان تتمكن من إسقاطه. ثم هناك عنصر آخر كامن ولا يتحدث عنه أحد علناً وعنوانه التنافس بين برتراند وبين لوران فوكييز، رئيس حزب «اليمين الجمهوري»، وكلاهما طامح للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستحل في عام 2027. وليس مستغرباً أن يرى الثاني في الأول، حال وصل إلى رئاسة الحكومة، منافساً جدياً. ولذا، فإن مصلحته الشخصية قد تدفعه إلى تعطيل تسمية منافسه لرئاسة الحكومة.

لوسي كاستيه مرشحة اليسار والخضر استبعدها الرئيس الفرنسي من السباق (أرشيفية - أ.ف.ب)

أما الاسم الثاني فهو الوزير السابق كزافيه برتراند، رئيس منطقة شمال فرنسا، وهو عضو في حزب «الجمهوريون» الذي غيّر اسمه بعد الانتخابات الأخيرة إلى «اليمين الجمهوري»، لأن رئيسه «الرسمي» أريك سيوتي، التحق باليمين المتطرف ممثلاً بحزب «التجمع الوطني». والحال أن تسمية برتراند لا توفر لحكومة يرأسها الأكثرية في البرلمان وحاله في ذلك حال برنار كازنوف. ذلك أن ضم نواب اليمين (44 نائباً) إلى نواب الكتلة الوسطية (163 نائباً) لن يوفر للحكومة الجديدة الأكثرية المطلقة المشكلة من 289 نائباً. وسارعت كتلة اليمين المتطرف (144 نائباً) التي ترأسها المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبن إلى الإعلان عن رفضها لبرتراند واستعدادها طرح الثقة به. وسبق لكتلة اليسار والخضر (193 نائباً) أن أكدت أنها ستعارض أي حكومة يمينية مهما تكون هوية رئيسها. ولذا، فإن هاتين المجموعتين، في حال صوتتا في الاتجاه نفسه، قادرتان على إسقاط حكومة برتراند لدى أول طرح للثقة به.

يتضح مما سبق أن ماكرون يجد نفسه في مواجهة عقدة عصية على الحل. وللخروج من هذا المأزق، خرج فجأة إلى العلن اسم تييري بوديه، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئوي. والأخير لا يعرفه الجمهور ولم يسبق له أن تسلم أي حقيبة وزارية أو انتخب نائباً أو رئيساً لبلدية أو دائرة أو منطقة، بالتالي فإنه عديم التجرية السياسية. بيد أن مجموع هذه العناصر لا تنسف أهمية هذا الرجل الذي بدأ حياته المهنية مدرساً، ثم انتقل إلى قطاع الهيئات التضامنية ليعمل مع النقابات ومؤسسات الرعاية، قبل أن يُسمى لرئاسة المجلس الاقتصادي في عام 2021، وسبق للرئيس ماكرون أن تعاون معه في تنظيم وإدارة إحدى مبادرات ماكرون الحوارية.

الوزير السابق كزافيه برتراند لا يخفي طموحه بأن يكون رئيساً للحكومة الجديدة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وإذا كان اسم بوديه قد برز الاثنين وسُرب خبر سعي الإليزيه للعثور على مدير لمكتبه، في حال تسميته، فإن حظوظه تراجعت الثلاثاء ما يؤكد أحد ثوابت السياسة الفرنسية، ومؤداها أن لا يقين في التعيينات السياسية قبل أن يُعلن عنها وتصبح رسمية. ومن الأمثلة على ذلك أن كاترين فوترين، وزيرة العمل والصحة في الحكومة المستقيلة، رُوج بشكل واسع ليلاً في أوساط الإليزيه أنها ستعين رئيسة للحكومة بعد إعادة انتخاب ماكرون في عام 2022، إلا أن خيار رئيس الجمهورية وقع أخيراً على إليزابيث بورن. وثمة من يرى أن لنيكولا ساركوزي دوراً في تغليب حظوظ برتراند باعتبار أن الرئيس الأسبق دعا علناً، من على صفحات جريدة «لوفيغارو»، إلى تكليف شخصية يمينة وهو يدعو، منذ سنوات، اليمين الفرنسي إلى التعاون مع الرئيس الحالي. وثمة أسماء أخرى طرحت منها اسم كريم بوعمران، الاشتراكي ورئيس بلدية سان أوان، واسم رئيس بنك فرنسا المركزي فرنسوا فيلوروا دو غالهو.

قد يكون أحد الأسماء هو الشخصية الموعودة وقد لا يكون. ماكرون دأب على مفاجأة مواطنيه، والمؤكد أنه لا يريد مرشحاً يحجب الأنوار عنه، أو يسير بعكس سياسته أو يقلص صلاحياته. وحتى اليوم أمضى وقتاً طويلاً في المشاورات بينما فرنسا تحتاج لحكومة كاملة الصلاحيات سريعاً جداً.