فرنسا منقسمة حول حلول أزمة الضواحي

التكلفة الأولية للأضرار بلغت مليار يورو... واليمين يدعو إلى تحميل المسؤولية للأهالي

قوات مكافحة الشغب بفرنسا خلال مظاهرة ضد الشرطة في مرسيليا في 1 يوليو (أ.ف.ب)
قوات مكافحة الشغب بفرنسا خلال مظاهرة ضد الشرطة في مرسيليا في 1 يوليو (أ.ف.ب)
TT

فرنسا منقسمة حول حلول أزمة الضواحي

قوات مكافحة الشغب بفرنسا خلال مظاهرة ضد الشرطة في مرسيليا في 1 يوليو (أ.ف.ب)
قوات مكافحة الشغب بفرنسا خلال مظاهرة ضد الشرطة في مرسيليا في 1 يوليو (أ.ف.ب)

ليلة «هادئة» أخرى عرفتها فرنسا، الأربعاء، تراجعت فيها، إلى حد كبير، أعمال الشغب وإحراق السيارات وأوعية القمامة والتعرض للمباني العامة والخاصة والمتاجر. كذلك، تراجعت موجة الاعتقالات التي عرفتها المدن الفرنسية خلال 6 ليالٍ؛ حيث لم يتم القبض إلا على 16 شخصاً، بينهم 6 في باريس العاصمة. والثابت أن القبضة الأمنية التي عززها نشر 45 ألف رجل شرطة ودرك ووحدات خاصة أسهمت إلى حد كبير في خفض الاشتباكات بينها وبين المشاغبين وإعادة الهدوء حتى إلى الأحياء الشعبية «الصعبة» في ضواحي المدن الكبرى، مثل باريس ومرسيليا وليون وتولوز وغيرها، إلى حد أن أياً من عناصر الأمن لم يصب بأذى خلال الليلة المنقضية.

واللافت، بحسب الإحصائيات التي أذاعتها وزارة الداخلية صباح الأربعاء، أن نحو ثلث الموقوفين في الأيام الأخيرة «من مجموع 3625 شخصاً» هم من القاصرين. وقد مثل منهم 990 مراهقاً أمام القاضي، وصدرت أحكام متفاوتة بالسجن ضد 380 قاصراً. وهذا العدد مرشح بالطبع إلى الارتفاع. وسبق لوزير الداخلية جيرالد دارمانان أن قال: «من بين الموقوفين كثيرون لا تتجاوز أعمارهم 13 أو 14 عاماً». وخلاصة ما سبق يدفع إلى اعتبار أن توقعات الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي رأى أول من أمس أن «ذروة» الاحتجاجات، مع التزام جانب الحذر، قد تم تجاوزها، كانت مصيبة.

ورغم أن التركيز، بحسب ما أكدته رئيسة الحكومة إليزابيث بورن في البرلمان مساء الثلاثاء، ما زال يتمحور حول أولويات أربع؛ هي فرض الأمن من خلال استمرار تعبئة القوى الأمنية، والتعويل على تشدد القضاء إزاء المشاغبين، والنظر في دور ومسؤولية وسائل التواصل الاجتماعي، ودعوة الأسر لتحمل مسؤولياتها، فإن الدولة الفرنسية أخذت تنظر في كيفية معالجة الأسباب التي أوصلت البلاد إلى ما يشبه حالة من التمرد واسعة الانتشار.

وفتح الرئيس ماكرون الباب أمام ذلك عندما وعد 220 رئيس بلدية دعاهم إلى قصر الإليزيه، الثلاثاء، بالتوصل إلى «حلول جذرية» لموضوع العنف والشغب.

البحث عن حلول جذرية

ما فهم من الكلام الرئاسي أن الحكومة لن تكتفي بـ«الحل الأمني»، بل ستسعى لمعالجة الداء من الجذور، أي من خلال برامج اجتماعية واقتصادية وسكنية وثقافية في الأحياء الشعبية التي تعاني البطالة والفقر وتجارة المخدرات والعنف اليومي وغياب فرص العمل وندرة مؤسسات الدولة، التي تشمل بين سكانها نسبة مرتفعة من المهاجرين، ما حوّل بعضها إلى «غيتوات» أو مثل ما يزعم اليمين واليمين المتطرف، إلى مناطق «خارجة عن الجمهورية».

