ماذا بعد تنفيذ موسكو تهديدها بالانسحاب من صفقة الحبوب؟

«الأسواق الصديقة» لن تتأثر... وأفريقيا تسعى إلى تفاهمات ثنائية

سفينة قرب إسطنبول خلال نقلها شحنة قمح بموجب الاتفاق الروسي - الأوكراني في 2 نوفمبر العام الماضي (رويترز)
سفينة قرب إسطنبول خلال نقلها شحنة قمح بموجب الاتفاق الروسي - الأوكراني في 2 نوفمبر العام الماضي (رويترز)
TT

ماذا بعد تنفيذ موسكو تهديدها بالانسحاب من صفقة الحبوب؟

سفينة قرب إسطنبول خلال نقلها شحنة قمح بموجب الاتفاق الروسي - الأوكراني في 2 نوفمبر العام الماضي (رويترز)
سفينة قرب إسطنبول خلال نقلها شحنة قمح بموجب الاتفاق الروسي - الأوكراني في 2 نوفمبر العام الماضي (رويترز)

نفَّذت روسيا تهديدها وانسحبت من صفقة الحبوب التي ضَمنت نقل الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود. كان التطور متوقعاً بالنسبة إلى كثيرين داخل روسيا وخارجها. وخلافاً لتأكيدات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، المتكررة حول ثقته بتمديد الصفقة، التي لعبت بلاده دوراً مهماً في بلورتها، كانت كل المؤشرات تدل على أن موسكو لن توافق هذه المرة على تمديد جديد.

سفينة تحمل شحنة حبوب بموجب الصفقة الروسية - الأوكرانية بالبحر الأسود في 15 يوليو الحالي (رويترز)

كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحاً في الأيام الأخيرة عندما قال إن قرار التمديد مرتبط بتنفيذ الشروط الروسية. قال: «مددنا ثلاث مرات سابقاً... هذا يكفي»!

في المرات السابقة، مددت روسيا هذه الصفقة «فقط من أجل مساعدة إردوغان» في إطار معركة الأخير الانتخابية، وفقاً لتعليق الخبير السياسي الروسي فيودور لوكيانوف. لم تكن موسكو راضية عن مسار تنفيذ الصفقة، وأبلغت الجانب التركي والأمم المتحدة بذلك في مناسبات مختلفة. مع ذلك، وافقت على التمديد الأول في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لمدة 120 يوماً، ثم في 18 مارس (آذار) وفي 17 مايو (أيار) من العام الحالي لمدة 60 يوماً في كل مرة. والنتيجة كانت واحدة من وجهة النظر الروسية: لم يُنفَّذ الشِّق الروسي من اتفاقية الحبوب.

* اتفاقان منفصلان... وتطبيق مرتبط

أُبرمت صفقة الحبوب، المعروفة رسمياً باسم مبادرة حبوب البحر الأسود، في 22 يوليو (تموز) 2022 في إسطنبول بين روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة.

جرى التوقيع على وثيقتين: «مذكرة تفاهم بين الاتحاد الروسي والأمانة العامة للأمم المتحدة بشأن تسهيل نقل الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية» و«مبادرة النقل الآمن للحبوب والأغذية من الموانئ الأوكرانية».

كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحاً في الأيام الأخيرة عندما قال إن قرار التمديد مرتبط بتنفيذ الشروط الروسية (أ.ف.ب)

وقَّع الطرفان الروسي والأوكراني كلٌّ على حدة. وحمل الاتفاق المتعلق بروسيا توقيعات وزير الدفاع سيرغي شويغو، ونظيره التركي خلوصي أكار، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. والاتفاق المتعلق بأوكرانيا وقَّعه مع الجانبين التركي والأممي وزير التنمية الأوكراني ألكسندر كوبراكوف.

حذر أنطونيو غوتيريش من أن ملايين الناس سيدفعون ثمن فشل الاتفاق (أ.ف.ب)

مما يعني أن الصفقة بمجملها لم تحمل صيغة جماعية تضع شروطاً ملزمة على الأطراف. بهذا المعنى ومن وجهة النظر القانونية كان يمكن لأي طرف أن ينسحب أو يجمِّد العمل بالاتفاقية التي وقَّع عليها. لكنّ هذه التفصيلة لها أهمية خاصة من وجهة النظر الروسية، لأن انسحاب أي طرف سوف يعني تلقائياً نسف آليات تنفيذ الاتفاق الموقَّع من جانب الطرف الآخر.

