تدخل التكنولوجيا إلى الحرب فتغيّر خصائصها، لكن دون تغيير في طبيعتها. فطبيعة الحرب ثابتة، كما يقول المفكّر البروسي كارل فون كلوزفيتز. فهي تُخاض لأهداف سياسيّة، وهو القائل إن «الحرب هي السياسة بوسائل أخرى».
تدخل التكنولوجيا إلى الحرب فتُسهّل وتُبسّط عمل القيادات التي تُخطّط للحرب. فتُعمي البصيرة، وتُبشّر بالنصر القادم لهذه القيادات قبل أن يتحقّق. تفرض التكنولوجيا على القادة فكراً خطيّاً (Linear Thinking)، لا يأخذ بعين الاعتبار التعقيدات، وخبايا الأمور. فتتحوّل الحرب في ذهن هؤلاء القادة ووعيهم، لتصبح: ممكنة، قصيرة الأمد، وغير مُكلفة.
تدخل التكنولوجيا إلى الحرب، فتُبسّط في مكان، وتُعقّد الأمور في أمكنة أخرى. فهي تُحسّن أداء الوسائل العسكريّة من جهّة. لكنها تطلب مستوى متقدّماً من المُشغّل. فمع كل تكنولوجيا جديدة، يتبدّل التوصيف الوظيفيّ للمقاتل. ولأن التغيير التكنولوجي أصبح في مرحلة متسارعة جداً (Exponential)، يظهر العبء الثقيل على العنصر البشري في محاولة اللحاق بالركب.
ولكن عندما تدخل التكنولوجيا الجديدة إلى الحرب، هل تبقى الدروس المُستقاة من الحروب السابقة قائمة؟ ومَن يتقدّم على مَن؟ مَن يملك التكنولوجيا، ومَن لا يملكها؟ ملكت الولايات المتحدة الأميركيّة أحدث تكنولوجيا عند غزوها العراق عام 2003، لكنها لم تكن قادرة على فرض إرادتها السياسيّة. إذاً، لا يتعلّق الأمر بالتكنولوجيا فقط. فهناك دائماً المقاربة اللاتماثليّة (Asymmetric) لمَن لا يملك التكنولوجيا الحديثة. ترتكز هذه المقاربة في جوهرها على ما يُسمّى «التأقلم العملانيّ - التكتيكيّ».
الثوابت والمتغيّرات
سيكون هناك دائماً «دفاع» و«هجوم» في الحرب. وذلك بغضّ النظر عن الوسيط (Medium) المستعمل، أو الوسيلة والتكنولوجيا المتوافّرة. سيكون هناك دائماً تجسّس وتنصّت. ستكون هناك كمائن وإغارات. ستكون هناك دائماً فكرة الخداع (Deception). ستكون هناك دائماً 3 مستويات للحرب: الاستراتيجيّ، والعملانيّ والتكتيكيّ. سيكون هناك دائماً عامل المفاجأة، كما عملية التوازن بين الأهداف والوسائل المُخصّصة. ستكون هناك دائماً عمليّة المناورة، أي تثبيت العدو في مكان، والالتفاف عليه في مكان آخر. وأخيراً وليس آخراً، ستبقى طبيعة الحرب ثابتة، لكن خصائصها متغيّرة في 3 أبعاد هي: البعد الاجتماعيّ، والبعد السياسيّ والبعد الاقتصاديّ.
وهنا يجب التوقف عند دخول المسيّرات في الحروب.
في الحرب العالميّة الأولى، استعمل المتحاربون المنطاد - البالون لاستكشاف أرض المعركة من الجوّ ومن الأعلى، والهدف كان إمّا لجمع المعلومات التكتيكيّة عن مواقع العدو وجاهزيّته العسكريّة، أو لمجرد تصحيح رمايات المدفعيّة. يثبت هذا الأمر أن هناك دائماً ثوابت تتمثّل بجمع المعلومات عن العدوّ، لكن مع خصائص ووسائل مختلفة. أضاف المنطاد وسيطاً جديداً على الوسيطين القديمين: البرّ والبحر. لكن مسيّرات القرن الواحد والعشرين تستعمل وسيطاً إضافيّاً هو «الفضاء السيبرانيّ».
لا تعدّ المُسيّرات الجويّة على أنها سلاح الجوّ الذي نعرفه. لكنها حتماً سلاح الجو، لمَن ليس لديه سلاح جوّ.
كما لا تعدّ المسيّرات البحريّة السطحيّة على أنها «بحريّة» بلد ما. لكنها حتماً السلاح البحريّ لمَن ليس لديه سلاح بحريّ. حتى إن المسيّرات البحريّة الغاطسة (Submersible) هي أيضاً تكمّل السلاح البحريّ وتحلّ مكان الغواصات.