اجتمع ماكرون برؤساء البلديات في قصر الإليزيه في 4 يوليو (أ.ف.ب)

وهذه البرامج تحتاج إلى تمويل، في حين تجاوزت ديون الدولة الفرنسية سقف 3000 مليار يورو. من هنا، فإن وزير الاقتصاد والمال، برونو لومير، سارع خلال جولة قام بها مصحوباً بوزيرة الدولة لشؤون المؤسسات الصغرى والمتوسطة، إلى تأكيد أنه من العبث اعتبار أن «إعادة النظام إلى البلاد يمرّ من خلال تخريب حسابات الدولة». وأضاف لومير القادم من صفوف اليمين: «لا أعتقد أبداً أن خطة جديدة لمساعدة الضواحي هي الحل «للعنف والفوضى»، إذ إننا قد فعلنا الكثير لهذه الأحياء «الشعبية» من خلال توفير الدعم الاجتماعي والعمالة واجتذاب الشركات». أما الحل الحقيقي بالنسبة لوزير الاقتصاد، فيتمثل في «التشدد» و«القبض على مثيري الشغب» وإنزال «عقوبات مثالية» بحقهم وسياسة «صفر تساهل» إزاء من يهدد النظام العام. وباختصار، فإن لومير الذي يحلم بخلافة إليزابيث بورن في رئاسة الحكومة وخلافة ماكرون في رئاسة الجمهورية، يتبنى سياسة يمينية مائة في المائة وهي سياسة لم تمنع حراك «السترات الصفراء» ولا أعمال شغب دامت 3 أسابيع في عام 2005، عقب حادثة أودت بحياة مراهقين في ضاحية سين سان دوني، كانا يحاولان الإفلات من رجال الشرطة.

حلول اليمين

حقيقة الأمر أن اليمين الفرنسي، داخل الحكومة وخارجها، لا ينظر إلى الأحداث إلا بعين واحدة. والدليل الدامغ على ذلك ما صدر عن إريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي الذي يجهد في استعادة الأصوات التي تركته والتحقت بحزب «التجمع الوطني» الذي تتزعمه المرشحة الرئاسية السابقة والنائبة مارين لو بن. سيوتي يقترح حلولاً «جذرية»، إذ يرى أنه يتعين على الجمهورية «تحييد المشاغبين الذين تقدر أعدادهم بآلاف عدة»، ويشكلون تهديداً بالنسبة إليها.

سيدة تبكي خلال «تجمع وطني» في ضاحية بيرسان التي شهدت أعمال شغب في 3 يوليو (رويترز)

وسبق سيوتي الرئيس ماكرون باقتراح فرض غرامات مالية وأحكام جزائية على العائلات التي يشارك قاصرون من أبنائها في أعمال عنف وشغب، وحرمانهم من المساعدات الاجتماعية التي يتلقونها من الدولة. كذلك، يدعو إلى نزع الجنسية الفرنسية عن البالغين، مزدوجي الجنسية، في حال إدانتهم بالمشاركة في أعمال عنف. وفي السياق عينه، يدعو اليمين إلى وقف العمل بالقانون الذي يتيح الحصول على الجنسية الفرنسية في سن 18 عاماً لمن ولد في فرنسا وأدين لمشاركته في أعمال شغب. وسبق لليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف أن دعا ماكرون إلى فرض حالة الطوارئ ومنع التجول، وما زال يمارس ضغوطاً عليه لدفعه إلى سياسات أكثر تشدداً.

ولأن اليمين يرى أن سياسة متشددة تعني مزيداً من السجناء، فإنه يضغط على الحكومة لتضمين مشروع قانون يخص القضاء بنداً إضافياً ينص على توفير 3 آلاف خلية إضافية في السجون بحلول عام 2027. ويشكّل الدعم المطلق للقوى الأمنية ونفي، وأحياناً إنكار، أي تجاوزات ترتكبها، ركناً أساسياً في رؤية اليمين السياسية بجناحيه المعتدل والمتطرف.