ناقلة ترفع عَلم تركيا تغادر ميناء أوديسا الأوكراني (رويترز)

وهكذا فإن انسحاب روسيا الحالي، يعني إنهاء الضمانات التي قدمتها موسكو وفقاً للاتفاق على فتح ممر آمن في البحر الأسود لمرور السفن الأوكرانية المحمَّلة بالحبوب والأسمدة، من ثلاثة موانئ أوكرانية هي: أوديسا وتشيرنومورسك ويوجني.

ومع أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي تعهّد بمواصلة تنفيذ الشق المتعلق بأوكرانيا من الاتفاقية بمعزل عن الموقف الروسي، لكنّ رد موسكو العملي جاء سريعاً. وبعد مرور ساعات فقط على إعلان الانسحاب من الصفقة قصفت الصواريخ الروسية بقوة ميناء أوديسا وقوضت جزءاً مهماً من البنى التحتية فيه. كانت الرسالة واضحة: لن تسمح موسكو بمرور آمن للصادرات الأوكرانية ما دامت صادراتها معطَّلة بسبب عدم تنفيذ الشق المتعلق بها في الصفقة.

* الشروط الروسية

الشروط الروسية التي قاد عدم تنفيذها إلى الانسحاب الحالي، تتعلق بضمانات قدمتها الأمانة العامة للأمم المتحدة بتخفيف نظام العقوبات فيما يتعلق بـالإمدادات الروسية من المواد الغذائية والأسمدة إلى السوق العالمية. بعبارة أخرى، انتظرت موسكو طويلاً رفع الحظر المفروض على حركة السفن ونشاط الموانئ الروسية وتوقعت تسهيلات كبرى من جانب شركات التأمين الدولية التي أجبرتها العقوبات الغربية على وقف التعامل مع الناقلات والموانئ الروسية.

جلسة «الاثنين» في الأمم المتحدة لمناقشة الاتفاقية (إ.ب.أ)

كذلك، وفقاً للمذكرة، كان على الأمانة العامة للأمم المتحدة تحقيق إعفاءات محددة للأغذية والأسمدة المنتجة في روسيا، بما في ذلك المواد الخام، خصوصاً الأمونيا، من إجراءات العقوبات. على وجه الخصوص، طالبت روسيا بضمانات لتوريد الأمونيا عبر خط أنابيب الأمونيا Togliatti - Odessa. لكن تم تفجير الخط في 5 يونيو (حزيران) على أراضي منطقة خاركيف في أوكرانيا، ولم تتح لروسيا الفرصة لإصلاحه.

أيضاً تضمنت الصفقة ضمانات برفع الحظر على تعاملات بعض المصارف الروسية مع نظام «سويفت» المالي الدولي. من جانب الغرب لم يكن تنفيذ الشروط ممكناً، لأن هذا سوف يعني تقويض جزء مهم من نظام العقوبات المفروض على موسكو. ومنذ البداية كان من الواضح أن طريق تنفيذ الصفقة ليست ممهدة ومليئة بالألغام.

فرص إعادة إحياء الصفقة

فحوى الإعلان الروسي أن موسكو من خلال تعليق المشاركة في الاتفاقية، لا تتخلى عنها بالكامل. وكما أفادت وزارة الخارجية: «سوف نمدِّد. في اللحظة التي سيتم فيها الوفاء بالوعود المقدمة إلينا بشكل عملي ملموس وليس مجرد الأقوال».

الموقف الروسي المتشدد يعكس قرار الكرملين رفع السقف التفاوضي إلى أعلى درجة ممكنة، بهدف تحقيق كل الشروط المطروحة أو جزء مهم منها على الأقل. لذلك لا يستبعد خبراء في موسكو أن توافق موسكو لاحقاً على استئناف العمل بالصفقة لكن وفقاً لشروط جديدة يمكن أن تضغط الأمم المتحدة لضمان تنفيذها. في كل الأحوال، لا تبدو موسكو في عجلةٍ من أمرها، حتى بعد أن اتهمها الغرب بأنها مسؤولة عن تدهور الوضع على صعيد الأمن الغذائي في عدد من المناطق الأكثر فقراً في العالم.

عموماً، يقيم الطرفان فعالية صفقة الحبوب بشكل مختلف. وفي مقابل تأكيد كييف أن 60 في المائة من صادراتها منذ إبرام الصفقة ذهبت إلى آسيا وأفريقيا فإن وزارة الخارجية الروسية قدمت معطيات مختلفة، وقالت إن 3 في المائة فقط من الصادرات ذهبت نحو الدول الأكثر حاجة، وخصوصاً وفقاً للوزارة، إثيوبيا واليمن وأفغانستان والسودان والصومال. بينما أُرسلت الشحنات الأكبر إلى الدول ذات الدخل المرتفع والمتوسط، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، ما يعني وفقاً لموسكو أن الصفقة لم تنجح في إنجاز الأهداف الإنسانية المعلنة.

