شهدت الأشهر الماضية بمصر انتشاراً كبيراً لـ«السوق السوداء»، وهي سوق موازية غير قانونية لتبديل العملات الأجنبية خارج المعاملات المصرفية الرسمية، في ظل تزايد الفارق بين السعر الرسمي المعلن بالبنوك، وسعر السوق الموازية لقيمة تلك العملات مقابل الجنيه المصري.
ويأتي الدولار الأميركي على رأس العملات المتداولة خارج الإطار الرسمي. وللدولار الأميركي سعران في مصر، أحدهما رسمي يقدر بـ30.9 جنيه للدولار، والآخر في «السوق السوداء» ويقدر بأكثر من 60 جنيهاً، وفق وسائل إعلام محلية.
وتزايدت أعداد العاملين النشطين في «السوق السوداء» مع وجود فارق قد يصل لـ5 جنيهات بين سعر البيع والشراء في بعض المناطق، بحسب مجموعات مغلقة (غروبات) لتداول العملة، التي أصبحت مصدراً رئيسياً لتوفير الدولار والعملات الأجنبية، في ظل قيود مفروضة من البنوك للحصول على الدولار.
وتقيد غالبية البنوك استخدامات بطاقات الائتمان بالخارج للحصول على العملة عند أقل من 500 دولار، في الشهر.
وينص القانون على معاقبة من يمارس «الاتجار في العملة» بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عشر سنوات وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تتجاوز خمسة ملايين جنيه أو المبلغ محل الجريمة أيهما أكبر، بينما تصل عقوبة شركات الصرافة المخالفة إلى إلغاء الترخيص وشطب القيد من السجل.
«يعيد التاريخ نفسه، فما يحدث اليوم هو نفسه ما حدث مع بداية الانفتاح الاقتصادي في النصف الثاني من السبعينات»، كما تشير أستاذة علم الاجتماع السياسي، الدكتورة هدى زكريا، التي تؤكد لـ«الشرق الأوسط» ظهور طبقات «أثرياء الحروب» والمتربحين من العمل في «السوق السوداء» من مهن مختلفة في مصر في العهود السابقة، خاصة مع وجود إغواء قوي لحائزي العملات الأجنبية للتعامل معهم، بدلاً من البنوك بسبب الفارق السعري المتزايد يوماً بعد الآخر.
ويعود تاريخ ظهور «السوق السوداء» إلى أربعينات القرن الماضي مع خروج مصر «منطقة الإسترليني»، وهو الظهور الذي استمر وقت الأزمات الاقتصادية والحروب بداية من العدوان الثلاثي عام 1956 مروراً بحرب 1967 وحرب 1973 حتى توحيد سعر الصرف عام 1978 مع بداية الانفتاح الاقتصادي، لتعود للظهور كل عدة سنوات.
وقال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأربعاء، إن «الدولار يمثل مشكلة؛ لأن الدولة المصرية تقدم الخدمات للناس بالجنيه وتضطر لشرائها بالدولار»، مشيراً إلى «احتياج الدولة نحو 3 مليارات دولار شهرياً لتوفير السلع الأساسية».
ويعدد عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، الدكتور علي الأرديسي، لـ«الشرق الأوسط»، الخسائر المترتبة على استمرار الفارق السعري الكبير بين السوق الموازية والسعر الرسمي في البنك، في مقدمتها هروب الاستثمارات المباشرة الأجنبية، لتجنب المستثمرين الدخول في السوق المصرية بسبب فارق العملة الذي سيجعل أي مستثمر سواء كان قادماً للعمل بالسوق المصرية للمرة الأولى أو لديه نشاط بالفعل داخل مصر يواجه صعوبات مرتبطة بالخسائر التي يتكبدها عند محاولته تحويل أرباحه من جنيه إلى دولار، واضطراره للجوء لـ«السوق السوداء»؛ نظراً لعدم تحويل أمواله من جانب المركزي.
وأضاف أن هذا الأمر سينعكس على معدلات التضخم بشكل واضح في القريب العاجل، مع ارتفاع الأسعار المضطرد واليومي نتيجة تغير سعر الصرف عدة مرات في اليوم، وغياب أي تدخل من البنك المركزي والحكومة للتعامل مع الوضع الحالي، مشيراً إلى أن استمرار الوضع لأطول من ذلك سيؤدي لخسائر في الاستثمارات الخاصة.
جزء من الآثار السلبية لاستمرار «السوق السوداء» تقوله أستاذة علم الاجتماع السياسي، هدى زكريا، استناداً لدراسة أجرتها زميلة لها مطلع الثمانينات، أظهرت تحولاً في طبيعة النشاط الاقتصادي من الصناعة والزراعة لتكون الأنشطة الأكبر من حيث الفئات العاملة هي «تجارة العملة» و«التهريب» و«أعمال السمسرة»؛ مما سبب أضراراً على المدى الطويل للاقتصاد والصناعة المحلية، بسبب التوسع في الاعتماد على الواردات من الخارج.
وأرجعت الانتعاش الحالي في «السوق السوداء» إلى وجود «ثغرات» بالنظام الاقتصادي، وهو أمر يصاحبه «سيادة قيم الفردية» التي تتضمن بحث الفرد عن تحقيق مصلحته الخاصة، مشيرة إلى أن هذا الأمر أدى إلى وضع اقتصادي سيئ في الماضي، ويجب الاستفادة منه عند التعامل معه بالوقت الراهن.
ووفق المراقبين، ساهمت التسهيلات الائتمانية التي حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك في إيقاف السوق السوداء لفترات، ومن بينها ما بين 1991 وحتى 1997، وبين 2005 وحتى 2011، كما ساهم قرض الصندوق في 2016 في إيقافها بعد أشهر قليلة، لكن هذا الإيقاف لم ينجح مع إعلان مصر في 2022 الحصول على تسهيلات جديدة من الصندوق.
وزار الأسبوع الجاري وفد من صندوق النقد الدولي لإجراء مباحثات مع الحكومة من أجل استئناف الحصول على شرائح قرض قيمته 3 مليارات دولار، مع تصريحات رسمية عن زيادة قيمة القرض، لكن عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، علي الأرديسي، يرى أن قيمة القرض هذه المرة لن تنجح في تحجيم «السوق السوداء»، ما لم تكن هناك قرارات اقتصادية أخرى توضح مسار حل الأزمة الاقتصادية.