النخبة الروسية تعتقد أن تهديدات موسكو النووية المتكررة أصبحت لا تخيف أحداً... لكن بايدن يعدّها «حقيقية»

من وجهة نظر بعض المحللين الغربيين فإن نهج بوتين ينتقص من مصداقية «خطوط حمراء» رسمها مرات عدة ولم ينفذها

موسكو وواشنطن لا يمكنهما نشر أكثر من 1550 رأساً نووياً استراتيجياً (رويترز)
موسكو وواشنطن لا يمكنهما نشر أكثر من 1550 رأساً نووياً استراتيجياً (رويترز)
TT

النخبة الروسية تعتقد أن تهديدات موسكو النووية المتكررة أصبحت لا تخيف أحداً... لكن بايدن يعدّها «حقيقية»

موسكو وواشنطن لا يمكنهما نشر أكثر من 1550 رأساً نووياً استراتيجياً (رويترز)
موسكو وواشنطن لا يمكنهما نشر أكثر من 1550 رأساً نووياً استراتيجياً (رويترز)

مع تكرار القصف الأوكراني لمناطق جنوب غرب روسيا ووصول طائراتها المسيرة المسلحة إلى العاصمة الروسية نفسها، يتزايد القلق بين صفوف النخبة السياسية الروسية من تآكل قدرة بلادهم كقوة عظمى على تهديد العالم باستخدام ترسانتها النووية، إلى درجة جعلت أعداءها يتجاهلون هذه التهديدات.

لكن قال الرئيس الأمريكي جو بايدن: إن تهديد نظيره الروسي فلاديمير بوتين باستخدام أسلحة نووية تكتيكية «حقيقي»، وذلك بعد أيام من تنديده بنشر روسيا مثل هذه الأسلحة في بيلاروسيا. ووصف بايدن إعلان بوتين أن روسيا نشرت أول أسلحتها النووية التكتيكية في روسيا البيضاء، بأنه «تصرف غير مسؤول تماماً».

وقال بايدن في كاليفورنيا: «عندما كنت هنا قبل نحو عامين قلت إنني قلق من جفاف نهر كولورادو، نظر إلي الجميع وكأنني مجنون». وأضاف: «ونظروا إليّ النظرة نفسها عندما قلت إنني قلق بشأن استخدام بوتين أسلحة نووية تكتيكية. هذا حقيقي».

وكان رئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو قال الأسبوع الماضي: إن بلاده بدأت تسلُّم الأسلحة النووية التكتيكية الروسية، والتي قال: إن بعضها أقوى ثلاث مرات من القنابل الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناجازاكي في 1945.

وهذه هي المرة الأولى التي تحرك فيها روسيا مثل هذا العتاد - وهو أسلحة نووية أقصر مدى وأقل قوة يمكن استخدامها في ساحة المعركة - خارج حدودها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وتراقب الولايات المتحدة وحلفاؤها وكذلك الصين نشر القوات الروسية هذه الأسلحة من كثب، وحذّروا مراراً من استخدام الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا.

يقول سيرجي كاراجانوف، الرئيس الفخري لمجلس سياسات الدفاع والخارجية الروسي، في مجلة «بروفيل» الأسبوعية الروسية: «يجب استعادة الخوف من التصعيد النووي». ويقول الصحافي والكاتب والناشر الروسي ليونيد دافيدوفيتش برشيدسكي، في تحليل نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء: إن كاراجانوف كان يعدّ قبل بدء الحرب الروسية ضد أوكرانيا أحد الأصوات الذكية في دوائر الحكم الروسية، لكنه ليس الأول الذي انزلق إلى هذه الحالة الهستيرية منذ بدء غزو أوكرانيا من بين المفكرين السياسيين الروس الذين كانوا يحظون بالاحترام في وقت من الأوقات.

