ثمة خيوط كثيرة تجمع الانقلابين اللذين حصلا في النيجر يوم 26 يوليو (تموز) وفي الغابون، صبيحة الأربعاء، أولها يتمثل في أن الطرف المحرض على الانقلاب كان في الحالتين الحرس الجمهوري أي الجهاز المولج المحافظة على النظام والسهر على راحة رئيسه. وفي الحالتين، تولى رئيسه قيادة المجلس العسكري المنبثق عن الحركة الانقلابية إضافة إلى رئيس الدولة. ففي حالة النيجر، عزل محمد بازوم واحتل مكانه الجنرال عبد الرحمن تياني. وفي حالة الغابون، أطيح بعلي بونغو ووضع في الإقامة الجبرية كما أحيل على التقاعد ليتربع الجنرال أوليغي نغيما بريس على مقعده الرئاسي. وفي الحالتين أيضا، نزلت الجماهير إلى الساحات والشوارع للتعبير عن دعمها للانقلابيين وعن تخلصها من أنظمة فاسدة فيما عمدت إلى إلقاء القبض على الوزراء والشخصيات النافذة في نيامي وليبرفيل وتوجيه اتهامات «ثقيلة» لها منها الخيانة العظمى والاحتيال والتزوير وتهريب المخدرات... بيد أن الغابون ليست النيجر رغم التشابه الكبير بينهما حيث البلدان كانا لعقود مستعمرتين فرنسيتين. وبعد استقلالهما، حافظت باريس على موقع مهيمن على السياسة وارتباط عملتيهما «الفرنك الأفريقي» بالاقتصاد الفرنسي. لكن، بعكس ما حصل في النيجر من مظاهرات معادية لفرنسا ومطالبة بسحب سفيرها وقواتها العسكرية المرابطة في البلاد، لم تشهد العاصمة الغابونية أو مدن البلاد الكبرى شيئاً مشابهاً، علما بأن الغابون تستضيف قاعدة بحرية أساسية للحضور العسكري الفرنسي في وسط جنوب أفريقيا.
بيد أن الفرق الأساسي عنوانه اختلاف ردود الفعل على انقلاب الغابون قياساً على التي أعقبت انقلاب النيجر المهددة بغزو عسكري لإعادة الرئيس المعزول إلى منصبه والرجوع إلى الانتظام المؤسساتي. صحيح أن التنديد بالانقلاب كان عاماً وشاملاً وكذلك الدعوة إلى استعادة حكم المؤسسات والمحافظة على سلامة رئيس الجمهورية وعائلته، لكن أحدا لم يلجأ إلى لغة متشددة بمن فيها فرنسا التي لم يصدر عنها سوى تصريح واحد على لسان أوليفيه فيران، الناطق باسم الحكومة والذي تميز بالغموض. وقال فيران، عقب اجتماع مجلس الوزراء ظهر الأربعاء، إن باريس «تدين الانقلاب العسكري الجاري حاليا» وتذكر بـ«تمسكها بالمسارات الانتخابية الحرة والشفافة». والفقرة الثانية من تصريح فيران «حمالة أوجه»، إذ لم تشر مباشرة إلى الانتخابات الرئاسية في الغابون بل تحدثت بصفة عامة والسبب في ذلك الظروف التي أحاطت بهذه الانتخابات والشكوك في صدقية وصحة نتائجها. وهذه الإشكالية بالذات تلاحظ في العديد من ردود الفعل الغربية وكان أوضحها ما صدر صباح الخميس عن جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، إذ اعتبر أنه تصعب المقارنة بين الانقلابين من جهة، وذكر، من جهة أخرى، أن الانقلابيين تدخلوا مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات في ساعة متأخرة من الليل وفي ظروف مثيرة للشبهات. وجاء في حرفية تصريح لبوريل إلى القناة الإخبارية الأميركية «سي إن إن» أن «الانقلابات العسكرية ليست الحل بالطبع، لكن يجب ألا ننسى أنه في الغابون جرت انتخابات مليئة بالمخالفات». وأضاف المسؤول الأوروبي أن تصويتاً مزوراً يمكن اعتباره بمثابة «انقلاب مؤسساتي» مدني. وأوضح المسؤول الأوروبي أن الدبلوماسيين الأوروبيين يعملون من أجل التوسط في حل الأزمة في الغابون، وأنه ليست هناك خطط لإجلاء مواطنيهم، كما حدث في النيجر. ملاحظة بوريل تنسحب على العديد من الردود الدولية. فالأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، على لسان الناطق باسمه ستيافان دوجاريتش، بعد أن «أدان بشدة المحاولة الانقلابية»، أشار إلى «القلق الكبير» بشأن النتائج المعلنة للانتخابات «وسط معلومات تشير إلى انتهاكات خطيرة للحقوق الأساسية» للناخبين.
