عاصفة سياسية في فرنسا بعد احتفال ديني يهودي في قصر الإليزيه

ماكرون يواجه اتهامات من اليمين واليسار بانتهاك مبدأ العلمانية

الرئيس إيمانويل ماكرون (يسار) بمناسبة زيارته الجمعة لورشة إعادة ترميم كاتدرائية نوتردام التي أصابها حريق كبير في أبريل 2019 (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون (يسار) بمناسبة زيارته الجمعة لورشة إعادة ترميم كاتدرائية نوتردام التي أصابها حريق كبير في أبريل 2019 (أ.ف.ب)
TT

عاصفة سياسية في فرنسا بعد احتفال ديني يهودي في قصر الإليزيه

الرئيس إيمانويل ماكرون (يسار) بمناسبة زيارته الجمعة لورشة إعادة ترميم كاتدرائية نوتردام التي أصابها حريق كبير في أبريل 2019 (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون (يسار) بمناسبة زيارته الجمعة لورشة إعادة ترميم كاتدرائية نوتردام التي أصابها حريق كبير في أبريل 2019 (أ.ف.ب)

أثار الرئيس الفرنسي عاصفة سياسية بمشاركته في قصر الإليزيه في بداية احتفالات الجالية اليهودية بـ«عيد الأنوار»، المسمى بالعبرية «هانوكا»، والذي انطلق مساء الخميس بإشعال حاخام فرنسا الأكبر حاييم كورسيا شمعة في شمعدان فضي وُضع على منصة خاصة في قاعة الأعياد، في القصر الرئاسي. وتلا ذلك أناشيد دينية تقليدية بالعبرية، شارك فيها العشرات من الحضور الذين تجمعوا في الإليزيه بمناسبة منح إيمانويل ماكرون جائزة «لورد جاكوبوفيتش» اليهودية التي يمنحها «مؤتمر حاخامات أوروبا»، وهي تكرّم قادة أوروبيين لما يقومون به في ميدان محاربة معاداة السامية والدفاع عن حرية ممارسة الديانة اليهودية في العالم. وقد مُنحت الجائزة المذكورة في عام 2013 للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.

مبدأ العلمانية

بيد أن ما أتاحه ماكرون يخالف، وبشكل واضح، مبدأً رئيسياً للجمهورية الفرنسية يُعمل به منذ عام 1905 وهو العلمانية؛ ما يعني حيادية الدولة إزاء الأديان، والفصل بينها وبين الديانات كافة القائمة على الأراضي الفرنسية. من هنا، الجدل الذي أعقب انتشار مقطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، وأساسه أنه لا يجوز لرئيس الدولة أن يدوس على مبدأ أساسي تعمل الحكومات الفرنسية المتعاقبة، منذ ما يزيد على عشرين عاماً، على فرض احترامه خصوصاً في المدارس. وآخر ما قام به غبريال أتال، وزير التربية، أنه منع ارتداء «العباءة» للفتيات في المدارس لكونها «رمزاً دينياً» إسلامياً ما يتعارض مع «حيادية» المدرسة.

الرئيس إيمانويل ماكرون منفرداً - الجمعة - على سطح كاتدرائية نوتردام بمناسبة زيارة تفقدية لتقدم أشغال الترميم (إ.ب.أ)

ومنذ مساء الخميس، توالت الانتقادات لبادرة ماكرون. والملفت أنها جاءت، بداية، من أوساط الجالية اليهودية الفرنسية نفسها. فقد قال جوناتان عارفي، رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، في حديث لـ«سود راديو»: إن ما قام به ماكرون «يعد خطأ»، وإن قصر الإليزيه «ليس حقيقة المكان الذي تضاء فيه شمعة هانوكا؛ لأن الحمض النووي للجمهورية هي أن تبقى بعيدة عن كل ما هو ديني». وإذ عبر عارفي عن «دهشته»، مذكراً بأنه «لا يعود للسلطات تقليدياً أن تكون المكان الذي يُحتفل فيه بالمناسبات الدينية». وخلص المسؤول اليهودي إلى التأكيد أن أمراً كهذا «لا يتعين أن يتكرر»، خصوصاً أن «الفرنسيين اليهود عدّوا دوماً أن مبدأ العلمانية يوفّر الحماية ويحمي الحرية، وكل ما يضعف العلمانية سيضعف يهود فرنسا».

