«الناتو» الجديد

الرئيس الأوكراني في قمة فيلنيوس اليوم (أ.ب)
الرئيس الأوكراني في قمة فيلنيوس اليوم (أ.ب)
TT

«الناتو» الجديد

الرئيس الأوكراني في قمة فيلنيوس اليوم (أ.ب)
الرئيس الأوكراني في قمة فيلنيوس اليوم (أ.ب)

عند كلّ تحوّل أساسيّ في الجغرافيا السياسيّة، تتغيّر موازين القوى. ففي علم الفيزياء، تكون المنظومة ثابتة مستقرّة، فقط عندما يكون مجموع القوى التي تؤثّر عليها يساوي الصفر. لكن الاستقرار ليس من طبيعة الأشياء، فهي في ديناميكيّة متحرّكة ومُستدامة.

يكفي أن يدخل عامل (لاعب، أو حدث) جديد على أي منظومة مستقرّة، ليُحرّكها بطريقة عشوائيّة غير مضبوطة. هكذا كانت تقوم وتسقط الإمبراطوريّات. كانت الإمبراطوريّة المهيمنة تسعى للحفاظ على الستاتيكو. بينما تسعى الإمبراطوريات الصاعدة إلى التغيير لأن الستاتيكو ليس من مصلحتها. فهي تريد تحسين وضعها في النظام العالميّ. وبين المهيمن والصاعد، تعوّدت البشريّة على الحروب الكبرى بوصفها عامل تغيير أساسيّاً.

تريد الصين اليوم دوراً عالميّاً ليس كما قبل. تريد أيضاً أن تخرج من قرن الذلّ الذي تسبب به الاستعمار الغربي. وها هي اليوم لاعب جديد يريد تغيير النظام العالمي كي يتناسب وطموحاتها.

في المقلب الآخر، يسعى الرئيس بوتين من خلال حربه على أوكرانيا إلى تغيير النظام العالميّ، عبر انتفاضة يقودها هو نيابة عن القوى الأخرى. لذلك، تبدو صورة النظام العالمي القادم والمُتخيّلة، متعلّقة مباشرة بما ستُفضي إليه الحرب الأوكرانيّة.

أعلام أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي في كييف اليوم (إ.ب.أ)

في حربه على أوكرانيا، زلزل الرئيس بوتين منظومة كانت شبه مستقرّة اسمها حلف «الناتو»، كما غيّر البيئة الأمنيّة والاستراتيجيّة في كلّ أوروبا. وبدأت تداعيات، وارتدادات هذا الزلزال تتظهّر تباعاً، كلّما دخلت الحرب الأوكرانيّة في مرحلة جديدة.

كانت الحرب الأوكرانيّة بسبب توسّع حلف الناتو. وذلك، إلى جانب الثوابت الجيوسياسيّة الروسيّة لمحيطها المباشر، التي لا يمكن التخلّي عنها، أي بقاء أوروبا الشرقيّة منطقة عازلة لروسيا إذا أمكن، مع السيطرة التامة على المثلث الجغرافي والمكوّن من روسيا الفيدراليّة وبيلاروسيا وأوكرانيا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو تخيّلنا قوّة مهاجمة لروسيا، من شرق أوكرانيا، تقوم بما قامت به قوّة «فاغنر» خلال تمرّدها وسيرها باتجاه الكرملين ومن دون مقاومة تذكر، فماذا سيكون عليه الأمن القومي الروسيّ؟ تجسّد هذا السيناريو الكارثي خلال الحرب العالميّة الثانية مع الغزو الألماني لروسيا عبر أوكرانيا، ومن الشرق الأوكراني (مدينتا أزيوم وخاركيف).

التعثّر الروسيّ و«الناتو»

مع الحرب في أوكرانيا الآن، شعرت أوروبا بأن الخطر أصبح على الأبواب، فتجمعت من جديد، تحت مبدأ «الأمن من ضمن القطيع»، أي مزيد من الأعضاء إلى حلف «الناتو»، يعني المزيد من القوّة الرادعة لروسيا.

