بدا الضوء ساطعاً بشكل قاسٍ. أما المكان، فلا يزيد على قاعة أفراح في ضاحية شمال غربي لندن. وبمجرد دخول المغنية الأفغانية، نغمة، مرتديةً شالاً مطرّزاً بخيوط ذهبية، انفجر الجمهور بالتصفيق والمشاعر الجياشة.
في نظر معجبيها، تجسّد نغمة كل ما هو عزيز عليهم: الجمال، والموسيقى، وحب الوطن.
واليوم، في عقدها السابع، تحظى نغمة بمحبة أجيال من الأفغان في الداخل والخارج؛ لمشاركتها آلامهم وحنينهم على مدار أكثر من 4 عقود من الحرب. ويُشكِّل هذا الألم جزءاً من حياتها هي الأخرى، كما قالت خلف الكواليس خلال استراحة في حفلها الصيفي في لندن.

وأوضحت: «قصة حياتي مأساوية حقاً. كنا 5 إخوة و3 أخوات. جميع إخوتي قُتلوا في أثناء خدمتهم بالجيش. وأُصيبت أخت لي في كابل، ولم تنجُ سوى أخت واحدة فقط»، وفق تقرير لـ«نيويورك تايمز»، الأحد.
ومع ذلك، تبدو نغمة في العلن مفعمةً بالحيوية، ورغم التزامها التكتم بخصوص سنها، يُعتقد أنها في أوائل الستينات. وحتى يومنا هذا، لا تزال تضحك بسهولة وتبتسم ببريق لافت. وتواصل تقديم الجولات والحفلات، وتسجيل الأغاني الشعبية والمعاصرة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
ومع ذلك، لم تعد تغني في أفغانستان منذ أن استولت حركة «طالبان» على كابل عام 2021، وفرضها حظراً على الموسيقى، ومنعها النساء من الظهور في المجال العام.
من جهتهم، عبَّر بعض المعجبين في الحفل عن عدم احترامهم للسياسيين الأفغان، منذ الانهيار المخزي للحكومة المدعومة من الولايات المتحدة قبل 4 سنوات، وسيطرة «طالبان» على مقاليد الحكم بالبلاد. وقال هؤلاء المعجبون إن الفنانين مثل نغمة، تحوّلوا إلى رموز ومناصرين للأفغان، مع اضطلاعهم بجمع التبرعات، لحساب ضحايا الزلزال الأخير، ومطالبة «طالبان» بإعادة فتح مدارس البنات.