ورأى كثيرون أن بادرة ماكرون جاءت للتعويض عن غيابه عن المسيرة الكبرى، التي شهدتها باريس ومدن فرنسية عدة يوم 12 نوفمبر (تشرين الثاني)؛ «من أجل الجمهورية ولمحاربة معاداة السامية». ورغم الدعوات المتكررة لرئيس الجمهورية للمشاركة فيها، فإنه امتنع عن ذلك، وبرر موقفه بأن مكانه «ليس السير في المسيرات والمشاركة في المظاهرات».

وفي هذا السياق، رأى عارفي أن ماكرون «ارتكب خطأً كبيراً وكان عليه أن يكون حاضراً» في المسيرة التي جاءت «من أجل الوحدة الوطنية»، وأنه «لو شارك فيها لكان ساهم في حماية هذه الوحدة». وتجدر الإشارة إلى أن المسيرة جاءت بدعوة من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب؛ جيرار لارشيه ويائيل براون - بيفيه.

محاولة احتواء الجدل

إزاء ما أثاره هذا الاحتفال الذي لم يسبق أن عرفه قصر الإليزيه، سعت مصادر القصر الرئاسي إلى احتواء الجدل ووضع حد له. وقالت مصادره لوكالة الصحافة الفرنسية: إن ما جرى «لا يمكن عده بأي حال» احتفالاً بالعيد اليهودي، ويتعين وضعه «في سياقه»، أي في إطار منح ماكرون الجائزة المشار إليها.

كذلك، أشارت هذه المصادر إلى أن الكثير من رؤساء الدول شاركوا في احتفالات كهذه. والأرجح، أن ذلك إشارة إلى أن البيت الأبيض يستضيف احتفالات دينية ولا أحد يعترض على ذلك. كذلك سعى جيرالد دارمانان، وزير الداخلية وشؤون العبادة، صباح الجمعة، في حديث لإذاعة «فرانس أنفو»، للدفاع عن رئيس الجمهورية بتأكيده أن ماكرون هو «المدافع عن الأديان وهو يحترمها كلها وأنه بصفته رئيساً للدولة، لم ينتهك مبدأ العلمانية».

واستطرد الوزير قائلاً: «خلال هذا العيد اليهودي المهم وبينما يتعرض مواطنونا اليهود لأعمال معادية للسامية وتهاجَم المحافل اليهودية ويعتدى على الناس الذين يحملون شعارات دينية في الشوارع، فإنه من الطبيعي أن يقف رئيس الجمهورية إلى جانب مواطنينا اليهود». وخلاصة دارمانان، أنه «من الطبيعي أن يستقبل رئيس الجمهورية رجال الدين».

انتقادات من اليسار واليمين

بيد أن التبرير الرسمي إن جاء من جانب الإليزيه أو من وزير الداخلية لم يكن مقنعاً. والدليل على ذلك تدفق الانتقادات من اليمين واليسار. فقد تساءل دافيد ليسنار، النائب السابق ورئيس بلدية مدينة «كان» وعضو حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي: «كيف يمكن رفض المشاركة في مسيرة مدنية ضد معاداة السامية بالحجة الكاذبة وهي المحافظة على الوحدة الوطنية، ثم إقامة احتفال ديني في قصر الإليزيه؟». ورأى ليسنار، وهو أيضاً رئيس جمعية رؤساء البلديات في فرنسا، أن ما قام به ماكرون «يعد عملاً معادياً للعلمانية»، ولم يسبق لأي رئيس فرنسي أن قام بمثله.

حايم كورسيا كبير حاخامي فرنسا (يمين) وشمس الدين حافظ مدير مسجد باريس الكبير لدى خروجهما من قصر الإليزيه بعد لقاء مع الرئيس ماكرون يوم 13 نوفمبر (أ.ف.ب)

من جانبه، قال النائب عن حزب «فرنسا الأبية»، أدريان كانتنيس: إن قصر الإليزيه «تحول مساء الخميس مكاناً للعبادة. فهل سيقام فيه يوم الأحد قداساً باللغة اللاتينية؟ أين هي العلمانية في ذلك؟». وقال ميكايل دولافوس، رئيس بلدية مدينة مونبلييه (جنوب) المنتمي إلى الحزب الاشتراكي: إن «فرنسا جمهورية علمانية وقصر الإليزيه، كما القصور البلدية ليست المكان (المناسب) من أجل الاحتفال بالمناسبات الدينية». وذهب السيناتور الاشتراكي السابق، دافيد أسولين، في الاتجاه نفسه متهماً ماكرون بأنه لا يتحلى «بمبدأ (للعمل) أو خط للسير» عليه، وأن الجمهورية «انتظرته في مسيرة مناهضة معاداة السامية، لكنه لم يحضر. و(مبدأ) العمانية لم يكن يتوقع منه الاحتفال بعيد ديني في قصر الإليزيه».

