بعد مرور عشرين عاماً على حرب دارفور التي شهدت بعضاً من أسوأ الفظائع في مطلع القرن الحادي والعشرين، يقول سودانيون نزحوا من الإقليم ويعيشون اليوم في الشتات إن الكابوس عاد، وكأنه «لم ينتهِ أبداً».
وتعيد مشاهد العنف في مدينة الفاشر، بعد سقوطها في قبضة «قوات الدعم السريع»، ذكريات المذابح التي شهدها الإقليم قبل عقدين.
وفي نهاية الشهر الماضي أعلنت «قوات الدعم السريع» سيطرتها على الفاشر، آخر المعاقل الرئيسية للجيش السوداني في دارفور، قبل أن تخرج شهادات عن إعدامات ميدانية وعنف جنسي وهجمات استهدفت عمال إغاثة، إضافة إلى عمليات نهب وخطف، في وقت لا تزال فيه الاتصالات مقطوعة إلى حدّ كبير.
وحذّرت الأمم المتحدة من إعدامات تُرتكب على أساس عرقي على يد «قوات الدعم السريع» المنبثقة مما كان يُعرف أثناء حرب 2003 باسم «الجنجويد».
ويقول عبد الله ياسر آدم، وهو باحث سوداني نزح من نيالا ويقيم حالياً في القاهرة: «أحياناً لا يمكنني تصديق أن ذلك يحدث مرة ثانية».

ويضيف لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن «الناس تموت دون أن تعرف لماذا... أشعر وكأنها نهاية العالم».
ينتمي آدم، البالغ 45 عاماً والذي استخدم اسماً مستعاراً حفاظاً على أمنه، إلى قبيلة الفور، وهي واحدة من عدة جماعات تمردت على النظام السوداني مطلع الألفية، فقمعتها السلطة عبر تسليح الجنجويد.
وخلال العقدين الماضيين، نزح ستة ملايين سوداني خارج البلاد، بينهم أربعة ملايين فرّوا منذ اندلاع الحرب الأخيرة بين الجيش و«الدعم السريع» في أبريل (نيسان) 2023.
ويروي ناجون من الهجوم على الفاشر مشاهد تُذكّر بما عاشه آدم قبل عشرين عاماً.
ويستعيد تلك الحقبة قائلاً إن «الطيران من فوق والجنجويد من تحت بالجمال والأحصنة والعربات يضربون ويحرقون القرية».
ويتابع: «كان ذلك يحدث بعد أن يستسلم الناس. كانوا يجرون والمسلحون وراءهم كأنها عملية صيد». واليوم، كما يقول، فالهجمات هي نفسها، لكن بأسلحة أكثر تطوراً.
يقود محمد حمدان دقلو (حميدتي) «قوات الدعم السريع»، بعدما برز دوره خلال الأعوام 2003-2008 في عهد الرئيس السابق عمر البشير، أثناء قمع تمرد قبائل مهمّشة مثل الفور والمساليت والزغاوة والبرتي.
خلّفت تلك الحرب 300 ألف قتيل و2.7 مليون نازح، ووصفتها «المحكمة الجنائية الدولية» بالإبادة الجماعية.
وبعد إطاحة البشير عام 2019، حاول حميدتي تقديم نفسه كرجل دولة وحليف للجيش، وفق محللين، لكن الخلافات حول دمج قواته في الجيش أشعلت الحرب الحالية.
وترى الشاعرة السودانية-الأميركية امتثال محمود، التي نجت طفلة من معارك بداية الألفية، أن إبادة دارفور «لم تتوقف أبداً».
وتقول محمود (32 عاماً) التي تعيش في فيلادلفيا منذ سن الخامسة لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أصبح الأمر أكثر تعقيداً سياسياً، لكن القتل لم يتوقف»، معتبرة أن كلاً من الجيش و«الدعم السريع» ارتكب فظائع في الماضي.
وتوضح: «كان الجيش يقصف قرانا بأكملها بينما ينتظر الجنجويد» لقتل الناجين، مضيفة أنهم «كانوا يحرقون المحاصيل، ويلقون الجثث في الآبار، ويغتصبون النساء والأطفال».

وتتذكر محمود من طفولتها في الفاشر رؤية «الدخان يتصاعد من وسط المدينة» جراء قصف الجنجويد للأسواق والحشود.
وتروي أنه «كان علينا الاختباء. في ذلك اليوم اختبأت تحت الفراش مع أربعة آخرين... ورأيت أحذية الجنود تدخل... ورأيت دماءنا على أقدامهم». وفي اليوم نفسه شاهدت عمّها «ملطخاً بالدماء» بعدما تطوع لإسعاف الضحايا «وبدت هذه اللحظة كصورة مصغرة لكل ما سيأتي».
وفي نيالا، كما يروي آدم، «كنا نستقبل ضحايا الاحتكاكات بين ميليشيات الجنجويد وأصحاب المزارع... كانت القرى البعيدة الأكثر تضرراً».
ويضيف أن «الفارّين كانوا يصلون حفاة وعلى الدواب... ليس معهم طعام... والأطفال يعانون سوء تغذية واضحاً... كانت مشاهد صعبة جداً».
لذلك يرى آدم أن الجيش وميليشيا الجنجويد «وجهان لعملة واحدة»، فربما تبدلت الأدوار اليوم، «لكن الشعب السوداني لا يزال هو الضحية».
وخلال النزاع الحالي، يُتهم الجيش بشن غارات جوية عشوائية وباستخدام أسلحة كيميائية، بينما تُتَّهم «قوات الدعم السريع» بعمليات قتل جماعي واغتصاب ونهب.

وبعد سقوط الفاشر، أصبحت جميع عواصم ولايات دارفور الخمس تحت سيطرة «قوات الدعم السريع»، ما يدفع نحو تقسيم فعلي للسودان بين الجيش في الشمال والشرق، و«الدعم السريع» في دارفور وأجزاء من الجنوب.
ويحذر مراقبون ومنظمات دولية من توسع رقعة القتال إلى مدن كردفان وخاصة منطقة جبال النوبة.
ويقول كومان سعيد المقيم في أوغندا لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «تاريخياً، يشبه الوضع (في كردفان) دارفور تماماً».
ويحذّر سعيد من مذبحة جديدة «مثل ما حدث في الفاشر» إذا سيطرت «قوات الدعم السريع» على مدينتَي الدلنج وكادوغلي في جنوب كردفان، المحاصرتين بينما لا تزالان تحت سيطرة الجيش.
وفي دارفور، حيث شكّلت «قوات الدعم السريع» حكومة موازية، يقول السكان إن حياتهم بات يخيّم عليها الخوف.
وتُتَّهم هذه القوات بقتل ما يصل إلى 15 ألف مدني من قبيلة المساليت في الجنينة، عاصمة غرب دارفور، في أواخر 2023.
ويقول عمر، الذي يتواصل مع أصدقاء له في نيالا ومدن أخرى «من المساليت مثلي»، إن هؤلاء «يعيشون في خوف من استهدافهم».