لكن ياسين بوزروع، محامي عائلة الشاب القاصر نائل مرزوق الذي قتلته رصاصة رجل شرطة في مدينة نانتير صباح 27 يونيو (حزيران)، ما أثار موجة العنف والشغب، يرى الأمور بشكل آخر. وفي حديث لصحيفة «لو موند» نشر في عدد الأربعاء، أكّد المحامي المذكور أن المشكلة الحقيقية في فرنسا «لا تتناول فقط أداء الشرطة، بل أيضاً أداء العدالة». وأضاف بوزروع: «طالما أن القضاء يحمي الشرطة بشكل فاضح، فلا شيء يدفع الشرطة لكي تغير تصرفاتها. وعملياً، طالما أن هناك حصانة قضائية ممنوحة للشرطة، فمن الطبيعي أن تتزايد التجاوزات التي ترتكبها».

تجدر الإشارة إلى أن نائل مرزوق قتل لأنه رفض الانصياع لأوامر رجل شرطة لدى تدقيق مروري في مدينة نانتير، طلب منه إطفاء محرك سيارته والنزول منها. وبينت صور فيديو ملتقطة أن الشرطي أطلق النار على المراهق من مسافة قريبة للغاية.

فاتورة الشغب

ثمة مسألة رئيسية تتناول تكلفة الأضرار التي تسببت بها أعمال الشغب والسرقة والنهب والحرائق، والجهة التي سترسو عليها مهمة دفع الفاتورة. وللتذكير، فإن أسبوعاً من العنف أفضى إلى إحراق 6 آلاف سيارة، بينما أُحرق أو تضرر 1105 مبانٍ عامة وخاصة، بينما لحقت أضرار بـ243 مدرسة، منها أحرق تماماً ومنها بشكل جزئي، وتعرض 269 مقراً للشرطة والدرك لهجمات أسفرت عن خسائر كبيرة.

تعرضت محال تجارية للاعتداء بروبية شمال فرنسا في 30 يونيو (أ.ف.ب)

كذلك، لم تسلم من الأضرار مكاتب البريد ولا آلات سحب وصرف الأموال. وأكد وزير الاقتصاد أن 1000 مخزن ومطعم ومقهى تضررت. ومن بين 200 متجر للمواد الغذائية، ثمة 30 منها احترقت تماماً. ولم تسلم 20 صالة رياضية، و60 مخزناً متخصصاً، من التخريب والسرقة. وأفادت فيدرالية البنوك الفرنسية بأن 370 فرعاً مصرفياً، تم استهدافها؛ منها 70 في المائة في منطقة إيل دو فرانس «أي باريس وضواحيها القريبة والبعيدة». يضاف إلى ما سبق الخسائر التي ضربت قطاع النقل والقطاع الفندقي الذي شهد موجة من إلغاء الحجوزات.

وبانتظار توافر مسح شامل للخسائر، فإن رئيس هيئة أرباب العمل قدرها بنحو مليار يورو، أي ما يساوي 4 أضعاف الخسائر التي مُني بها الاقتصاد الفرنسي في عام 2005، بعد 3 أسابيع من الشغب الذي بقي محصوراً في منطقة «إيل دو فرانس». أما حراك «السترات الصفراء» بين عامي 2018 و2019، فإنه شهد بالتأكيد أعمال عنف. إلا أنه لم يصل إلى الدرجة التي وصل إليها في الأيام الأخيرة، وقد نجحت وقتها المؤسسات في حماية نفسها من التخريب.

عبء التعويض

سُئل برونو روتايو، رئيس مجموعة اليمين في مجلس الشيوخ الفرنسي عن الجهة التي يفترض أن تتحمل عبء التعويض. وجاء رده قاطعاً، إذ أكد أن الفرنسيين «يعاقبون مرتين: المرة الأولى عندما دفعوا لبناء هذه الإنشاءات التي أحرقها المتوحشون، والمرة الثانية لإعادة بنائها»، مضيفاً أن فرنسا «الشريفة الصامتة سئمت من أن يطلب منها كل مرة أن تدفع لفرنسا المشاغبين الذين يعمدون لإحراق مقار الخدمات العامة في أحيائهم».