بوتين مع حليفه رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو الذي وقّع مع موسكو اتفاقية نقل أسلحة نووية روسية تكتيكية إلى بلاده (إ.ب.أ)

ففي سبتمبر (أيلول) 2022 قال فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة «غلوبال بوليتيكس» الروسية، وديمتري ترينين، المدير السابق لمركز «كارنيغي موسكو» للأبحاث: إن الغرب يبدو أنه لم يعد يخشى من قوة الردع النووي لروسيا، وتحدثا عن كيفية استعادة هذا الخوف وكيفية إقناع الأمريكيين بأن بلادهم يمكن أن تكون هدفاً لهجمات نووية روسية.

ولكن مقال كاراجانوف ذهب إلى أبعد من ذلك وقال: إنه إذا تجاهل الغرب تحذيرات روسيا المتزايدة الخطورة، مثل دعوة علنية لجميع الروس و«ذوي النوايا الطيبة» لمغادرة مناطق معينة في الدول الغربية، فإنه يمكن لروسيا أن تقصف مجموعة من الأهداف في عدد من الدول. وهذا خيار مروع من الناحية الأخلاقية، فهو يقول «نحن نستخدم أسلحة الرب، ونحكم على أنفسنا بأضرار روحية جسيمة. لكن إذا لم نفعل ذلك، فقد تموت روسيا، وعلاوة على ذلك، يمكن أن تنتهي الحضارة الإنسانية».

وفي منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي في الأسبوع الماضي، وعندما حاول مدير الجلسة النقاشية الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكي يتحدث عن تصوره لاستخدام الأسلحة النووية، حاول بوتين تجنب الأسئلة، وعلق على ذلك بقوله: «ما الذي يحاول الحصول عليه مني أو إجباري على قوله؟ هل يريد إخافة العالم كله؟ لكن لماذا نريد إخافة العالم؟».

كانت رسالة تصريحات بوتين في المنتدى هي أن هدف الأسلحة النووية هو التصدي للمخاطر الوجودية، وروسيا لا تواجه هذه المخاطر في هذه اللحظة. كما أعلن أيضاً عن نشر «أول شحنات نووية» في بيلاروس مع اعتزامه إرسال المزيد منها.

أول غواصة نووية روسية بنيت عام 1957 خلال عرضها هذا الأسبوع في المتحف البحري في سانت بطرسبرغ (أ.ب)

ويقول برشيدسكي، الكاتب في قسم الرأي في وكالة «بلومبرغ»: إن هذه الإشارات المتباينة من جانب بوتين ربما تستهدف إحياء مخاوف عصر الحرب الباردة. وقبل بدء غزو أوكرانيا في أواخر فبراير (شباط) من العام الماضي، كان الهدف من هذه المخاوف هو منع الغرب من مساعدة أوكرانيا عسكرياً، لكي تحتفظ روسيا بتفوقها في أرض المعركة. وقبل موافقة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب على إرسال الصواريخ المضادة للدبابات جافلين إلى أوكرانيا، أشار الكرملين إلى أنه سيعدّ هذه الخطوة تصعيدية، ولكن بعد بدء الغزو تم استخدام هذه الصواريخ لمنع وصول المدرعات الروسية إلى العاصمة الأوكرانية كييف، ومناطق شمال أوكرانيا والتي كانت خطاً أحمر سرعان ما تم نسيانه.

مقاتلات روسية من طراز «ميغ - 31» محمّلة بصواريخ تحمل رؤوساً نووية (أ.ب)

وتم تجاوز الخط الأحمر التالي عندما زودت أمريكا روسيا بمنصات إطلاق صواريخ «هيمارس» لمواجهة تفوق روسيا في المدفعية متوسطة المدى. ثم تم تجاوز خط آخر عندما سلم حلف شمال الأطلسي (ناتو) دبابات وعربات مدرعة أخرى لأوكرانيا.

في الوقت نفسه، ما زالت القدرات النيرانية طويلة المدى نقطة تفوق لروسيا، حيث تستطيع الصواريخ الروسية الوصول إلى أي مكان في أوكرانيا، كما أثبتت المروحيات الروسية طراز «كا 52» (التمساح) بشكل خاص قدرة كبيرة في التصدي للهجوم الأوكراني المضاد الحالي، في حين تلحق الطائرات الروسية المقاتلة خسائر كبيرة بأوكرانيا باستخدام القنابل والصواريخ الموجهة.