أعادت الحرب الأوكرانيّة الولايات المتحدة إلى أوروبا، بدور طليعي حتى أهمّ من مرحلة الحرب الباردة. وتحقّقت السيناريوهات السيّئة مع روسيا، لكن بدل سيناريو الحرب على الأرض الألمانيّة مع الاتحاد السوفياتي (وهي حرب كان يمكن أن تصبح نووية)، وقعت الحرب اليوم في أوكرانيا التي تشكّل اليوم رأس السهم الغربيّ، والأميركيّ بالتحديد، ضد روسيا. فتوسّع الناتو (31 دولة)، وبدل عودة الحلف إلى مرحلة التسعينات كما طلب الرئيس بوتين باعتبار ذلك شرطاً لعدم الهجوم على أوكرانيا، أي التخلّي عن كلّ أوروبا الشرقيّة، ها هو الناتو يزيد حدوده المتاخمة لروسيا من 1200 كلم إلى 2500 كلم بعد انضمام فنلندا.

فتعزّز الناتو، وبدأت الدول الأوروبيّة تضع الصراع الجيوسياسي قبل الاقتصاد.

الرئيسان الأميركي والأوكراني اليوم (أ.ف.ب)

في التحليل... السويد وفنلندا

يعطي انضمام السويد، بعد فنلندا، مزيداً من القوّة لحلف الناتو، علماً بأن الجيش الفنلندي يُعد الأهم في هذه المعادلة. فهو جيش حديث، مُجهّز بأحدث الأسلحة، خاصة المدفعيّة. ويمكن حشد الجيش الفنلندي بسرعة كبيرة وبأعداد كبيرة أيضاً. وقد يمكن القول إن للجيش الفنلندي دولة بدل قول العكس. يزيد انضمام فنلندا جبهة تزيد على 1300 كلم مع روسيا، الأمر الذي يُعقّد مهمّة الجيش الروسي الذي هو أصلاً يعاني من النقص بالعديد والعتاد في حربه على أوكرانيا. وأخيراً وليس آخراً، يملك الجيش الفنلندي في ذاكرته الجماعيّة، تجربة دمويّة ومهمّة مع الاتحاد السوفياتي في حرب الشتاء عام 1939، خلال حكم جوزف ستالين.

أما السويد فتعطي إلى جانب الجيش الحديث الذي تملكه، والتكنولوجيا الحربيّة، كما الصناعات العسكريّة لحلف الناتو، هذا العمق الاستراتيجي لفنلندا. كما تعطي الإطلالة البحريّة لحلف الناتو على بحر البلطيق، وبحر الشمال بطول 3218 كلم، مما يعني إضافة القدرة البحريّة العسكريّة السويديّة (387 قطعة بحريّة، ضمنها 4 غواصات وغيرها من القطع البحرية)، هذا بالإضافة إلى موقع الجزيرة السويدية غوتلاند التي تتحكّم بوسط بحر البلطيق، كذلك الأمر تحكّم السويد (إلى جانب الدنمارك) بممرّ بحر البلطيق إلى بحر الشمال. أيضاً، بكلام آخر، مع انضمام السويد، قد يمكن القول إن بحر البلطيق قد أصبح بحرية للناتو، باستثناء الشاطئ الروسي، وكاليننغراد.

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... رابح من قمة «الناتو» (أ.ف.ب)

يُعد الرئيس التركي إردوغان الرابح الأكبر من خلال الموافقة على انضمام السويد. فهو ظهّر نفسه على أنه الرقم الصعب؛ هو مع الناتو لكنه يشتري السلاح من روسيا، هو مع روسيا في اتفاق تصدير القمح، لكنه يبيع السلاح لأوكرانيا. يضع الفيتو على انضمام السويد، لكنه يوافق لقاء ثمن معقول «إف-16» مثلا. يُثبّت نفسه لاعباً من ضمن الحلف عندما يتوافق الأمر مع مصالح تركيا، ومع مصالحه الخاصة في الداخل التركيّ. لكنه يذهب إلى القوقاز للعب ورقة الطورانيّة. كما يذهب إلى المتوسّط لإعادة ترسيم الحدود مع كلّ من اليونان وقبرص.