وفي تغريدة طويلة على منصة «إكس» (تويتر سابقاً) كتبت عضو مجلس الشيوخ أستير بنبيسا: «عندما نذكر بمبدأ العلمانية بمناسبة ومن غير مناسبة، لا ننظم احتفالاً دينياً في قصر الإليزيه بحضور رئيس الجمهورية». وأضافت بنبيسا: «وعندما يشارك الحاخام الأكبر في احتفالية كهذه، وفي مكان كهذا، فإنه عاجز عن فعل المزيد ليغذي وهم المتأمرين من كل حدب وصوب بأن اليهود يتلاعبون بالسلطة ويحركونها بين أيديهم، وهو بذلك يدفع اليهود إلى وضع صعب وفي سياق لم يكن يحتاج لشيء كهذا». وخلصت عضو مجلس الشيوخ إلى القول: إن «الحس بالمسؤولية الملقى على عاتق رئيس الجمهورية الذي يفرض عليه واجبه خدمة مواطني هذا البلد بكل حيادية ومهما تكن ديانتهم أو أن يكونوا من غير ديانة، قد افتقده» في هذه المناسبة.

واضح من التعليقات كافة أن بادرة ماكرون تثير الحيرة، ومسعى مصادر القصر الرئاسي إلى الحديث عن «السياق» لتبرير ما حصل لا يبدو مقنعاً. وبين استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «إيفوب» ونشرت نتائجه الجمعة، أن 78 في المائة من المسلمين يعدّون أن مبدأ العلمانية يستخدم بشكل تمييزي ضدهم. ولا شك أن حصول احتفال ديني في قصر الإليزيه لا يمكن النظر إليه على أنه عفوي وسيقوي شعورهم بالاستهداف. وفي مقال نُشر الجمعة، لصحيفة «ليبراسيون» المُعدّة يسارية والتي يملكها باتريك دراهي، رجل الأعمال الفرنسي - الإسرائيلي، جاء أن ماكرون «ارتكب خطأً سياسياً كبيراً لأنه المؤتمن على العلمانية وكرئيس للدولة ليس له أن يفعل ما فعله». وتضج منصة «إكس» منذ مساء الخميس بتعليقات غالبيتها تنتقد ما حصل في الإليزيه وتعبر عن عجزها عن تفهم ما حصل.


مقالات ذات صلة

ماكرون يدعو إلى الوقف «الفوري» لأي أعمال «تنتهك» وقف إطلاق النار في لبنان

المشرق العربي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدلي بتصريحاته على هامش قمة «مجموعة العشرين» في مدينة ريو دي جانيرو (أ.ف.ب) play-circle 01:22

ماكرون يدعو إلى الوقف «الفوري» لأي أعمال «تنتهك» وقف إطلاق النار في لبنان

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الوقف «الفوري» لكل «الأعمال التي تنتهك» وقف إطلاق النار الساري في لبنان منذ الأربعاء، على ما أعلن قصر الإليزيه الجمعة.

المشرق العربي صورة أرشيفية لرئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أثناء حضورهما مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 26» في غلاسغو - أسكوتلندا 1 نوفمبر 2021 (رويترز)

ميقاتي يؤكد لماكرون ضرورة الضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها لاتفاق الهدنة

قال مجلس الوزراء اللبناني إن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي أكد لماكرون، في اتصال هاتفي، ضرورة الضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها لاتفاق وقف إطلاق النار.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
أوروبا يحتفل النازحون بعودتهم إلى قراهم بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» الذي دخل حيز التنفيذ (أ.ب)

مع وقف إطلاق النار في لبنان... ماكرون يحقق إنجازاً دبلوماسياً نادراً

منح وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نصراً دبلوماسياً غير معهود في الشرق الأوسط.