ويضيف برشيدسكي أن بوتين يواصل لعب دور الضحية ويشكو من أن الغرب خدعه عام 2015 عندما توسط في اتفاقات مينسك التي لم يتم تنفيذها لتنظيم العلاقات بين أوكرانيا وروسيا.

وفي لقائه مع وفد قادة أفريقيا للسلام في الأسبوع الماضي، نسج الرئيس الروسي قصة جديدة عن الازدواجية، وقال: إن الأوكرانيين وافقوا في مارس (آذار) 2022 على اتفاق سلام كان سيعزز الحياد العسكري لأوكرانيا، لكنهم تراجعوا عنه استجابة لرغبة الدول الغربية، بعد أن سحبت روسيا قواتها من محيط كييف كبادرة حسن نية.

فحتى إذا كانت هذه القصة حقيقية، فإنها تعكس فقط سوء تقديره. فالروس يتحدثون طوال الوقت عن المظالم، لكنهم لا يضعون خطوطاً حمراء محددة. ومن وجهة نظر بعض المحللين الغربيين، فإن نهج بوتين ينتقص من مصداقية التهديدات النووية الروسية.

ويقول لورين سوكين، من مدرسة لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية في تحليل استند إلى دراسة التهديدات النووية لكوريا الشمالية: «دراستي تقول إن التهديدات تصبح ذات مصداقية عالية عندما ترتبط بشروط محددة مثل تصرفات معينة على الأرض في الحرب الروسية الأوكرانية».

جانب من عرض عسكري روسي لأسلحة تحمل رؤوساً نووية في ذكرى الانتصار على النازية (رويترز)

بمعنى آخر، فإنه لكي يتم أخذ التهديدات بجدية يجب أن ترتبط بخط أحمر محدد بأقصى صورة ممكنة. ورغم ذلك، فهناك جانب سلبي عند وضع خط أحمر محدد من جانب الكرملين. فإذا قال بوضوح: إن إرسال نوع معين من الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا سيدفع موسكو لاستخدام السلاح النووي، فإن مدرسة الفكر التحليلي في الغرب التي تعتقد أن روسيا لن تستخدم السلاح النووي يمكن أن تكون لها الغلبة.

لكن بوتين يحرص على استمرار غموض رسالته بشأن إمكانية استخدام السلاح النووي. في المقابل هناك الكثيرون من المعلقين مثل كاراجانوف الذين يظهرون على شاشة التلفزيون الرسمي الروسي، الذين يهددون بانتظام بتحويل واشنطن إلى كومة من الرماد النووي. هؤلاء المتحدثون والكتاب متعددو اللغات يتم استخدامهم دائماً لإرسال الرسائل إلى الغرب في ظل انقطاع خطوط الاتصالات الدبلوماسية تقريباً. كما أنهم يمثلون واحدة من قنوات اتصال قليلة متبقية لتوجيه رسائل أعنف من رسائل بوتين.

أخيراً، فإنه على كل من أوكرانيا والغرب التعامل مع العقيدة النووية الروسية بظاهرها، وهي أن روسيا لن تستخدم سلاحها النووي إلا إذا واجهت تهديداً وجودياً، مثل الغزو الشامل، أو الاستيلاء على أراضيها المعترف بها دولياً. وبغض النظر عما يقوله الكرملين أو أفراد النخبة الروسية، فإن جهود أوكرانيا لتحرير الأراضي التي احتلتها روسيا في بداية الغزو لا تمثل تهديداً وجودياً لا لروسيا ولا لبوتين نفسه.


مقالات ذات صلة

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

تحليل إخباري الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

ستثير الوثيقة التي صدرت الجمعة عن البيت الأبيض استياء الحلفاء التقليديين لواشنطن في أوروبا، لما تتضمّنه من انتقادات لاذعة لسياسات قادة «القارة العجوز».