رجل إطفاء يخمد نيران سيارة محترقة في نانتير عقب مواجهات في 29 يونيو (أ.ف.ب)

لا شك أن هذا الموضوع سيكون مادة للجدل في الأيام والأسابيع المقبلة. ولم يتأخر ماكرون في مطالبة الحكومة بتقديم مشروع «قانون طارئ» لتسريع إعادة بناء ما احترق؛ خصوصاً المباني والمقار الرسمية. كذلك، طلب ماكرون من وزير الاقتصاد الاجتماع بالقطاعات التي تضررت، وأن يوفر لها الدعم الممكن لجهة تأجيل دفع المتوجبات الاجتماعية المطلوبة منها للصناديق المعنية، فضلاً عن حثّ شركات التأمين التي هي في الصف الأمامي في موضوع التعويضات على الإسراع في بتّ طلبات المتضررين الذين منحوا فترة 30 يوماً لتلقي طلبات التعويض، بينما المهلة المعمول بها عادة لا تتجاوز الأيام الخمسة. كذلك، فإن فاليري بيكريس، رئيسة منطقة إيل دو فرانس، أعلنت تقديم 20 مليون يورو من أجل إعادة تأهيل ما تضرر في منطقتها. والشيء نفسه، ولكن بشكل أكثر تواضعاً، فإن منطقة «الشرق الكبرى» أعلنت توفير 5 ملايين يورو لإعادة تشغيل وسائل النقل العام المتضررة.

ومن الواضح اليوم أن شركات التأمين ستكون المساهم الأكبر في التعويض عن الأضرار سواء أكانت الخاصة أم العامة. بيد أن أصواتاً من أوساط اليمين لا تتردد في المطالبة بضرورة أن يتحمل المسؤولون عن الأضرار تبعات أعمالهم، بحيث تقع على عاتقهم مسؤولية توفير الأموال الضرورية. وقال النائب اليميني لوران جاكوبيلي إن الفرنسيين «لم يعودوا راغبين في دفع أموال للذين يكرهون الجمهورية، وإنه يتعين العمل بمبدأ مَن يخرب عليه أن يصلح». وأضاف النائب المذكور أن «سياسة المدينة» التي طبقتها الحكومات المتعاقبة كلفت الفرنسيين 90 مليار يورو لمساعدة أبناء المناطق الشعبية في المدارس ولبناء مستوصفات وملاعب ومراكز ثقافية وترفيهية في المناطق التي يقال إنها مهمشة، والحال أن المشاغبين لا يترددون في إحراقها.

من جانبه، أعلن ماتيو فاليه، مسؤول نقابي في جهاز الشرطة، أنه «يتعين على السلطات أن تلزم المدانين بارتكاب أعمال الحرق والنهب بدفع تكلفة إصلاح الأضرار. وإذا كانوا غير قادرين على ذلك، فيتعين إلزامهم بالعمل حتى يوفروا ما يتعين عليهم توفيره». ومن المقترحات الأخرى، حرمان أهل المشاغبين من التقديمات الاجتماعية تعويضاً عن الأضرار التي يكون قد تسبب بها أبناؤهم.

ما يقال ويكتب اليوم ليس إلا أول الغيث. وفي أي حال، فإن أرقام تكلفة الأضرار ليست إلا تقريبية وبالتالي، فإن القادم من الأيام سيوفر الأرقام الحقيقية التي ينتظر كثيرون أن تكون أكثر ارتفاعاً مما هو متداول اليوم.


مقالات ذات صلة

باكستان تغلق الطرق الرئيسية وتنشر قوات الأمن لمنع احتجاجات معيشية

آسيا قوات الأمن تعتقل ناشطين من «حزب الجماعة الإسلامية» في أثناء احتجاجهم على التضخم بإسلام آباد في 26 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

باكستان تغلق الطرق الرئيسية وتنشر قوات الأمن لمنع احتجاجات معيشية

أغلقت السلطات الباكستانية، الجمعة، الطرق الرئيسية المؤدية إلى العاصمة إسلام آباد، ونشرت آلافاً من قوات الأمن لمنع الاحتجاجات ضد زيادة التضخم.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
آسيا مسيرة في بنغلاديش اليوم للاحتجاج على عمليات القتل العشوائية والاعتقال الجماعي في دكا (أ.ف.ب)

شرطة بنغلاديش تعتقل قادة الحركة الطلابية

اعتقلت الشرطة في بنغلاديش زعيم الحركة الرئيسية التي تنظّم الاحتجاجات المناهضة لحصص توزيع الوظائف الحكومية في بنغلاديش ناهد إسلام واثنين آخرين من مستشفى في دكا.

