أزمة المزارعين تتفاقم في أوروبا... وتخوف من استغلال اليمين المتطرف لها

«الميثاق الأخضر» الأوروبي يثير استياء المزارعين... ونقمتهم تزداد انتشاراً

مزارعون يسدون الطريق السريعة إيه 1 باتجاه باريس... الثلاثاء (د.ب.أ)
مزارعون يسدون الطريق السريعة إيه 1 باتجاه باريس... الثلاثاء (د.ب.أ)
TT

أزمة المزارعين تتفاقم في أوروبا... وتخوف من استغلال اليمين المتطرف لها

مزارعون يسدون الطريق السريعة إيه 1 باتجاه باريس... الثلاثاء (د.ب.أ)
مزارعون يسدون الطريق السريعة إيه 1 باتجاه باريس... الثلاثاء (د.ب.أ)

تتركز الأضواء هذه الأيام على باريس، التي فرض المزارعون بجرارتهم حصارها منذ بعد ظهر (الاثنين) ولـ«مدة غير محددة»؛ للضغط على الحكومة وللإعراب عن خيبتهم من الإجراءات التي أعلنها رئيسها غابريال أتال، مساء الجمعة الماضي، خصوصاً للضغط من أجل الاستجابة لورقة التظلمات التي رفعوها للسلطات، المتضمنة 122 مطلباً.

لكن المزارعين الفرنسيين، الذين أقفلوا 8 طرق سريعة تفضي كلها إلى العاصمة، وسيّروا جراراتهم باتجاه أكبر سوق زراعية في أوروبا، المسماة «رنجيس» القائمة جنوب العاصمة، وعلى بعد رمية حجر من مطار أورلي، لن يكون بمقدورهم أن يستنسخوا ما قام به المزارعون الألمان في 15 يناير (كانون الثاني) عندما «سيطروا» على العاصمة برلين، التي وصلوا إليها على متن آلاف عدة من الجرارات، وعمدوا إلى شل حركة السير فيها لساعات طويلة قبل أن يعودوا من حيث أتوا. ولأن رئيس الجمهورية ومعه الحكومة لا يريدان أن تواجه باريس المصير نفسه، فقد أمر وزير الداخلية بتعبئة 15 ألف رجل أمن (من الشرطة والدرك) وكلفهم منع وصول الجرارات إلى داخل العاصمة وإبقاءها على بعد كيلومترات عدة. كذلك، طلب نشر مدرعات الدرك على مداخل سوق «رنجيس» مخافة أن تفضي محاصرتها إلى منع وصول المواد الغذائية الطازجة على مختلف أنواعها، التي يستهلكها ما لا يقل عن 10 ملايين نسمة.

مزارعون فرنسيون الثلاثاء مع جراراتهم يغلقون الطريق السريعة رقم 4 شرق باريس في إطار حصار العاصمة (إ.ب.أ)

نقمة المزارعين على المستوى الأوروبي

العبرة فيما سبق أن ما تعرفه فرنسا ليس خاصاً بها، بل هو جزء من حراك واسع يشمل بالطبع أكبر دولتين واقتصادين في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا)، لكنه يعم دولاً أخرى منها هولندا وبولندا ورومانيا وبلجيكا و«الحبل على الجرار».

الشرارة في ألمانيا انطلقت عندما قررت حكومة أولاف شولتس، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، رفع الدعم عن الديزل الزراعي من أجل سد بعض عجز الموازنة الألمانية، وغاب عن ذهنها أن حركة «السترات الصفراء» التي أشعلت شوارع فرنسا بدءاً من خريف عام 2018، انطلقت لأسباب مشابهة. من هنا، يُفهم أن الرد الأولي لرئيس الحكومة الفرنسية كان إعلانه أن حكومته تراجعت عن فرض رسوم إضافية على الديزل الزراعي، في بادرة منه إلى تهدئة المزارعين، إضافة إلى تدابير أخرى إدارية مقرونة بمساعدات قطاعية للزراعة.

وبعد شل برلين، عمد المزارعون الألمان (الاثنين) إلى إغلاق عديد من الموانئ، وأهمها مرفأ هامبورغ، ويعد الأكبر في ألمانيا. وما زال حراكهم على قوته.