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي بايدن مستقبِلاً ترمب في البيت الأبيض (د.ب.أ)

لماذا يشكل الحفاظ على الهدنة بين إسرائيل و«حزب الله» تحدياً كبيراً لبايدن وترمب؟

وصف موقع «أكسيوس» الأميركي وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» بالإنجاز الدبلوماسي صعب المنال، لكنه قال إن منع انهياره قد يكون أكثر صعوبة في النهاية

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (رويترز)

بايدن: اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» سيدخل حيز التنفيذ صباح الغد

أكّد الرئيس الأميركي جو بايدن اليوم (الثلاثاء) على أن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان «نبأ سار وبداية جديدة للبنان».

علي بردى (واشنطن)

ضربة جديدة لحكومة ستارمر... وزيرة النقل البريطانية تستقيل

لويز هاي وزيرة الدولة البريطانية للنقل تغادر بعد اجتماع مجلس الوزراءفي  30 أكتوبر 2024 (أ.ب)
لويز هاي وزيرة الدولة البريطانية للنقل تغادر بعد اجتماع مجلس الوزراءفي 30 أكتوبر 2024 (أ.ب)
TT

ضربة جديدة لحكومة ستارمر... وزيرة النقل البريطانية تستقيل

لويز هاي وزيرة الدولة البريطانية للنقل تغادر بعد اجتماع مجلس الوزراءفي  30 أكتوبر 2024 (أ.ب)
لويز هاي وزيرة الدولة البريطانية للنقل تغادر بعد اجتماع مجلس الوزراءفي 30 أكتوبر 2024 (أ.ب)

استقالت وزيرة النقل البريطانية لويز هاي بعد اعترافها قبل سنوات بتهمة تتعلق بتضليل الشرطة بشأن هاتف جوال خاص بالعمل قالت إنه سُرق منها في عام 2013، ما يوجه ضربة أخرى لحكومة رئيس الوزراء كير ستارمر الجديدة. وتقدمت هاي باستقالتها بعد تقارير إعلامية أفادت بأنها أدينت وحصلت على إفراج مشروط في عام 2014 بسبب ما وصفته بأنه «خطأ»، وفق وكالة «رويترز» للأنباء. وهي أول وزيرة تستقيل من حكومة ستارمر منذ فوزه الساحق في انتخابات يوليو (تموز).

وقالت هاي في رسالة إلى ستارمر أمس الخميس إنها أبلغت الشرطة بفقدان الهاتف خلال عملية سرقة «مرعبة» عندما كانت في سهرة عام 2013 لتكتشف فيما بعد أن الهاتف كان لا يزال في منزلها.

وزيرة النقل البريطانية لويز هاي (رويترز)

وذكرت في استقالتها، التي نشرها مكتب ستارمر، اليوم الجمعة، أنها تتنحى لأن هذه القضية «ستشتتها قطعا عن تنفيذ عمل هذه الحكومة والسياسات التي تلتزم بها». وأضافت: «سأظل ملتزمة تماما بمشروعنا السياسي، لكنني أعتقد أن من الأفضل الآن دعمكم من خارج الحكومة». وشكر ستارمر هاي على عملها وعلى كل ما فعلته «لتنفيذ أجندة النقل الطموحة لهذه الحكومة». وقال حزب المحافظين المعارض إن هاي «فعلت الشيء الصحيح»، لكنه تساءل عن سبب تعيين ستارمر لها وهو كان يعلم على ما يبدو بإدانتها بالتضليل.

رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر (وسط) يسير مع القادة العسكريين في 26 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

وقال متحدث باسم حزب المحافظين في بيان «تقع على كير ستارمر الآن مسؤولية تفسير هذا الفشل الواضح في الحكم للشعب البريطاني». وتوجه استقالة هاي ضربة أخرى لستارمر الذي يشهد انخفاضا في معدلات تأييد حزب العمال بزعامته منذ يوليو.

وتعرضت حكومة حزب العمال لانتقادات شديدة بعد فوزها بالسلطة مباشرة تقريبا بسبب الحد من مدفوعات الوقود لكبار السن واستغلال التبرعات في شراء ملابس والضيافة. وأثارت الحكومة منذ ذلك الحين غضب المزارعين بسبب تغييرات على قواعد ضريبة التركات، كما احتجت شركات كثيرة على أول موازنة للحكومة والتي رفع فيها وزير المالية الضرائب على الشركات والأثرياء بشكل أساسي.

وقالت هاي إن واقعة الهاتف كانت خطأ غير مقصود لم تحقق منه «أي مكاسب».