أنطوان الحاج
أوروبا يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)

«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أمس (الجمعة)، أن الدرع الواقية في محطة تشرنوبل النووية بأوكرانيا لم تعد بإمكانها أداء وظيفتها الرئيسية

«الشرق الأوسط» (فيينا)
الولايات المتحدة​ المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف (أ.ب)

الولايات المتحدة وأوكرانيا تؤكدان أن أي تقدم نحو السلام يعتمد على روسيا

يعقد مفاوضون أوكرانيون ومبعوثو الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يوماً ثالثاً من المحادثات في ميامي السبت، مؤكدين أن إحراز أي تقدم نحو السلام يعتمد على روسيا.

«الشرق الأوسط» (ميامي)
أوروبا المستشار الألماني ميرتس مع الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء الكندي كارني (رويترز)

قلق أوروبي من «تسرع» أميركي لإنهاء الحرب في أوكرانيا

كشفت تقارير مضمون مكالمة حسّاسة جمعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الأوكراني

إيلي يوسف (واشنطن)
أوروبا مبنى المحكمة الدولية في لاهاي (رويترز)

المحكمة الدولية: عقد جلسات استماع في غياب بوتين ونتنياهو وارد

اعتبر نائب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن عقد جلسات استماع في غياب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وارد.

«الشرق الأوسط» (لاهاي)

البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
TT

البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)

أكد البابا ليو الرابع عشر أمام سفراء جدد، اليوم (السبت)، أن الفاتيكان لن يقف مكتوف الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان في أنحاء العالم.

وهذه من أوضح التصريحات التي تكشف حتى الآن عن فلسفة البابا الأميركي، الذي انتُخب على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم في مايو (أيار) عقب وفاة البابا فرنسيس.

وقال البابا أمام مجموعة السفراء الـ13: «أود أن أؤكد مجدداً أن الكرسي الرسولي لن يقف مكتوف الأيدي أمام التفاوتات الجسيمة، والظلم وانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية في مجتمعنا العالمي الذي يزداد انقساماً وعرضة للصراعات».

و«الكرسي الرسولي» هو الهيئة الحاكمة للكنيسة التي يقودها البابا، ويمتلك سلطة روحية على 1.4 مليار كاثوليكي.

وأكد البابا أن «دبلوماسية الكرسي الرسولي تتجه باستمرار نحو خدمة خير البشرية، لا سيما من خلال مناشدة الضمائر، والإصغاء لأصوات الفقراء، أو الذين يعيشون في أوضاع هشّة، أو الذين يُدفعون إلى هامش المجتمع».

وبتركيزه على عدم المساواة، يبني ليو على أولويات سلفه البابا فرنسيس، الذي دافع عن حقوق المهاجرين وغيرهم من الفئات المستضعفة خلال حبريته.

وانتقد ليو، الذي أمضى قرابة 20 عاماً مبشّراً في البيرو، معاملة المهاجرين «غير المحترمة» في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب.

والسفراء الجدد المعتمدون الذين استقبلهم الفاتيكان السبت، من أوزبكستان ومولدوفا والبحرين وسريلانكا وباكستان وليبيريا وتايلاند وليسوتو وجنوب أفريقيا وفيجي وميكرونيزيا ولاتفيا وفنلندا.


استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
TT

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)

لم يكن مفاجئاً مضمون استراتيجية إدارة الرئيس دونالد ترمب للأمن القومي الأميركي التي تُصوّر الحلفاء الأوروبيين بوصفهم ضعفاء، وتسعى إلى إعادة تأكيد هيمنة الولايات المتحدة في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

ستثير الوثيقة التي صدرت الجمعة 5 ديسمبر (كانون الأول) 2025 عن البيت الأبيض استياء الحلفاء التقليديين لواشنطن في أوروبا، لما تتضمّنه من انتقادات لاذعة لسياسات قادة «القارة العجوز» في شأنَي الهجرة، وحرية التعبير، إذ تُشير إلى أنهم يواجهون «احتمال امّحاء حضاريّ»، وتشكّك في مدى موثوقيتهم بأنهم شركاء للولايات المتحدة على المدى الطويل.

وتُجدّد الوثيقة، بلغة لا تخلو من البرودة، والنبرة التصادمية، تأكيد فلسفة ترمب القائمة على مبدأ «أميركا أولاً» الذي يعني عملياً عدم التدخل في الخارج، وتُعيد تقييم عقود من الشراكات الاستراتيجية، وتضع المصالح الأميركية فوق كل اعتبار.