أما في بلجيكا، فقد عمّ الحراك بداية المناطق الفرنكوفونية (الوالونية) قبل أن ينتقل إلى مناطق الفلاندر. وسار الحراك في بلجيكا وفق الصورة نفسها عند جارتيها، إذ عمد المزارعون إلى إغلاق جوانب من الطريق السريعة جنوب البلاد، ومحاولة قطع شريان الطريق السريعة الحيوية التي تنطلق من فرنسا وتتجه إلى ألمانيا عبر بلجيكا. وينوي المزارعون البلجيكيون التوجه إلى العاصمة (الأربعاء)؛ للضغط على القادة الأوروبيين، الذين سيعقون قمة استثنائية في بروكسل مخصصة لتوفير الدعم المالي لأوكرانيا. إلا أن الملف الزراعي سيكون، قطعاً، على جدول مداولاتهم؛ لأن أحد أساب الشكوى يتمثل في الرفض الجماعي لما يُسمى «الميثاق الأخضر» الأوروبي.

غابريال أتال رئيس الحكومة الفرنسية يلقي خطابه عصر الثلاثاء أمام البرلمان وسط أجواء مكهربة (أ.ف.ب)

«الميثاق الأخضر» الأوروبي

قليلون يعرفون مضامين هذا الميثاق، الذي أطلقته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، عام 2019، وينص على هدف أن تكون الاقتصادات الأوروبية عديمة الكربون بحلول عام 2050، وهو يشمل الطاقة والصناعة والغابات والزراعة. وفي هدف مرحلي، نصّت مبادرة فون دير لاين على تخلص الاقتصادات الأوروبية من 55 في المائة من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في عام 2030. وفيما خصّ الزراعة، ينص «الميثاق» الذي لم يقرّ بعد، على خفض اللجوء إلى المبيدات وإلى الأسمدة الكيميائية بنسبة 20 في المائة حتى عام 2030، وخفض اللجوء إلى المنشطات الحيوية للحيوانات بنسبة النصف، وزيادة المساحات المخصصة للزراعة العضوية إلى 25 في المائة من إجمالي المساحات المزروعة.

تثير هذه الإجراءات، في حال تحولها إلى قوانين، رفضاً على المستوى الزراعي الأوروبي، كما أنها تضاعف حنق المزارعين، الذين يعانون من غلاء المشتقات النفطية والكهرباء، والتضخم، وفتح الأسواق أمام المنتجات من خارج الاتحاد، ومن منافسة المنتوجات الغذائية الأوكرانية المعفاة من الضرائب، ومن تراجع العائدات، ومن ثقل الديون.

مزارعون فرنسيون الثلاثاء مع جراراتهم يغلقون الطريق السريعة رقم 4 شرق باريس في إطار حصار العاصمة (إ.ب.أ)

من هنا، جاء تركيز الضغوط محلياً في كل بلد، وأيضاً على قمة القادة الأوروبيين. والتزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإثارة هذا الملف (الخميس)، بالتوازي مع السعي إلى تأجيل التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع تكتل بلدان أميركا اللاتينية المسمى «ميركوسور» الذي يضم البرازيل والأرجنتين والأورغواي والباراغوي. وحجة المزارعين الناقمين أن الاتحاد الأوروبي يفرض عليهم معايير لا تطبق على الجهات المنافسة، التي ما زالت الأسواق الأوروبية مفتوحة أمام سلعها التي يُمنع إنتاجها، وفق الشروط نفسها، في أوروبا.

ثمة تخوف واسع على الصعيد الأوروبي من الارتدادات السياسية لحراك المزارعين على الانتخابات الأوروبية، المقرر إجراؤها في يونيو (حزيران) المقبل. وتفيد غالبية استطلاعات الرأي بأن المستفيد الأول منها سيكون اليمين المتطرف، الذي يشهد ارتفاعاً غير مسبوق في شعبيته. والمعروف أن اليمين المتطرف ينهج سياسة تعارض الاندماج الأوروبي. وهذا التخوف دفع المفوضية إلى تجميد عدد من مشروعات القوانين التي يتعين على البرلمان إقرارها، كما دفع السلطة التنفيذية في البلدان، التي تتمتع بقطاع زراعي قوي، إلى فرملة الاندفاعة الأوروبية.