أما انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو اليوم أو غداً فهو أمر مستحيل لأسباب عدّة؛ أهمّها: لا تزال تخوض أوكرانيا حرباً ضروساً مع روسيا، ولا يمكن تفعيل البند الخامس في معاهدة الحلف، لأن الأمر يعني حرباً مباشرة بين الحلف وروسيا. وحتى لو توقّفت الحرب غداً، لكن دون اتفاق سياسيّ، فالانضمام لن يحصل أيضاً، وذلك لأن عودة الحرب أمر محتمل، مما يعني الحرب المباشرة أيضاً لحلف الناتو مع روسيا. إذاً، الأمر الممكن والمحتمل هو اتّباع النموذج الإسرائيليّ. يرتكز النموذج الإسرائيلي على التعهد بالدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا بغض النظر عمّن يحكم البيت الأبيض، الأمر الذي يضمن لأوكرانيا استمراريّة الدعم ضد روسيا وفي كل المجالات.


مقالات ذات صلة

تقرير: مرشح ترمب لمنصب وزير الدفاع يهاجم الأمم المتحدة و«الناتو» ويحث على تجاهل اتفاقيات جنيف

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يدلي بتصريح قبل الانتخابات مع مقدم البرامج في «فوكس نيوز» بيت هيغسيث الذي رشحه لمنصب وزير الدفاع (رويترز)

تقرير: مرشح ترمب لمنصب وزير الدفاع يهاجم الأمم المتحدة و«الناتو» ويحث على تجاهل اتفاقيات جنيف

استعرضت «الغارديان» البريطانية وجهات نظر بيت هيغسيث، مرشح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لمنصب وزير الدفاع، تجاه كثير من التحالفات الأميركية الرئيسة

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا المرشح المؤيّد لروسيا كالين جورجيسكو يتحدث للإعلام بعدما ترشح بوصفه مستقلاً للانتخابات الرئاسية في بوخارست 21 أكتوبر 2024 (أ.ب)

رومانيا: مفاجأة روسية في الانتخابات الرئاسية

تُعد نتيجة الانتخابات بمثابة زلزال سياسي في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 19 مليون نسمة، وبقي إلى الآن في منأى عن المواقف القومية على عكس المجر أو سلوفاكيا.

«الشرق الأوسط» (بوخارست)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يتحدث خلال لقاء تلفزيوني (رويترز)

لمن سينصت ترمب... روبيو أم ماسك؟

قال موقع «بولتيكو» إن كبار المسؤولين الأوروبيين المجتمعين في هاليفاكس للأمن الدولي قلقون بشأن الأشخاص في الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جانب من التجارب الروسية على إطلاق صواريخ لمحاكاة رد نووي (أرشيفية - أ.ف.ب)

ما مدى احتمال استخدام روسيا أسلحتها النووية؟

تتبادل الولايات المتحدة وروسيا معلومات بشأن صواريخهما النووية طويلة المدى الاستراتيجية بموجب معاهدة «ستارت» الجديدة التي سينتهي العمل بها عام 2026

«الشرق الأوسط» (لندن)

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)
أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)
TT

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)
أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)

اختار الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا رسمياً، الاثنين، المستشار أولاف شولتس مرشحاً له للانتخابات المبكرة المقررة في فبراير (شباط) على رغم تراجع شعبيته إلى مستويات غير مسبوقة بعد انهيار ائتلافه الحكومي.

وقال مصدر مقرب من الحزب اليساري الوسطي لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إن قيادته عبّرت «بالإجماع» عن تأييدها شولتس. وسيصادق أعضاء الحزب على الترشيح خلال مؤتمر في 11 يناير (كانون الثاني).

وكان شولتس (66 عاماً) قد أعلن رغبته في الترشح عن حزبه بعد انهيار ائتلافه الحكومي مع حزب الخضر والليبراليين في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني)، وواجه ضغوطاً داخل حزبه لترك منصبه لوزير الدفاع بوريس بيستوريوس الذي يتمتع بشعبية.