هذه أول استراتيجية للأمن القومي -وهي وثيقة يُلزم القانون الإدارة بإصدارها- منذ عودة الرئيس الجمهوري إلى السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) 2025. وتمثل سطورها قطيعة واضحة مع النهج الذي اعتمدته إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، والتي سعت إلى إعادة تنشيط التحالفات بعد أن كانت قد تزعزعت خلال الولاية الأولى لترمب، وإلى كبح جماح روسيا الناهضة اقتصادياً بفضل صادراتها من النفط، والغاز.

*دور متراجع

سعى ترمب منذ عودته إلى البيت الأبيض إلى التوسّط لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ نحو أربع سنوات في أوكرانيا، وهو هدف تؤكد الاستراتيجية الجديدة أنه يدخل ضمن المصالح الحيوية لواشنطن الراغبة في تحسين علاقاتها مع موسكو بعد سنوات من التعامل مع روسيا بوصفها دولة منبوذة دولياً، وبالتالي يغدو إنهاء الحرب مصلحة أميركية أساسية من أجل «إعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا».

إطفائي يتعامل مع نيران أشعلها هجوم جوي روسي على العاصمة الأوكرانية كييف (أ.ف.ب)

وتنتقد الوثيقة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم هذا العام الذي يطوي أيامه الأخيرة أمام قساوة إصرار ترمب على التخلص من أعباء الحرب الروسية-الأوكرانية، بينما يواجهون تحديات اقتصادية داخلية، إضافة إلى أزمة وجودية، و«حضارية»، وفق واشنطن.

الواقع أنه ليس مستغرباً أن يضمر «حجم» أوروبا في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة. فالتاريخ يُظهر أن الاستراتيجية الكبرى الأميركية التي كانت في الغالب تتمحور على أوروبا لا بد أن تعكس تراجع خطر هيمنة قوة واحدة على القارة القديمة منذ مطلع الألفية، وظهور مراكز أخرى للنفوذ الجيوسياسي، والرهانات الجيواقتصادية. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى إعطاء مناطق أخرى من العالم أهمية متزايدة. فبينما ركّز الرئيس جورج بوش الابن على الشرق الأوسط، أعلن كل رئيس جاء بعده -حتى وإن لم يُنفَّذ الأمر بشكل كامل- سياسات تهدف إلى «التحوّل نحو آسيا». وفي عهد ترمب، أضيفت أميركا اللاتينية إلى آسيا، وما قاله الرجل عن بنما، وما يفعله حيال فنزويلا، وبدرجة أقل نحو كولومبيا خير دليل على ذلك.

*جيل أميركي مختلف

تُظهر التحوّلات الديموغرافية في الولايات المتحدة أنّ «جيل الحرب الباردة»، الذي كان يميل تلقائياً بشيء من الحنين إلى «الأطلسية»، والجسور الثقافية الممتدة إلى الجزر البريطانية، واليابسة الأوروبية، يقترب من «التقاعد»، ويحلّ محلّه جيلٌ أصغر سناً، وأكثر تنوّعاً من الناحية العرقية، ويعيد النظر في الدور الأميركي على مستوى العالم. ونظراً للحذر العميق الذي يعتمل في نفس ترمب حيال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، كان طبيعياً أن يعمد في ولايته الثانية إلى إنزال أوروبا درجات في سلّم الأولويات، ومعها «الناتو» الذي أُنشئ عام 1949 للوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، ومنعه من مدّ نفوذه إلى أوروبا الغربية. فالتفاهم مع موسكو بشأن أوروبا ومناطق أخرى من الكوكب أفضل من إنفاق الأموال على حماية أوروبا «الاتكالية».