ويبدو رد الفعل الأميركي نسخة عن سابقه الأممي. إذ عبر ماثيو ميلر، الناطق باسم الخارجية الأميركية، عن «القلق بشأن غياب الشفافية والتقارير التي تحدثت عن مخالفات أحاطت بالانتخابات». وإلى ما سبق، يمكن إضافة ردود فعل مشابهة من ألمانيا وبريطانيا... والجهة الوحيدة التي تميز خطابها بالتشدد تتمثل في الاتحاد الأفريقي. وأمس، اجتمع مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد من أجل «دراسة التطورات الطارئة في الغابون» وفق بيان صادر عنه. ويمثل مجلس الاتحاد السلطة التنفيذية. وفي المحصلة، بدا من الصعب للدبلوماسية الدولية الدفاع عن نظام احتكرته عائلة الرئيس علي بونغو منذ 56 عاماً وتميزت عهودها بديمقراطية شكلية ينخرها التزوير الانتخابي والفساد المعمم. ومنذ أن ورث الرئاسة عن أبيه في العام 2009، عجز علي بونغو عن الفوز في انتخابات حرة ونزيهة. ففي انتخابات العام 2009 كما في العام 2016، لجأ بونغو والمحيطون به إلى عمليات تزوير واسعة مقرونة بضغوط على الحريات وعلى المعارضين. وما كان رد الفعل الأولي الداعم للانقلابيين الذي خرج إلى العلن في ليبرفيل وبور جونتيل وغيرهما من المدن الغابونية إلا ابتهاجا بالتخلص من نظام احتكرته عائلة بونغو وتوارثته.
الرجل القوي الجديد في الغابون سارع الانقلابيون إلى تعيين الجنرال بريس أوليغي نغيما بالإجماع، ليل الأربعاء - الخميس، رئيسا لـ«لجنة انتقال واستعادة المؤسسات» وأيضا رئيساً للمرحلة الانتقالية أي الرئيس الفعلي لدولة ما بعد الانقلاب. وسارع العسكر للإعلان عن أن مرحلة انتقالية بدأت وبختامها ستعود السلطة للمدنيين. بيد أن بيانهم لم يحدد لا طبيعة المرحلة الانتقالية -خصوصا أن البيان الانقلابي أفتى بحل كافة مؤسسات الدولة-، ولا كيف ستحكم الغابون خلالها ولا مدتها. كذلك، لا شيء يؤشر لما ستكون عليه العلاقة بين الانقلابيين والقوى المعارضة وخصوصا المرشح الرئاسي ألبيرت أوندو أوسا الذي حصل وفق النتائج المعلنة على 30 في المائة، فيما حصل علي بونغو على ما يزيد على 67 في المائة من الأصوات. ويطالب الأول بالعودة إلى النتائج الفعلية للانتخابات وإعلانه فائزاً بها، الأمر الذي يستبعده المراقبون في الوقت الحاضر.