ولكن ماذا عن الإضافة النوعيّة للمسيّرات بكامل مفاعيلها؟
للمسيّرات مهمات مختلفة. وهي على أنواع عدة. هي سلاح المدفعيّة الحديث الذي يرى الهدف مباشرة. هي أذكى قنبلة مدفعيّة ممكنة. حتى إن هناك من يتساءل عمّا إذا كانت المُسيّرات ستحل مكان سلاح المدفعيّة مستقبلاً.
إضافة إلى ذلك، هناك المسيّرة التي تجمع المعلومات، وتستطلع تحرّكات العدو (Reconnaissance)، أو حتى تستطلع أسهل الطرق والمحاور الممكنة للهجوم.
هناك المسيّرة التي تحوم فوق الهدف، أو تبحث عنه، وتنتحر فوقه (Loitering-Suicide). تندرج في هذا الإطار المسيّرة الأميركيّة (Switchblade) التي زوّدت الولايات المتحدة أوكرانيا بها.
هناك أيضاً المسيّرات الصغيرة التي تحلّق من ضمن مجموعة إغارة (Swarming)، مع حمولة صغيرة من المتفجّرات. والهدف دائماً هو قتل الهدف عبر ألف طعنة (Death by One Thousand Cuts). فلنتأمّل 1000 مُسيّرة صغيرة، تحمل كلّ منها بعض الغرامات من المتفجّرات. تحلّق مع بعضها البعض، كما يُحّلق سرب النحل. ومُبرمجة على هدف مُعيّن، وبشكل يضمن ألّا تصطدم مع بعضها البعض. فهل يمكن تدميرها عبر الدفاعات الجويّة التقليديّة؟
تستعمل المسيّرات أيضاً بوصفها سلاحاً لخداع الدفاعات الجوّيّة الأساسيّة وإلهائها. فهي تطلق لإشغال وتشتيت انتباه هذه الدفاعات، في الوقت الذي يكون فيه القصف الفعليّ على هدف يُشكّل مركز ثقل.
تعمل المُسيّرات على أنها مراقب ومُنسّق لسلاح المدفعيّة. فهي تستطلع الهدف، وتنقل الإحداثيّات إلى القيادة الجماعيّة لمسرح المعركة (Battlespace). وعليه، يتمّ تعيين ما هو أفضل، وأفعل، لتدمير هذا الهدف. سمّاها البعض «أوبر» المدفعيّة (Uber).
إذاً، تختلف المُسيّرات عن بعضها البعض، وذلك حسب المهمّة، كما حسب المسافة عن الهدف. ولأن لمسرح الحرب ثلاثة أبعاد (الاستراتيجيّ، والعملانيّ والتكتيكيّ) فإن للمسيّرات مُدّة طيران، وحمولة مناسبة، الأمر الذي يعكس مدى هذه المسيّرات وفاعليّتها. فكّلما كبرت المسافة، قلّت الحمولة.
تسعى الدول إلى إنتاج هذه المُسيّرات، أو الحصول عليها، لأنها تعكس موقع هذه الدولة في السباق التكنولوجيّ الحديث. فإنتاج المُسيّرة يتطلّب استعمال كل ما أنتجته الثورة الصناعيّة، إلى جانب نتاج الثورة التكنولوجيّة الحاليّة، الذكاء الاصطناعيّ مثلاً. وإذا تعذّر على هذه الدول إنتاج المُسيّرات التي نعرفها اليوم، فقد تلجأ إلى الابتكار. فعل سبيل المثال، عدّلت كوريا الشماليّة طائرات سوفياتيّة قديمة إلى مُسيّرات انتحاريّة.