مبنى بيرلايمونت حيث مقر المفوضية الأوروبية في العاصمة البلجيكية بروكسل (أ.ف.ب)

خالف هذا التوجه تمسّك جميع الرؤساء الذين تولّوا الحكم في واشنطن بعد الحرب الباردة بالموقع الرئيس لأوروبا في الاستراتيجية الأميركية. فقد كانت أوروبا تُعدّ سوقاً رئيسة للبضائع، والخدمات الأميركية (خصوصاً الدفاعية)، وكان يمكن للحلفاء الأوروبيين أن يشكّلوا قوة مضاعِفة للنفوذ الأميركي في مناطق أخرى من العالم. وفي المقابل، كانت روسيا تهديداً لأمن أوروبا، وللنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بما يشمل منطقة المحيط الهادئ، حيث تعمل موسكو على تعزيز مصالحها الخاصة، وتتماهى في مواقفها مع الصين.

*التحديات الثقيلة

جاء في وثيقة الاستراتيجية الأميركية أن «الركود الاقتصادي في أوروبا يقل أهمية عن الاحتمال الحقيقي والأكثر حدّة لحصول امّحاء حضاريّ».

وترى واشنطن أن أوروبا تضعف بسبب سياسات الهجرة التي تعتمدها، وتراجع معدلات الولادة، و«قمع حرية التعبير، وكبح المعارضة السياسية»، فضلاً عن «فقدان الهويات الوطنية، والثقة بالنفس».

تضيف الوثيقة: «إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن القارّة ستكون مختلفة تماماً في غضون 20 عاماً أو أقل. بالتالي، ليس من الواضح إطلاقاً ما إذا كانت بعض الدول الأوروبية ستملك اقتصادات وجيوشاً قوية بما يكفي لتبقى من الحلفاء الموثوقين (...). نحن نريد لأوروبا أن تبقى أوروبية، وأن تستعيد ثقتها الحضارية بنفسها».

إذا سلمنا بصحة هذا التصوّر، فإننا نستنتج فوراً أن على أوروبا أن تصدّ أو تلطّف تداعيات الخروج الأميركي المرجَّح من معمعة الحرب الروسية–الأوكرانية. فالقارة لا تملك القوة الكافية لرفد كييف بما يمكّنها من مواصلة الحرب، ومجاراة القوة العسكرية الروسية. ولا فائدة من رفع الإنفاق العسكري في دول أوروبية عديدة لإقامة توازن مستحيل مع القوة الروسية، في موازاة استنزاف اقتصادات متعثرة تعاني عجزاً هائلاً بـ«قيادة» ألمانيا التي يبلغ دينها العام 2.55 تريليون يورو، وهو ما يعادل نحو 62.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفرنسا (3.416 تريليون يورو، أي ما يعادل 115.8في المائة من الناتج المحلي).

لا شك في أنه يحق للاتحاد الأوروبي أن يشغل مقعداً إلى طاولة المفاوضات الجارية على قدم وساق بين واشنطن وموسكو لإنهاء الحرب في أوكرانيا التي تكتفي –رغم محاولات التجميل– بدور المتلقي. فالحرب مسرحها أوروبي، و«أهل الدار» معنيون بما يجري على أرضهم.

*التواصل أجدى من القطيعة

لن يتحقق المطلب الأوروبي إلا بإقامة خطوط اتصال بين بروكسل وموسكو، فبغير ذلك لا انخراط لأوروبا في صَوغ القرارات التي ستُتّخذ لإنهاء حرب أوكرانيا مع ما لذلك من انعكاسات على الأمن الأوروبي. وإن لم يحصل هذا الأمر فسيجد الأوروبيون أنفسهم يكتفون بردّ الفعل على تطوّرات تقودها واشنطن وموسكو، وبدرجة أقل كييف.

جنود من المشاة خلال تدريب عسكري فرنسي - بلجيكي مشترك في منطقة مفتوحة قرب بلدة سيسون بشمال شرقي فرنسا (أ.ف.ب)

أوروبا كبيرة، وغنية رغم العثرات الحالية، ومتقدمة تكنولوجياً. وهي تحتاج بالفعل إلى برنامج إعادة تسليح قوي يقنع موسكو -التي لا تريد حرباً مع أوروبا كما قال فلاديمير بوتين لكنها مستعدة لها– بالتفاوض الجدّي.