وأعلن الانقلابيون أمس أن الجنرال أوليغي نغيما سوف يقسم اليمين أمام المجلس الدستوري كرئيس للمرحلة الانتقالية. وقال الناطق العسكري باسم لجنة الانتقال واستعادة المؤسسات أن أوليغي نغيما قرر إنشاء المؤسسات الخاصة بالمرحلة الانتقالية «تدريجيا»، وأن الغابون «سوف تحترم كافة التزاماتها الخارجية والداخلية»، في بادرة هدفها كما يبدو طمأنة الأطراف الخارجية ودفعها إلى الامتناع عن اتخاذ مواقف عدائية من النظام الجديد الذي يحافظ على مصالحها ويلتزم بتعهداته. المفارقة في انقلاب الغابون أن رجله القوي كان يعد حتى حصول الانقلاب أحد أعمدته الرئيسية بفضل المنصب الذي كان يتولاه ومهمته حماية النظام. وتربط الجنرال أوليغي نغيما علاقة قرابة بالرئيس المخلوع إذ إنه زوج ابنة عمه. ورغم أهمية الحجج التي شدد عليها الانقلابيون لإعطاء شرعية لتحركهم، فإن عدة أسئلة أخذت تطرح، وأولها الأسباب التي جعلت الجنرال بريس أوليغي نغيما ينقلب على أولياء نعمته. وفي هذا السياق تؤكد مصادر فرنسية، وفق ما نقلته صحيفة «لو موند» المستقلة، أن الجنرال المذكور كان على خلاف مع سيلفيا، زوجة الرئيس المخلوع ومع ابنه نور الدين بونغو الذي كان يحضّره والده، الذي يعاني من مشاكل صحية خطيرة، لتوريثه الرئاسة. ونقلت المصادر للصحيفة الفرنسية أن الجنرال أوليغي نغيما كان «وفياً للرئيس ولكن ليس لابنه وزوجته اللذين كانا يحكمان البلاد بالوكالة عنه». وثمة من يؤكد أن ترشح علي بونغو لولاية ثالثة رغم حالته غرضه الوحيد ضمان انتقال الرئاسة من الأب إلى الابن. يضاف إلى ما سبق أن عاملا آخر قد يكون قد دفع إلى الانقلاب، وهو أن عائلة بونغو التي تحكم الغابون منذ العام 1965 تنتمي إلى إتنية «تيكيه» التي تعد أقلية في البلاد فيما إتنية «فانغ» التي ينتمي إليها مرشح المعارضة تعد الأكبر عددا وهي خارج جنة الحكم. ونقل عن الجنرال أوليغي نغيما البالغ من العمر 48 عاما والذي ينتمي من جهة أبيه إلى إتنية «فانغ» وإلى إتنية «تيكيه» من جهة أمه، أن القوات المسلحة في البلاد «ليست مهمتها إقصاء الأكثرية السوسيولوجية (أي إتنية فانغ) عن حكم البلاد. وكان الجنرال المذكور قد أبعد لعدة سنوات عن دائرة السلطة الأضيق، وقد أعيد إليها في العام 2019 مديراً للمخابرات ثم رئيسا للحرس الجمهوري.
ثمة مسألة تطرح، في سياق كل ما حصل، وتتناول علاقة الانقلابيين بفرنسا التي لم يصدر عنها سوى تعليق واحد يختلف جذرياً عن موقفها من انقلاب النيجر المتسم بالتشدد ودفع المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا إلى التدخل العسكري. فالمعروف أن باريس وليبرفيل وقعتا اتفاقيات عسكرية وأمنية منذ العام 1960، تاريخ استقلال الغابون، ثم جددتها في العام 2011 وأن الرئيس ماكرون زار ليبرفيل في مارس (آذار) العام الماضي، وأن قاعدة بحرية عسكرية فرنسية رئيسية موجودة في الغابون.
ولكن الصحيح أيضا أن العلاقة بين العاصمتين فترت بعض الشيء في السنوات الأخيرة، وأن بونغو الابن سعى لتنويع علاقاته بالانفتاح على الصين والانضمام إلى الكومنولث رغم أن الفرنسية هي اللغة الرسمية للبلاد. وكان لافتا أن الرئيس المعزول، في شريط الفيديو الذي بثه الأربعاء وفيه يطلب من أصدقائه «رفع الصوت» أو «إحداث ضجيج»، تكلم بالإنجليزية وليس بالفرنسية. ثم إن عدداً من المراقبين في باريس ينظرون إلى الانقلاب العسكري الذي كان لولبه الجنرال أوليغي نغيما، على أنه جاء «استباقاً» لحراك شعبي ربما كان سيطيح بكل أركان نظام بونغو، بمن فيهم أقرب العسكريين إليه ومن ضمنهم أوليغي نغيما وجماعته.