«الشرق الأوسط» (دكا)
الولايات المتحدة​ اتساع المظاهرات المؤيدة لغزة في الجامعات الأميركية

مظاهرات ضد برنامج تلفزيوني نظم احتجاجاً مزيفاً بجامعة أميركية

اجتمعت مجموعة من المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في حرم كلية «كوينز»، احتجاجاً على تصوير مشهد درامي وهمي نظمته دراما بوليسية تُبث على قناة «CBS».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
آسيا الشيخة حسينة باكية بين مرافقيها لدى تفقدها محطة المترو التي لحقت بها أضرار كبيرة خلال الاحتجاجات في دكا (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة تطالب بالتحقيق في «قمع» المظاهرات ببنغلاديش

دعت الأمم المتحدة الخميس بنغلاديش إلى الكشف فوراً عن تفاصيل قمع المظاهرات الأسبوع الماضي وسط تقارير عن «أعمال عنف مروعة».

«الشرق الأوسط» (دكا)
الولايات المتحدة​ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لدى إلقاء خطابه أمام الكونغرس في واشنطن أمس (أ.ف.ب)

إلقاء يرقات داخل فندق نتنياهو في واشنطن (فيديو)

أطلق ناشطون مؤيدون لفلسطين آلاف اليرقات وديدان الطحين والصراصير داخل فندق ووترغيت في واشنطن.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

أوروبا ترفض دواء لألزهايمر وافقت عليه أميركا بسبب أعراضه الجانبية

المقر الرئيسي للشركة الأميركية «بايوجين» (Biogen) في ماساتشوستس التي ساهمت في ابتكار دواء «ليكيمبي» مع شركة «إيساي» اليابانية (أ.ب)
المقر الرئيسي للشركة الأميركية «بايوجين» (Biogen) في ماساتشوستس التي ساهمت في ابتكار دواء «ليكيمبي» مع شركة «إيساي» اليابانية (أ.ب)
TT

أوروبا ترفض دواء لألزهايمر وافقت عليه أميركا بسبب أعراضه الجانبية

المقر الرئيسي للشركة الأميركية «بايوجين» (Biogen) في ماساتشوستس التي ساهمت في ابتكار دواء «ليكيمبي» مع شركة «إيساي» اليابانية (أ.ب)
المقر الرئيسي للشركة الأميركية «بايوجين» (Biogen) في ماساتشوستس التي ساهمت في ابتكار دواء «ليكيمبي» مع شركة «إيساي» اليابانية (أ.ب)

اتخذت وكالة الأدوية الأوروبية أمس (الجمعة) قراراً برفض طرح دواء لداء ألزهايمر في الاتحاد الأوروبي يهدف إلى الحد من التدهور المعرفي للمرضى؛ إذ اعتبرت أن هذا العقار المرتقب جداً غير آمن.

ورأت الوكالة الناظمة أن النتائج التي يحققها الدواء المطروح باسم «ليكيمبي» (Leqembi) والمُجاز له في الولايات المتحدة «غير متوازنة مع خطر الآثار الجانبية الخطيرة المرتبطة به»، وأبرزها «احتمال حصول نزف في أدمغة المرضى».

وتوقع الخبراء «خيبة أمل» لدى عدد كبير من المرضى من هذا الرأي الذي تأخذ به عادة المفوضية الأوروبية صاحبة القرار النهائي.

وأكدت شركة الصناعات الدوائية اليابانية «إيساي» (Eisai) التي ابتكرت «ليكيمبي» بالتعاون مع الأميركية «بايوجين» (Biogen) أنها ستتقدم بطلب لـ«إعادة النظر في رأي» وكالة الأدوية الأوروبية، معربةً عن «خيبة أمل شديدة».

ونقل بيان عن المديرة السريرية في «إيساي» لين كرايمر قولها إن «ثمة حاجة كبيرة لا تتم تلبيتها لخيارات علاجية جديدة ومبتكرة تستهدف السبب الكامن وراء تطور المرض».

ورخّصت إدارة الغذاء والدواء الأميركية في مايو (أيار) 2023 لعقار «ليكيمبي» الذي يشكل ليكانيماب (lecanemab) مكوّنة للمرضى الذين لم يصلوا إلى مرحلة متقدمة من المرض. وأشارت «إيساي» إلى أنه يباع أيضاً في اليابان والصين.

وفشل الباحثون طوال عقود في إحراز تقدّم فعلي في محاربة مرض ألزهايمر الذي يصيب عشرات الملايين من الناس في كل أنحاء العالم.