* تأثيرات أولية

فور إعلان الانسحاب الروسي بدأت أسعار القمح العالمية في الارتفاع بشكل حاد. ارتفعت العقود الآجلة للقمح تسليم سبتمبر (أيلول) بنسبة 4.24 في المائة لتصل إلى 6.89 دولار للبوشل (نحو 30 كجم)، وفقاً لبيانات التداول في بورصة شيكاغو التجارية اعتباراً من منتصف يوم الاثنين. وقال أندريه سيزوف، الرئيس التنفيذي لمركز «سوفيكون التحليلي»، إنه بعد تعليق مشاركة روسيا في صفقة الحبوب، سوف تستمر أسعار الحبوب العالمية في النمو «على الأقل في الأيام المقبلة».

في المقابل وعلى مستوى الداخل الروسي، يعتقد رئيس اتحاد الحبوب الروسي أركادي زلوشفسكي، أن تعليق مشاركة روسيا في صفقة الحبوب لن يؤثر بأي شكل من الأشكال على المزارعين الروس، لأن «هذه الصفقة لم تعطنا أبداً أي شيء سوى الضرر». وحسبه، فإن المزارعين الروس، على العكس من ذلك، يستفيدون الآن، لأن الصفقة «أضرت بإمدادات الحبوب الروسية منذ بداية تنفيذها». ويأمل المسؤول بظهور فرصة جديدة للروس، و«إذا لم تُنفَّذ الصفقة، على الأقل سوف يقل هذا الضرر».

بنفس المضمون، يعتقد دميتري ليونوف، نائب رئيس مجلس إدارة جمعية «روس برود سيوز» المسؤولة عن صادرات الحبوب، أن انسحاب روسيا من الصفقة لن يؤثر بشكل كبير على السوق الروسية، لأن «روسيا لم تتلقَّ شيئاً منها في الواقع».

يقول ليونوف: «بالإضافة إلى ذلك، خلال العقوبات، تمكنّا من إعادة تنظيم صادرات الحبوب، بما في ذلك عبر بحر قزوين وإيران (...) أيضاً فإن الدول الصديقة لروسيا، بما في ذلك الصين ومصر وغيرها، قد تزيد مشترياتها من الحبوب الروسية». ولمّح إلى إمكان تحقيق طفرة في تصدير الحبوب الأوكرانية من المناطق التي تسيطر عليها روسيا بسبب وجود عناصر لوجيستية تسهّل هذا الأمر.

مخازن الحبوب في ميناء أوديسا على البحر الأسود (أ.ب)

* تأثيرات على الشركاء

بدأت موسكو مبكراً التمهيد لقرارها الانسحاب من الصفقة عبر اتصالات أجرتها مع بلدان القارة الأفريقية. كان الهدف مواجهة مبكرة لحملة الغرب السياسية القائمة على أن روسيا هي الجاني في أزمة الأمن الغذائي. في هذا السياق، يشير خبراء إلى أنه من المهم لروسيا «أن تضاعف جهودها ثلاث مرات في اتصالات مباشرة مع جميع البلدان المحتاجة -مع البلدان الأفريقية في المقام الأول- من أجل تقديم بدائل لها».

ميناء أوديسا الأوكراني أحد الموانئ الرئيسية لتصدير الحبوب الأوكرانية (أ.ف.ب)

إذا لم يكن من الممكن القيام بذلك، فيتعين علينا أن نستمر في القول إن هذا ليس خطأنا، وفقاً للخبير فيودور لوكيانوف، الذي رأى أن موضوع إمدادات الحبوب سوف يغدو على رأس جدول اهتمامات القمة الروسية الأفريقية المنتظرة في غضون أسبوعين. لا يستبعد خبراء أن تعمد موسكو إلى توسيع دائرة الاتصال مع الشركاء الأفارقة الذين «يبدون تفهماً لقرارها» بهدف التوصل إلى تفاهمات ثنائية لتوسيع الصادرات عبر عدد من الشركاء الأساسيين لروسيا الذين وسّعوا من مجالات التعاون رغم القيود الغربية المفروضة على موسكو.


