«الحرب» الكورية الجديدة تعيد إلى الأذهان ما جرى في 25 يونيو 1950

واشنطن وبكين وطوكيو تراقب عن كثبٍ مجريات الأزمة في انتظار ما ستتمخض عنه المعركة البرلمانية

مواطنون من سيول يسيرون بجوار دبابة للجيش يوم السبت 27 أكتوبر 1979 بعد إعلان الأحكام العرفية في أعقاب وفاة الرئيس بارك تشونغ هي (أ.ب)
مواطنون من سيول يسيرون بجوار دبابة للجيش يوم السبت 27 أكتوبر 1979 بعد إعلان الأحكام العرفية في أعقاب وفاة الرئيس بارك تشونغ هي (أ.ب)
TT
20

«الحرب» الكورية الجديدة تعيد إلى الأذهان ما جرى في 25 يونيو 1950

مواطنون من سيول يسيرون بجوار دبابة للجيش يوم السبت 27 أكتوبر 1979 بعد إعلان الأحكام العرفية في أعقاب وفاة الرئيس بارك تشونغ هي (أ.ب)
مواطنون من سيول يسيرون بجوار دبابة للجيش يوم السبت 27 أكتوبر 1979 بعد إعلان الأحكام العرفية في أعقاب وفاة الرئيس بارك تشونغ هي (أ.ب)

في 25 يونيو (حزيران) 1950 عَبَر 135 ألفاً من جنود الشمال خط العرض الوهمي 38 الذي يفصل بين شطري شبه الجزيرة الكورية، في عملية عسكرية خاطفة ومفاجئة، مدعومة من الاتحاد السوفياتي، تمكنت بعد ثلاثة أيام، ومن غير مقاومة تذكر، من السيطرة على سيول لتصبح في قبضة القائد الأعلى للجمهورية الشعبية كيم إيل سونغ الذي كان يطمح إلى توحيد الكوريتين تحت حكومة اشتراكية واحدة.

امرأة تحمل لافتة كُتب عليها: «يجب على يون سوك يول التنحي» خلال وقفة احتجاجية بالشموع ضد رئيس كوريا الجنوبية في سيول (أ.ف.ب)
امرأة تحمل لافتة كُتب عليها: «يجب على يون سوك يول التنحي» خلال وقفة احتجاجية بالشموع ضد رئيس كوريا الجنوبية في سيول (أ.ف.ب)

تلك العملية كانت الشرارة التي أطلقت الحرب الكورية، أول نزاع مسلح تواجهت فيه واشنطن وموسكو في بداية ما مكان يُعرف بالحرب الباردة. وبعد أن احتلت قوات الشمال العاصمة ومناطق واسعة من كوريا الجنوبية، قامت قوات الأمم المتحدة، تقودها الولايات المتحدة، باستعادة سيول، ثم بيونغيانغ، وأجبرت كيم وأعضاء حكومته على الهرب إلى الصين.

يوم الثلاثاء الفائت، أي بعد سبعين عاماً على تلك الواقعة، أقدم رئيس جمهورية كوريا الجنوبية يون سوك يول، المعروف بعدائه الشديد للشيوعية، على خطوة أعادت إلى الأذهان الحرب الدامية التي دارت بين الكوريتين، وتسببت في دمار هائل في جميع أنحاء البلاد، عندما أعلن «الأحكام العرفية» التي تمنحه صلاحيات مطلقة.

وكان المبرر الذي أعطاه يونغ لاتخاذ هذه الخطوة أن ثمة حاجة ملحّة إلى «استئصال القوى الغاشمة المناهضة للدولة والمؤيدة لكوريا الشمالية التي تقوّض حرية شعبنا». لكن لم تمض سوى ساعات قليلة على إعلانه تلك الخطوة، حتى كان الكوريون الجنوبيون يمارسون الحرية التي قال يون إنها معرضة للخطر، ويهتفون في مظاهرات حاشدة «الرئيس إلى السجن».