استكمل الرئيس باراك أوباما حربه على الإرهاب، وذلك عبر استعمال المُسيّرات لتنفيذ بعض الاغتيالات. فهي أقلّ تكلفة من الحرب التي تتطلّب موافقة مسبقة من الكونغرس. وهي لا ترتّب أعباء سياسيّة ضاغطة عليه في حال إسقاط المُسيّرة. هكذا حصل أيّام الرئيس دونالد ترمب عندما أسقطت إيران المُسيّرة فوق مضيق هرمز (وربما تكون قد سقطت بسبب عطل فنيّ). فلنتأمّل ماذا سيكون عليه الوضع آنذاك لو كانت الطائرة حربيّة تقليديّة، ومع طيّار في داخلها تحوّل إلى أسير حرب؟
هل تحسم المُسيّرات الحرب؟
قد يكون الجواب بـ«كلاّ». فهي تحسم معركة، لكنها لا تنهي الحرب. فالحرب تنتهي عند هزيمة العدو واعترافه بالهزيمة. أو عند احتلال الأرض وفرض الحلّ. لم تنتهِ الحرب العالميّة الثانيّة في أوروبا إلا بعد إنزال النورمانديّ. لم تنتهِ الحرب مع اليابان إلا بعد استعمال النوويّ، واعتراف اليابان بالهزيمة واستسلام الإمبراطور. لكن المُسيّرة حسمت بعض المعارك المهمّة. فقد أسهمت المسيّرة التركيّة «بيرقدار» في إعادة التوازن إلى المسرح الليبي، أو بكلام آخر قسّمت ليبيا. كما أسهمت المُسّيرات التركية في هزيمة أرمينيا في إقليم ناغورنو كاراباخ المُتنازع عليه مع أذربيجان. هذا مع التذكير أن مُحرّكات المُسيّرات التركيّة تُصنع داخل أوكرانيا في معمل (Sich) الواقع في إقليم زابوريجيا، الذي استهدفته روسيا مؤخّراً بالقصف.
فعاليّة المُسيّرات في الحرب الأوكرانيّة
لم تكن روسيا مستعدّة في بداية الحرب في بُعد المُسيّرات. وهي لا تزال تعاني حتى الآن، وإلا فما معنى لجوئها إلى إيران للتزوّد بها، وما معنى اتفاقها مع الإيرانيين لتصنيعها في الداخل الروسيّ؟
وفي الواقع، تستعمل روسيا المُسّيرات في الحرب الأوكرانيّة بوصفها بديلاً للمدفعيّة، وللتعويض عن النقص في الصواريخ الباليستيّة. فالمُسيّرات جاهزة، وأقل تكلفة من الصواريخ.
في المقابل، تتميّز أوكرانيا في الاستعمال المُكثّف للمسيّرات، ومن كافة الأصناف: الجوّيّة، والبحريّة وحتى البريّة.
وقد يعود السبب إلى الأمور التالية:
• عدم توفّر سلاح طيّران فعّال. وعدم توفّر سلاح بحريّ يُقارع الأسطول الروسيّ في البحر الأسود. وإمكانيّة استهداف الداخل الروسيّ بالمسيّرات، والقدرة على النكران في الوقت نفسه. فتحليق طائرة حربيّة أوكرانيّة فوق الأراضي الروسيّة أمر مستبعد وصعب في الوقت نفسه.
• تتوفّر هذه المُسيّرات بكثرة في أوكرانيا، إن كان عبر المساعدات الغربيّة، أو حتى التصنيع المحلّي. نشرت في هذا الإطار جريدة «واشنطن بوست» مقالاً مطوّلاً حول موجة تصنيع المُسيّرات في الداخل الأوكرانيّ كشفت فيه أن أوكرانيا عيّنت نائباً لرئيس الوزراء لشؤون الابتكار والعلوم والتكنولوجيا. وهو الذي يُشرف على قطاع المُسيّرات. ففي أوكرانيا هناك أكثر من 200 شركة تعمل في هذا المجال.
كما خصّص أريك شميت، مدير «غوغل» السابق، مبلغ 10 ملايين دولار للاستثمار في هذا القطاع في الشركات الأوكرانيّة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك عشرات الآلاف ممن يُدرّبون داخل هذا القطاع في أوكرانيا.
وأخيراً وليس آخراً، دخل الذكاء الاصطناعيّ بسرعة على المسيّرة التي تُصنّع في أوكرانيا. فهذه الدولة تملك كثيراً من المهندسين المُبرمجين، لكن الجدير ذكره، في هذا الإطار، هو قصر مدّة دائرة الوقت بين التجربة، والتغذية الاسترجاعيّة (Feedback)، ومن ثمّ التحديث والتعديل، والعودة بسرعة فائقة إلى حقل التجربة الحربيّة والمستمرّ منذ أكثر من سنة ونصف السنة. وتلفت الصحيفة الأميركية، في هذا الإطار، إلى أن المسيّرات التي تستعمل الذكاء الاصطناعي في أوكرانيا قادرة على تخطّي التشويش عليها من قبل الحرب الإلكترونية الروسيّة. ففي حال التشويش عليها، تُركّز هذه المُسيّرات على الهدف الأساسي بناءً على معلومات (داتا) مُحمّلة مُسبقاً. فتستكمل المهمّة وتدمّر الهدف انتحاريّاً، حتى ولو انقطعت صلة الوصل مع مُشغّلها عبر «جي بي إس».