ويعاني نحو ثمانية ملايين شخص في الاتحاد الأوروبي شكلاً من أشكال الخرف، ويمثل مرض ألزهايمر أكثر من نصف هذه الحالات، وفقاً لموقع «ألزهايمر أوروبا». ولا يتوافر إلى اليوم أي دواء يحقق الشفاء.

أعراض جانبية مثيرة للجدل

ولم يتوصل الطب بعد إلى فهم وافٍ للسبب الدقيق لمرض ألزهايمر، إلّا أن مراقبة أدمغة المرضى تُظهر وجود لويحات أميلويد تتشكل حول الخلايا العصبية وتدمرها على المدى البعيد.

ويؤدي ذلك إلى فقدان الذاكرة الذي يُعدّ أبرز تجليات المرض. وفي المراحل الأخيرة منه، لا يعود المرضى قادرين على القيام بالمهام والأنشطة الحياتية اليومية أو على الانخراط في أحاديث.

ويتيح دواء «ليكيمبي» الذي يؤخَذ عن طريق الوريد مرة كل أسبوعين، تقليل عدد لويحات الأميلويد، وفق ما أظهرت التجارب السريرية. لكن الرأي السلبي لوكالة الأدوية الأوروبية لاحظ «بشكل خاص الظهور المتكرر في الصور الطبية لتشوهات مرتبطة بالأميلويد (...) من بينها تورم ونزف محتمل في أدمغة المرضى».

ورأت اختصاصية التنكس العصبي بجامعة أدنبره البروفيسورة تارا سبايرز جونز أن هذا الرأي الذي أصدرته وكالة الأدوية الأوروبية «سيكون مخيباً لآمال الكثيرين». لكنّها اعتبرت في بيان أن «ثمة أسباباً تدعو إلى الاستمرار في التفاؤل»؛ إذ أظهر ليكانيماب أنه «من الممكن إبطاء تطور المرض». وأضافت: «نحن الآن بحاجة إلى تكثيف جهودنا لاكتشاف أدوية جديدة وأكثر أماناً»، حسبما أفاد تقرير لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

«فوارق ثقافية»

أما الأستاذ في مستشفى «يو سي إل» الجامعي في لندن بارت دي ستروبر، فرأى أن قرار وكالة الأدوية الأوروبية «مؤسف ولكنه ليس غير متوقع». واعتبر أن «هذه النتيجة تُظهر التباين الثقافي الكبير في الطريقة التي يُنظر بها إلى المخاطر والابتكار في مختلف المناطق»، ملاحظاً أن «أوروبا تميل إلى النظر لنصف الكوب الفارغ، في حين تنظر دول كالولايات المتحدة والصين واليابان إلى النصف الممتلئ».

وأعطت إدارة الغذاء والدواء الأميركية الضوء الأخضر مطلع شهر يوليو (تموز) الفائت لطرح دواء جديد آخر لمرض ألزهايمر توصلت إليه شركة «إلاي ليلي» الأميركية يتوقع أن يبطئ تطور المرض.

وباتت القرارات المتعلقة بالأدوية ضد مرض ألزهايمر تخضع لمراقبة من كثب منذ الجدل في شأن «أدوهيلم» (Aduhelm) الذي جرت الموافقة عليه في يونيو (حزيران) 2021، وابتكرته أيضاً شركتا «إيساي» و«بايوجين» ويستهدف لويحات الأميلويد كذلك.

وكان «أدوهيلم» أول دواء معتمد في الولايات المتحدة ضد المرض منذ عام 2003. إلا أنّ هذا العلاج أحدث جدلاً كبيراً؛ إذ عارضت وكالة الأدوية الأميركية رأي لجنة خبراء اعتبروا أن العلاج لم يثبت فاعليته بشكل كافٍ خلال التجارب السريرية. وقيّدت الوكالة في وقت لاحق استخدامه، حاصرة إياه بالأشخاص الذين يعانون حالات خفيفة من المرض.

وأكّد تقرير للكونغرس الأميركي أخيراً أنّ سعر الدواء مرتفع (56 ألف دولار في السنة)، في حين أعلن نظام التأمين الصحي الفيدرالي «ميديكير» المخصص لكبار السن، أنه لن يغطي تكاليفه إلا إذا أُخذ في إطار تجارب سريرية.