رجل يقرأ جريدة تفيد بإعلان الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول تراجعه عن الأحكام العرفية في سيول (إ.ب.أ)
رجل يقرأ جريدة تفيد بإعلان الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول تراجعه عن الأحكام العرفية في سيول (إ.ب.أ)

فجأة اصطخبت مياه البحيرة الكورية الجنوبية الهادئة، وعمّت الفوضى أرجاء سيول عندما حاصر المتظاهرون مبنى البرلمان، فيما كان النواب يتصادمون جسدياً مع قوات الأمن الخاصة المكلفة تطبيق الأحكام العرفية، ويعيدون إلى الذاكرة المشاجرات العنيفة التي كانت تشهدها الجمعية الوطنية، وما كتبه الصحافي غابريل غارسيا ماركيز قبل سبعين عاماً عندما وصف كيف قام نائب في البرلمان الكوري الجنوبي بنهش خد زميل له، في نص بعنوان: «عضّة مذهلة».

أحزاب المعارضة تتقدم بطلب لعزل الرئيس (رويترز)
أحزاب المعارضة تتقدم بطلب لعزل الرئيس (رويترز)

أدرك يون على الفور أنه لن يكون قادراً على مواجهة هذا المد الشعبي، خصوصاً بعد أن سارع البرلمان فجر الأربعاء إلى اعتماد قرار يطالب الرئيس بسحب قرار إعلان الأحكام العرفية، وتراجع إلى خط عرضه الوهمي 38، وألغى القرار وطلب من القوات الخاصة العودة إلى ثكناتها. لكن ذلك لم يكن كافياً، وقرر نواب المعارضة تقديم اقتراح معجّل لعزل الرئيس قبل نهاية هذا الأسبوع، فيما كان الرئيس يتعرّض لنيران صديقة عندما أعلن عدد من نواب حزبه المحافظ استعدادهم لتأييد العريضة التي تقدّم بها الحزب الليبرالي الذي يملك الأغلبية في البرلمان لعزل يون من منصبه وإحالته على المحاكمة.

موظف في الجمعية الوطنية يرش بطفايات الحريق لمنع الجنود من دخول القاعة الرئيسية للجمعية الوطنية في سيول (أ.ب)
موظف في الجمعية الوطنية يرش بطفايات الحريق لمنع الجنود من دخول القاعة الرئيسية للجمعية الوطنية في سيول (أ.ب)

لا شك في أن قرار يون إعلان الأحكام العرفية سبّب أقوى صدمة سياسية عرفتها كوريا الجنوبية منذ انتقالها إلى الحكم الديمقراطي في الثمانينيات من القرن الماضي. والكوريون الجنوبيون الذين يشعرون بفخر كبير لنضالهم ضد الأنظمة الاستبدادية التي كان لها دور كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية الباهرة، لكنها تركت سجلاً حافلاً بالقمع والفظائع ضد كل الذين كانت تعتبرهم «أعداء» الدولة، لم يكونوا يتوقعون أبداً أن الرئيس المنتخب ديمقراطياً يجرؤ على إعلان الأحكام العرفية للمرة الأولى منذ 45 عاماً.

متظاهرون مساندون للرئيس الكوري الجنوبي في العاصمة سيول (رويترز)
متظاهرون مساندون للرئيس الكوري الجنوبي في العاصمة سيول (رويترز)

التفسير الوحيد لهذا الخطأ السياسي الفادح الذي ارتكبه يون، هو أنه أمام التراجع الكبير في شعبيته (20 في المائة) وتنامي المعارضين له داخل حزبه، شعر أنه لن يكون قادراً على تنفيذ برنامجه السياسي خلال الفترة المتبقية له من الولاية الرئاسية، قرر أن يلعب ورقة الأحكام العرفية لدفع القوى المحافظة، الشعبية والبرلمانية، إلى رصّ الصفوف وراءه لمواجهة «العدو الداخلي»، الذي زعم أنه يهدد النظام الديمقراطي.