مقالات ذات صلة

إصرار إدارة بايدن على إنفاق كل مساعدات أوكرانيا قبل تسلم ترمب السلطة

أوروبا وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيان خلال مؤتمر صحافي في كوريا الجنوبية (أ.ف.ب)

إصرار إدارة بايدن على إنفاق كل مساعدات أوكرانيا قبل تسلم ترمب السلطة

قال وزيرا الدفاع الأميركي والأوكراني إنهما ناقشا إطلاق روسيا صواريخ باليستية جديدة والاستعدادات للاجتماع المقبل لمجموعة الاتصال الداعمة لأوكرانيا.

إيلي يوسف (واشنطن)
أوروبا يقف أفراد من الخدمة الروسية على دبابات «T-72» خلال تدريبات عسكرية أجريت في ميدان رماية وسط الصراع بين روسيا وأوكرانيا (رويترز)

أوكرانيا «تصد» محاولة تقدّم روسية في الشرق

أعلنت أوكرانيا اليوم (الثلاثاء)، أن قواتها صدّت محاولة روسية لعبور نهر أوسكيل الذي لطالما عُدّ خط مواجهة في شرق أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا وسائط دفاع جوي أوكرانية من طراز «زد يو 23» المضادة للطائرات تتصدى للمسيرات الروسية (رويترز)

هجوم روسي يترك مدينة تيرنوبل الأوكرانية من دون كهرباء

قالت أوكرانيا اليوم الثلاثاء إن هجوما روسيا بطائرات مسيرة خلال الليل ترك مدينة تيرنوبل في غربها من دون كهرباء.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الولايات المتحدة​ جنود روس يتدربون على استخدام دبابة من طراز «تي-72» قبيل التوجه إلى الجبهة (رويترز)

وزيرا دفاع أميركا وأوكرانيا يناقشان «التخطيط الاستراتيجي» للحرب مع روسيا

قال وزيرا الدفاع الأميركي والأوكراني إنهما ناقشا إطلاق روسيا صواريخ باليستية جديدة والاستعدادات للاجتماع المقبل للدول المانحة للأسلحة وخطط المساعدات العسكرية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي في أثينا 26 أكتوبر 2020 (رويترز)

لافروف يتهم الغرب بالسعي إلى وقف إطلاق النار لإعادة تسليح أوكرانيا

اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الدول الغربية، الاثنين، بالسعي إلى تحقيق وقف لإطلاق النار في أوكرانيا بهدف إعادة تسليح كييف بأسلحة متطورة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

الشرطة الفرنسية تبحث عن 8 سجناء من شمال أفريقيا فروا من مركز اعتقال

عناصر من الشرطة الفرنسية في حالة استنفار بالعاصمة باريس (متداولة)
عناصر من الشرطة الفرنسية في حالة استنفار بالعاصمة باريس (متداولة)
TT

الشرطة الفرنسية تبحث عن 8 سجناء من شمال أفريقيا فروا من مركز اعتقال

عناصر من الشرطة الفرنسية في حالة استنفار بالعاصمة باريس (متداولة)
عناصر من الشرطة الفرنسية في حالة استنفار بالعاصمة باريس (متداولة)

بدأت الشرطة الفرنسية حملة تفتيش عن 8 سجناء من دول شمال أفريقيا فروا من مركز اعتقال في مدينة نيس جنوب فرنسا، ليل الاثنين.

وعلى خطى أفلام الحركة نجح في البداية 9 سجناء في الفرار من مركز الاعتقال الإداري بعد أن تمكنوا من إحداث ثقب في سقف غرفة الاحتجاز وتسربوا منها إلى السطح ومن ثم إلى خارج المؤسسة باستخدام أغطية.

عناصر من الشرطة الفرنسية في العاصمة باريس (متداولة)

ونجحت الشرطة في إيقاف عنصر واحد فقط، فيما لاذ الآخرون بالفرار. وأفادت «فرانس إنفو» بأن أعمارهم تتراوح بين 23 و31 عاماً وهم ينحدرون من دول تونس وليبيا والجزائر.

وسبق أن أخلت السلطات سبيل 5 من بين الفارين كانوا ملاحقين في جرائم تتعلق بالقانون العام، فيما تم الإفراج عن الـ3 الآخرين من مركز احتفاظ لدى الشرطة.

وقال المدعي العام في نيس إن أياً من الفارين لم يخضع إلى الملاحقة بسبب التطرف.

وكان المركز الموجود داخل ثكنة أمنية شمال شرقي المدينة، شهد في عام 2018 عملية فرار مشابهة لـ5 مهاجرين غير نظاميين موقوفين وبالطريقة نفسها.

وسبق أن أعلن المراقب العام للمؤسسات السالبة للحرية أن مبنى المركز الذي يتسع لـ40 موقوفاً متهالك ويفتقد إلى معايير النظافة.