أما الورقة الثانية للإقناع فتكون بكسر الجمود بشأن الأصول الروسية المجمدة والمحتجَزة بموجب العقوبات التي أقرها الاتحاد الأوروبي على دفعات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فموسكو ستَنشد حلاً لتحرير أصولها الأوروبية التي تقدَّر قيمتها بـ210 مليارات دولار. أما الرأي الأوروبي القائل بضرورة استخدام هذه الأصول لدعم أوكرانيا، فمؤداه إطالة عمر الحرب، ووضع القارة في حالة مواجهة مع روسيا هي في غنى عنها.

ثمة من يقول إن الكرملين لا يفهم سوى لغة القوة، والبيت الأبيض لا يفهم سوى لغة الأعمال، وعلى أوروبا أن تتقن اللغتين. وثمة من يردّ على ذلك بالقول إن ما ورد عن البيت الأبيض صحيح، في حين أن ما ورد عن الكرملين مضلِّل.

ولعلّ الحقيقة أن كل هذه المعادلة لا ضرورة لها، وليس على أوروبا أن تتقن لغتين، بل عليها أن تُحسن إنجاب قادة حقيقيين يعرفون التاريخ ليضعوا رؤى لمستقبل يقيهم شرّ «الامّحاء الحضاري»، و«تلاشي الهويات»، فهل تتحقق «المعجزة»؟...


«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
TT

«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)

أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أمس (الجمعة)، أن الدرع الواقية في محطة تشرنوبل النووية بأوكرانيا، التي تم بناؤها لاحتواء المواد المشعة الناجمة عن كارثة 1986، لم تعد بإمكانها أداء وظيفتها الرئيسية للسلامة، بعد تعرضها لأضرار بسبب طائرة مسيرة، وهو ما اتهمت أوكرانيا روسيا بالمسؤولية عنه، بحسب «رويترز».

وقالت الوكالة إن عملية تفتيش الأسبوع الماضي لهيكل العزل الفولاذي الذي اكتمل في عام 2019، وجدت أن تأثير الطائرة المسيرة في فبراير (شباط)، أي بعد 3 سنوات من الصراع الروسي في أوكرانيا، أدى إلى تدهور الهيكل.

وقال رافائيل غروسي المدير العام للوكالة في بيان، إن «بعثة التفتيش أكدت أن (هيكل الحماية) فقد وظائف الأمان الأساسية، بما في ذلك القدرة على الاحتواء، ولكنها خلصت أيضاً إلى أنه لم يكن هناك أي ضرر دائم في هياكله الحاملة أو أنظمة المراقبة».

وأضاف غروسي أنه تم بالفعل إجراء إصلاحات «ولكن لا يزال الترميم الشامل ضرورياً لمنع مزيد من التدهور، وضمان السلامة النووية على المدى الطويل».

وذكرت الأمم المتحدة في 14 فبراير، أن السلطات الأوكرانية قالت إن طائرة مسيرة مزودة برأس حربي شديد الانفجار ضربت المحطة، وتسببت في نشوب حريق، وألحقت أضراراً بالكسوة الواقية حول المفاعل رقم 4 الذي دُمر في كارثة عام 1986.

وقالت السلطات الأوكرانية إن الطائرة المسيرة كانت روسية، ونفت موسكو أن تكون قد هاجمت المحطة.

وقالت الأمم المتحدة في فبراير، إن مستويات الإشعاع ظلت طبيعية ومستقرة، ولم ترد تقارير عن تسرب إشعاعي.

وتسبب انفجار تشرنوبل عام 1986 في انتشار الإشعاع بجميع أنحاء أوروبا، ودفع السلطات السوفياتية إلى حشد أعداد هائلة من الأفراد والمعدات للتعامل مع الحادث. وتم إغلاق آخر مفاعل يعمل بالمحطة في عام 2000.

واحتلت روسيا المحطة والمنطقة المحيطة بها لأكثر من شهر في الأسابيع الأولى من غزوها لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث حاولت قواتها في البداية التقدم نحو العاصمة الأوكرانية كييف.

وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أجرت التفتيش في الوقت نفسه الذي أجرت فيه مسحاً على مستوى البلاد للأضرار التي لحقت بمحطات الكهرباء الفرعية، بسبب الحرب التي دامت نحو 4 سنوات بين أوكرانيا وروسيا.