لكن الكوريين الجنوبيين اليوم يعرفون جيداً أن لا وجود لعناصر كورية شمالية متسللة إلى صفوف مجتمعهم تتآمر لإقامة نظام شيوعي، وهي التهمة التي كان بعض المحافظين يوجهونها إلى بعض الليبراليين، أواسط القرن الماضي، لا سيما أن كوريا الجنوبية اليوم تنظر إلى جارتها كدولة فقيرة لا تشكل أي خطر باستثناء ترسانتها النووية ومزاجية قائدها.

متظاهرون يتجهون إلى المكتب الرئاسي بعد وقفة احتجاجية بالشموع ضد الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول في سيول (أ.ب)
متظاهرون يتجهون إلى المكتب الرئاسي بعد وقفة احتجاجية بالشموع ضد الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول في سيول (أ.ب)

الحزب الليبرالي يسيطر على 192 مقعداً من أصل 300 في الجمعية الوطنية، ويكفيه أن ينضم إليه 8 نواب من الحزب المحافظ للموافقة على عريضة الإقالة التي يعود للمحكمة الدستورية قرار الفصل في شرعيتها. ورغم أنه ليس هناك ما يُلزم يون على الاستقالة من منصبه قبل حسم طلب الإقالة الذي قد يستغرق فترة طويلة، فإن الأرقام البرلمانية والضغط الشعبي المتزايد لن يتركا أمامه أي مجال للمناورة بعد أن شعرت غالبية المواطنين أنه لم يعد يمثلهم، وبعد المفاجأة التي فجّرها في الساعات الأخيرة أحد حلفائه الرئيسيين، زعيم حزب «سلطة الشعب» هان دونغ هون، الذي دعا إلى تعليق مهام الرئيس بسرعة.

وكشف هان أن يونغ كان أمر ليلة إعلانه الأحكام العرفية بإلقاء القبض على عدد من الشخصيات السياسية البارزة، وأن بقاءه في السلطة يشكّل خطراً محدقاً على النظام الديمقراطي.

العواصم الكبرى، بخاصة واشنطن وبكين وطوكيو ، تراقب عن كثب الوضع في كوريا الجنوبية، وقد اختارت حتى الآن الامتناع عن التعليق على مجريات الأزمة في انتظار ما ستتمخض عنه المعركة البرلمانية التي تنتظر يون نهاية هذا الأسبوع، وما سيكون عليه موقف الجيش الذي وجّه المتظاهرون انتقادات شديدة لقياداته.

متظاهرون يطالبون باستقالة الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول أمام الجمعية العامة في سيول (أ.ف.ب)
متظاهرون يطالبون باستقالة الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول أمام الجمعية العامة في سيول (أ.ف.ب)

وفيما يلزم الرئيس الكوري الجنوبي الصمت التام منذ اندلاع الازمة، يعترف الكثيرون من مواطنيه بأنهم يشعرون بالخجل أمام ما يعتبرونه تشويهاً لسمعة بلدهم ونظام حكمها الذي يعدّ من أكثر الأنظمة الديمقراطية رسوخاً في آسيا.


مقالات ذات صلة

صندوق النقد الدولي: تصاعد عدم اليقين العالمي يهدد آفاق النمو بالشرق الأوسط

الاقتصاد تصاعد الدخان عقب غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ب)

صندوق النقد الدولي: تصاعد عدم اليقين العالمي يهدد آفاق النمو بالشرق الأوسط

أشار صندوق النقد الدولي إلى أن تصاعد عدم اليقين العالمي يهدد آفاق النمو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، محذراً من أن المخاطر تميل سلباً.