وكانت المرة الأولى التي تتوجَّه فيها نغمة بمطالب إلى «طالبان» عام 2013، عندما كانت الجماعة لا تزال حركةً متمردةً تحارب الحكومة المدعومة من واشنطن. وطالبت الجماعةَ بأن تتوقف عن حرق المدارس، وغنَّت دون موسيقى في مقطع فيديو احتراماً لحظر «طالبان» الموسيقى. غنّت: «رجاءً لا تدمر مدرستي، أحتاج إلى التعليم، أنا فتاة أفغانية».
ومنذ ذلك الحين، شَدَتْ بكثير من الأغاني حول الموضوع نفسه، وتستعد اليوم لإطلاق أغنية جديدة، كما قالت. وأضافت: «لدي كثير من الرسائل لشعبي عبر الغناء».
من ناحية أخرى، هناك مَن ينتقدون نغمة، خصوصاً أنها كانت ضمن أعضاء فرقة وزارة الداخلية الموسيقية خلال السنوات الأخيرة من الحقبة الشيوعية في أوائل التسعينات، ما جعلها هدفاً للمجاهدين المناهضين للشيوعية.
وسادت شائعة تقول إنها اختُطفت من قبل أحد أمراء الحرب خلال الحرب الأهلية. ولأول مرة، تنفي نغمة صحة هذه الرواية، وتقول إنها مجرد شائعة هدفها تشويه سمعتها.
يذكر أن نغمة تغني بلغتَي الداري والبشتو، وهما اللغتان الرئيسيتان في البلاد. ورغم ذلك، فإنها تحظى بشعبية جارفة بين البشتون أكثر من غيرهم، داخل مجتمع أفغاني تعصف به انقسامات مريرة. وقد اتهمها بعض الموسيقيين بأنها متساهلة تجاه «طالبان» أو مهووسة بجمع المال، إلا أن شعبيتها تبقى حقيقةً لا جدال فيها.
من جهتها، قالت نادية نوري، التي فاجأت زوجها بتذاكر لحفل نغمة في لندن: «أستمع إليها منذ أكثر من 30 عاماً. وأحب أشعارها. إنها تغني من أجل الوطن ومن أجل النساء. لقد مهَّدت الطريق أمام كثير من الفنانات الشابات، وتحمَّلت الضرب والإهانة بسبب غنائها».
وفي ظل الثقافة الأفغانية شديدة المحافظة، كان دائماً من التحديات أن تسلك المرأة طريق الغناء؛ فإلى جانب الحظر الديني، كان يُنظَر إلى المغنيات نظرةً دونيةً في المجتمع، رغم التراث الموسيقي الثري في البلاد. ومع دخول أفغانستان في دوامة الحرب منذ الانقلاب الشيوعي في عام 1978 والاحتلال السوفياتي، أصبحت الموسيقى والمغنون أدوات في الصراعات الآيديولوجية بين اليساريِّين العلمانيِّين والمحافظِين الدينيِّين.
وتتذكَّر نغمة، التي فقدت والدها وهي في الـ7 أو الـ8 من عمرها، أنها كانت تتعرَّض للضرب من والدتها لإصرارها على مواصلة الغناء.
اكتشفت نغمة حبها للشعر والغناء في سنٍّ مبكرة. وكتبت أول قصيدة لها وهي في الـ13 من عمرها، وكانت من بين الطالبات المختارات في المدرسة لإلقاء القصائد وغناء الأناشيد في احتفالات اليوم الوطني.
وُلدت نغمة في مدينة قندهار جنوب أفغانستان، ونشأت باسم «شاه پري»، وهي واحدة من 8 أشقاء من زواج مختلط الأعراق. كان والدها طبيباً يتحدَّث الفارسية من شمال كابل، أُرسل للعمل في قندهار، وهناك تزوَّج والدتها، وهي بشتونية.
في سنِّ الـ16، انتقلت نغمة إلى كابل لتعيش مع عمها، وهناك تقدَّمت لاختبارات إذاعة أفغانستان، التي كانت آنذاك المركز الرئيسي للإبداع الموسيقي في البلاد، وبالفعل تم قبولها ضمن مجموعة الفنانين والشعراء العاملين في الإذاعة.
ويتذكَّر أحمد سرمست، مدير المعهد الوطني للموسيقى في أفغانستان، الذي يعمل حالياً في المنفى بالبرتغال، انضمام نغمة إلى الإذاعة في أواخر السبعينات. وقال: «لدى تسجيل صوتها وهي تشدو في الاستوديو، يبدو صوتها مثالياً».
اتخذت الاسم الفني «نغمة»، والذي يعني «اللحن»، وشكَّلت ثنائياً شهيراً مع الموسيقي والمغني منكل، الذي تزوَّجته في وقت لاحق. واشتهر كلاهما باسمه الفني المفرد فقط.
وقالت نغمة إن رصيدها الفني كان يتكوَّن من أغانٍ شعبية وأغانٍ رومانسية كتبها لها شعراء معاصرون. وأضافت: «في تلك الأيام، كان كل شيء يتمحور حول الحب».

يذكر أن الموسيقى ازدهرت بدعم من الحكومات الشيوعية المتعاقبة. وفي الوقت ذاته، جرى استغلال الفنانين بوصفهم أدوات دعائية من قبل القادة، ولإحياء الفعاليات الحكومية، وأداء الأغاني أمام جنود الجيش الأفغاني.
وتعرَّضت نغمة ومنكل للتهديد من قبل المجاهدين، الذين بدأوا حملة اغتيالات ضد الأشخاص المرتبطين بالحكومة في كابل.
في أوائل التسعينات، قُتلت أختها غُلبري، (17 عاماً) في منزلهما، إذ أُصيبت برصاصة في الرأس اخترقت وسادةً، في هجوم تقول نغمة إنه كان يستهدفها هي بالأساس. وقالت: «أعتقد أنهم قتلوها بسببي. لقد ذهبوا إلى منزلنا».
وبعد أيام قليلة من الحادث، سجَّلت نغمة واحدةً من أشهر أغانيها، بعنوان «الطيار الحبيب»، في أثناء وجودها في قمرة قيادة مروحية أفغانية. غنّت فيها: «يا صقر السماء الزرقاء، يا باز جبالنا، طِر، يا حبيبي، طِر».
إلا أنه في الفيديو المصوَّر للأغنية، ظهرت نغمة حزينةً، وكانت لا تزال في حداد على أختها. وقالت إن الحكومة أصرَّت على تسجيل الأغنية، لرفع معنويات جيش أفغانستان الذي كان ينهار في ذلك الوقت.
وشرحت: «كنا جزءاً من وزارة الداخلية، وكانت علينا إطاعتهم. إذا طلبوا منا أن نغني، فعلينا أن نغني».
بعد ذلك بوقت قصير، فرَّت من كابل مع أطفالها الـ4، وبدأت حياتها لاجئةً، تنقلت خلالها بين دبي وباكستان، ثم استقرَّت في الولايات المتحدة. وخلال رحلتها، انفصلت عن منكل، وتزوَّجت من محمد شريف، ابن القائد المجاهد الشهير محمد نبي. إلا أن هذا الزواج لم يدم، وتعيش نغمة حالياً مع أختها في مدينة ساكرامنتو.