وعود رئيس الحكومة الجديد

أما على الصعيد الفرنسي، فإن المزارعين ينددون بشكل عام، بالمخطط الزراعي الأوروبي العام، رغم أن فرنسا تعد المستفيد الأول من المساعدات الزراعية الأوروبية، التي تبلغ 9 مليارات سنوياً. إلا أن صغار المزارعين يشكون من أنها تذهب إلى كبار مُلاك المساحات الزراعية. وخلال الأعوام الخمسين الماضية، تراجع عدد المزارع في فرنسا من 1.5 مليون في عام 1970 إلى أقل من 400 ألف الآن، كما أن عدد المزارعين لا يزيد راهناً على 400 ألف مزارع. وفي السنوات الثلاث الأخيرة، تضاعفت واردات فرنسا الزراعية بحيث وصلت إلى نصف ما تستهلكه البلاد.

لا يريد العهد والحكومة هزات اجتماعية ــ اقتصادية جديدة، بعد الأزمتين الكبريين اللتين شهدتهما فرنسا منذ إعادة انتخاب ماكرون في عام 2022، وهما أزمة إقرار قانون تعديل سن التقاعد، وقانون الهجرات، وكلاهما أنزل عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع. من هنا، الحرص، من جهة، على احتواء الأزمة الجديدة بأسرع وقت منعاً لتفاقمها. ومن جهة ثانية، حماية لرئيس الحكومة الجديد.

وعصر الثلاثاء، عرض غابريال أتال، أمام النواب، الخطوط العامة للسياسة، التي ستنهجها حكومته بما في ذلك في الملف الزراعي. بيد أن خطابه، بعكس ما كان منتظراً منه، لم يتضمن إعلان خطوات جديدة لتهدئة غضب المزارعين، إذ اكتفى بتأكيد أن حكومته «ملتزمة بالعمل الجاد من أجل السيادة الغذائية في بلدنا». وقال: «إن زراعتنا تعد بمثابة قوة لنا ليس فقط لأنها تطعمنا، بل لأنها أحد أسس هويتنا وتقاليدنا، ولأن المزارعين يجسدون قيمنا الأساسية». ومن ضمن هذه القراءة، أكد أنه «يتعين أن تكون الزراعة الفرنسية، وهي كذلك، استثنائية» ولكن «الشكوك تساورها، وهي تحتاج إلى أجوبة وحلول، وسنكون من غير أي غموض، جاهزين لهذا الموعد».

ومن السويد، حيث يقوم بزيارة رسمية من يومين، أعلن ماكرون أنه «من السهولة بمكان تحميل أوروبا مسؤولية صعوبات القطاع الزراعي». وأكد ر فضه الموافقة على اتفاقي التجارة الحرة مع تكتل أميركا اللاتينية؛ بسبب «اختلاف القواعد» المعمول بها من الجانبين الأوروبي والأميركي اللاتيني. وأخيراً دعا الاتحاد إلى فرض «قواعد واضحة» لاستيراد الدجاج من أوكرانيا.


مقالات ذات صلة

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

المشرق العربي الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

مع بدء الدورة العشرين لمجلس النواب الأردني، الذي انتخب في العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأ الشحن الداخلي في معادلة الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

محمد خير الرواشدة (عمّان)
شمال افريقيا ممثلو دول أوروبية داخل مركز العدّ والإحصاء التابع لمفوضية الانتخابات الليبية (المفوضية)

ليبيا: إجراء الانتخابات المحلية ينعش الآمال بعقد «الرئاسية» المؤجلة

قال محمد المنفي رئيس «المجلس الرئاسي» إن إجراء الانتخابات المحلية «مؤشر على قدرة الشعب على الوصول لدولة مستقرة عبر الاستفتاءات والانتخابات العامة».

جمال جوهر (القاهرة)
الولايات المتحدة​ الملياردير إيلون ماسك (رويترز)

هل يمكن أن يصبح إيلون ماسك رئيساً للولايات المتحدة في المستقبل؟

مع دخوله عالم السياسة، تساءل كثيرون عن طموح الملياردير إيلون ماسك وما إذا كان باستطاعته أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة في المستقبل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا وزير الداخلية جيرالد دارمانان (اليمين) متحدثاً إلى الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (رويترز)

زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي

زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي، إلا أن البديل جاهز بشخص رئيس «حزب التجمع الوطني» جوردان بارديلا.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا جلسة برلمانية في «البوندستاغ»... (إ.ب.أ)

أكثر من 100 برلماني يتقدمون باقتراح لحظر حزب «البديل من أجل ألمانيا»

تقدم أكثر من 100 نائب ألماني باقتراح لرئيسة البرلمان لمناقشة حظر حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف.