«الشرق الأوسط» (دبي)
يوميات الشرق التميُّز هو ما يهمّ (أ.ف.ب)

«سيكس تربل إيت»: تكريمٌ طال انتظاره لبطلات الحرب العالمية الثانية

حصلت «سيكس تربل إيت»؛ وهي وحدة مكوَّنة بالكامل من نساء أميركيات من أصول أفريقية شاركن في الحرب العالمية الثانية، على وسام الكونغرس الذهبي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
آسيا صورة نشرتها وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية الرسمية تُظهر الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون (في الوسط- يمين) وابنته كيم جو آي (في الوسط- يسار) وهما يحضران أول تجربة إطلاق لأنظمة الأسلحة على المدمرة متعددة المهام «تشوي هيون» في موقع غير معلن بكوريا الشمالية (إ.ب.أ)

كوريا الشمالية تختبر مدمرة نووية جديدة (صور)

أعلنت كوريا الشمالية اليوم (الأربعاء) أن الزعيم كيم جونغ أون شهد أولى عمليات إطلاق صواريخ من مدمرة جديدة.

«الشرق الأوسط» (سيول)
العالم انفجار طائرة مسيّرة في سماء العاصمة الأوكرانية كييف أثناء غارة روسية، 29 أبريل 2025 (رويترز)

الخارجية الأميركية: يجب تقديم مقترحات ملموسة بشأن أوكرانيا وإلا ستنسحب واشنطن من الوساطة

ذكرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، تامي بروس، أن الوزير ماركو روبيو قال، الثلاثاء، إن الوقت حان لتقديم روسيا وأوكرانيا مقترحات ملموسة لإنهاء الحرب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
آسيا يقف مسؤولو الأمن الباكستانيون حراساً خارج كنيسة بينما تحتفل الأقلية المسيحية بعيد الفصح في كويتا عاصمة إقليم بلوشستان المضطرب في 20 أبريل 2025 (إ.ب.أ) play-circle 01:05

اجتماعات أمنية رفيعة في باكستان والهند لدرس الرد بعد هجوم كشمير

إسلام آباد ودلهي تعقدان اجتماعات أمنية وطنية على أعلى المستويات وإلغاء التأشيرات الممنوحة لمواطني البلدين وتهديدات متبادلة مع تعليق معاهدة تقاسم المياه.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد - دلهي)

مخاوف من تصاعد النزاع بين الهند وباكستان

باكستانية تستعد مع زوجها الهندي وأطفالهما لمغادرة الهند أمس بعد أوامر من نيودلهي للباكستانين بالمغادرة (أ.ب)
باكستانية تستعد مع زوجها الهندي وأطفالهما لمغادرة الهند أمس بعد أوامر من نيودلهي للباكستانين بالمغادرة (أ.ب)
TT
20

مخاوف من تصاعد النزاع بين الهند وباكستان

باكستانية تستعد مع زوجها الهندي وأطفالهما لمغادرة الهند أمس بعد أوامر من نيودلهي للباكستانين بالمغادرة (أ.ب)
باكستانية تستعد مع زوجها الهندي وأطفالهما لمغادرة الهند أمس بعد أوامر من نيودلهي للباكستانين بالمغادرة (أ.ب)

أثارت تصريحات للسلطات في باكستان عن توقّعها «ضربة وشيكة» من الهند مخاوف تصاعد النزاع بين الجارتين النوويتين. وقالت السلطات الباكستانية، أمس، إنها تلقت «معلومات استخباراتية موثوقة» تفيد بأن الهند تخطط لضربة عسكرية خلال 24 إلى 36 ساعة، وتوعدت بالرد عليها.

ويأتي هذا التصعيد بعد أيام من هجوم أوقع 26 قتيلاً في كشمير، تنفي الحكومة الباكستانية أن تكون لها أي صلة به.

وأعربت السعودية عن قلقها بشأن التوتر المتصاعد بين الهند وباكستان، واستمرار تبادل إطلاق النار في المناطق الحدودية. ودعت وزارة الخارجية السعودية البلدين إلى خفض التوتر وتجنب التصعيد، وحل الخلافات بالطرق الدبلوماسية، واحترام مبادئ حُسن الجوار، والعمل على تحقيق الاستقرار والسلام لما فيه خير شعبيهما وشعوب المنطقة.