وزير الدفاع بوريس بيستوريوس الذي يتمتع بشعبية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (أ.ف.ب)

وقرر الاشتراكيون الديمقراطيون دعم أولاف شولتس رغم عدم تحسن حظوظ الحزب، الذي تظهر استطلاعات الرأي حصوله على نحو 15 في المائة فقط من نوايا التصويت.

وحصل ائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي المعارض المحافظ على أكثر من ضعف هذه النسبة (33 في المائة)، كما يتقدم «حزب البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف على حزب شولتس حاصداً 18 في المائة من نوايا التصويت.

وكتبت مجلة «دير شبيغل» الألمانية أن أولاف شولتس هو «على الأرجح المرشح الأكثر ضعفاً وأقل شخصية مناسبة لتولي منصب المستشار رشحها الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الإطلاق».

انهار الائتلاف الحكومي الألماني بزعامة شولتس، الذي تولى السلطة منذ نهاية عام 2021، بعد إقالة المستشار وزير المال الليبرالي كريستيان ليندنر إثر خلافات عميقة حول الميزانية والسياسة الاقتصادية التي يجب اتباعها، في خضم معاناة أكبر اقتصاد في أوروبا من أزمة صناعية.

«مستشار السلام»

ويكرر شولتس الهادئ الطباع قناعته بقيادة حزبه إلى النصر مرة أخرى، مذكراً بفوزه في انتخابات عام 2021 بخلاف كل التوقعات؛ إذ استفاد إلى حد كبير من انقسامات في المعسكر المحافظ.

المستشار أولاف شولتس ووزير الدفاع بوريس بيستوريوس بعد إعلان فوز الأول بترشيح الحزب ببرلين الاثنين (رويترز)

وتتمثل استراتيجيته هذه المرة، في تقديم نفسه على أنه رجل ضبط النفس في الدعم العسكري لأوكرانيا على أمل الاستفادة من النزعة إلى السلام المتجذرة لدى الألمان منذ الفظائع النازية، ومن أصوات المؤيدين لروسيا.

وأشار استطلاع حديث أجراه التلفزيون العام «آي آر دي» ARD، إلى أن 61 في المائة ممن شملهم يؤيدون قرار شولتس بعدم تزويد أوكرانيا بصواريخ «توروس» القادرة على ضرب عمق الأراضي الروسية.

ويتناقض هذا الموقف مع موقف حلفاء ألمانيا الرئيسين، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

وفي السياق نفسه، أثار الاتصال الهاتفي الذي أجراه شولتس مؤخراً مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الاستياء خصوصاً في كييف.

كما اتهمته المعارضة في ألمانيا، بالمساهمة في الـ«دعاية» الروسية وبالقيام بمناورة انتخابية تقدمه على أنه «مستشار السلام» قبل انتخابات خطيرة.

«خبرة كبيرة»

ولا يخفي المحافظون ارتياحهم لترشيح المستشار. وقال النائب ماتياس ميدلبرغ إن القرار «جيد بالنسبة لنا»، مضيفاً أن «بيستوريوس كان سيسبب إزعاجاً أكبر لائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي» المعارض المحافظ.

لكن أظهر شولتس مرات عدة قدرته على تحدي التوقعات، وهو سياسي مخضرم شغل منصب رئيس بلدية مدينة هامبورغ (شمال)، ونائب المستشارة أنجيلا ميركل (2005 - 2021) في حكومتها الأخيرة متولياً حقيبة المال.

وفي 2021، فاز من خلال تقديم نفسه على أنه الوريث الحقيقي للمستشارة المحافظة.

وينوي هذه المرة أيضاً أن يطمئن الناخبين من خلال تجربته، في خضم سياق جيوسياسي عالمي متوتر وغارق في المجهول بعد انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة.

وشددت رئيسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ساسكيا إسكين في تصريحات للإذاعة البافارية، الاثنين، على أن شولتس يتمتع بـ«خبرة كبيرة جداً، وبقدرة على المناورة، لا سيما على المستوى الدولي».