خطّة المُسيّرات في ديناميكيّة
المعارك الآن
درّبت الولايات المتحدة الأميركيّة أكثر من 60 ألف جنديّ أوكراني استعداداً للهجوم العكسيّ على القوات الروسيّة في أوكرانيا. كما جهّزت أميركا وحلف «الناتو» هذه القوات بكلّ ما يلزم للقتال على الطريقة الغربيّة، أي القتال المُشترك للأسلحة (Combined Arms). أي قتال المشاة مع المدرعات، مع المدفعيّة، مع سلاح الهندسة، ومع السايبر (الحرب السيبرانية)، وغيرها من الأسلحة.
وعندما تعثّر الهجوم الأوكرانيّ، انتقلت كييف إلى إضافة ثلاثة مسارح أخرى إلى المسرح الحربيّ الأساسيّ في أوكرانيا: مسرح الداخل الروسيّ، ومسرح البحر الأسود، ومسرح شبه جزيرة القرم. وفي هذه المسارح، تلعب المسّيرات من أصناف مختلفة الدور الرئيسي... لكن لماذا؟
• نقل الحرب إلى الداخل الروسيّ، وإظهار هشاشة الأمن الداخلي الروسيّ، بعد أن عدّ الرئيس فلاديمير بوتين أن الحرب هي فقط «عمليّة عسكريّة خاصة».
• إرضاء الشارع الأوكراني الذي يتعرّض للقصف الروسيّ يومياً، ورفع معنويّاته، وإظهار قدرة أوكرانيا على الردّ بالمثل في الداخل الروسيّ.
• تمييع تعثّر الهجوم العكسيّ أمام حكومات الغرب والرأي العام فيه، وضمان أن تستمرّ المساعدات العسكريّة بالوتيرة نفسها.
• باختصار، تلعب المُسيّرات دور المُعدّل (Equalizer) التكتيكي والعملانيّ للتفوّق الروسي في العديد والعتاد.
• في البحر الأسود، عدّلت المُسيّرات البحريّة ومن صنع أوكرانيّ موازين القوى، وفرضت قواعد اشتباك جديدة مع الأسطول البحريّ الروسيّ. حتى إن أوكرانيا تجرّأت مؤخراً على ترسيم ممر (كوريدور) بحريّ للتصدير عبره، يبدأ من أوديسا، إلى الممرّات البحرية التركية، وعبر كل من رومانيا وبلغاريا.
• ولمأسسة هذا السلاح الجديد، خلقت أوكرانيا لواءً بحريّاً للمسيّرات أعلنت عنه خلال الاحتفال الأخير بعيد الاستقلال.
القتال المشترك للأسلحة
ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى التقارير التي تتحدث عن طلب الولايات المتحدة من أوكرانيا، مؤخراً، العودة إلى القتال المُشترك للأسلحة (Combined)، وذلك تنفيذاً للتدريب الذي أعدّت على أساسه القوات الأوكرانيّة الجديدة. وبدل تشتيت الجهد على طول الجبهة الممتدّة لنحو 900 كلم، تطلب أميركا التركيز على محور واحد لإحداث الخرق وصولاً إلى حدود شبه جزيرة القرم. وعليه سوف تكون المسيّرات عاملاً إضافيّاً في هذا القتال المُشترك للأسلحة الأوكرانيّة. وإذا حقّقت أوكرانيا بعض الإنجازات على الجبهة، فهي حتماً ليس بسبب المُسيّرات لوحدها. لا، بل بسبب قتال هذه المُسيّرات إلى جانب باقي الأسلحة لتكتمل المنظومة القتاليّة. وفي الواقع، تعتمد أوكرانيا اليوم على استراتيجيّة تقوم على مبدأ كان قد حدّده رئيس الأركان البريطانيّ الحاليّ، الأميرال الإنجليزي طوني راداكين، الذي يرتكز على مثلّث يعتمد على (Starve,Strech, Strike, 3Ss). أي حرمان القوى من اللوجيستيّة. وإجبارها على توسيع انتشارها، ومن ثمّ استهدافها. هكذا حصل مع مدينة خيرسون التي اضطر الروس إلى الانسحاب منها.
في الختام، لا تبدو المُسيّرات قادرة على حسم الحرب حتى الآن... إلا إذا توصلت التكنولوجيا مستقبلاً إلى صنع مُسيّرة قادرة على حمل «ميكرو» قنبلة ذريّة. لكن الأكيد أن المُسيّرة قد غيّرت خصائص الحرب في القرن الواحد والعشرين.