راغدة بهنام (برلين)

«المافيا» تهدد على طريقة فيلم «العراب»... رأس حصان وبقرة ممزقة يرعبان صقلية

منظر عام لجزيرة صقلية (وسائل إعلام إيطالية)
منظر عام لجزيرة صقلية (وسائل إعلام إيطالية)
TT

«المافيا» تهدد على طريقة فيلم «العراب»... رأس حصان وبقرة ممزقة يرعبان صقلية

منظر عام لجزيرة صقلية (وسائل إعلام إيطالية)
منظر عام لجزيرة صقلية (وسائل إعلام إيطالية)

هزَّ العثور على رأس حصان مقطوع، وبقرة حامل ممزقة وعجلها الميت بداخلها ملطخين بالدماء، جزيرة صقلية الإيطالية، وتعاملت السلطات مع الحادث باعتباره تهديداً من قبل المافيا.

وقالت الشرطة لشبكة «سي إن إن» إنه تم اكتشاف الحيوانات النافقة في ملكية أحد مقاولي البناء في بلدة ألتوفونتي، بالقرب من باليرمو. ووفق الشبكة الأميركية، فالمشهد «المروّع» يذكّر بفيلم «العراب» أو «The Godfather» الذي عُرض عام 1972، إذ يستيقظ شخصية بالفيلم ليجد رأس حصان مقطوعاً في سريره.

وقال المقاول، الذي لم يتم الكشف عن اسمه لحمايته أثناء التحقيق الجاري، للشرطة، إنه لم يتلق أي تهديدات قبل اكتشاف الماشية النافقة، التي تم الاحتفاظ بها في عقار مجاور.

ولا تزال صناعات البناء من أبرز قطاعات الأعمال المرتبطة بالمافيا في صقلية، وفقاً لتقرير حديث صادر عن مديرية مكافحة المافيا.

وكثيراً ما كان المقاول المُستهدف ينفذ أعمال البناء لصالح البلدية المحلية، التي بذلت قصارى جهدها لمنع الشركات المرتبطة بالمافيا من الفوز بعطاءات، لكنه أخبر الشرطة أنه لم تتواصل معه أي مجموعة تطالبه بالمال أو الخدمات.

وقال متحدث باسم الشرطة لشبكة «سي إن إن» إن الحادث يتم التعامل معه على أنه أسلوب تخويف من قبل المافيا.

وقد يكون الحادث مرتبطاً بالإفراج مؤخراً عن 20 من أعضاء المافيا من السجون المحلية، الذين انتهت مدة عقوباتهم، و«ربما يسعون للانتقام» وفقاً لرئيس مديرية مكافحة المافيا، موريزيو دي لوسيا.

وقال دي لوسيا في سبتمبر (أيلول): «لا يمكننا أن نتخلى عن حذرنا، فالحرب ضد المافيا أصبحت أكثر صعوبة مع إطلاق سراح هؤلاء الرجال».

وقالت عمدة ألتوفونتي، أنجيلا دي لوسيا، إنها شعرت بالرعب عندما سمعت الأخبار. وأضافت لوسائل الإعلام المحلية: «لا أستطيع أن أفهم مثل هذه الوحشية... يبدو أن هذا الفعل يعيدنا إلى العصور الوسطى».

ويعد استخدام الحيوانات الميتة، وفي كثير من الأحيان الكلاب وليس الخيول، تكتيك ترهيب شائعاً في الجزيرة الواقعة بجنوب إيطاليا، وفق «سي إن إن».

وتم الإبلاغ عن العديد من الحوادث المماثلة التي تنطوي على رؤوس حيوانات مقطوعة من قبل رجال الأعمال المحليين في صقلية، ففي عام 2023 تم العثور على رأس خنزير مقطوع معلقاً في مركز الشرطة المحلي، بينما عثر مقاول أعمال محلي على رأس مقطوع لأحد عنزاته في حديقته.