يترقّب المشهد السياسي في ليبيا مصير «خريطة الطريق»، التي طرحتها بعثة الأمم المتحدة في محاولة جديدة لإحياء العملية السياسية، وسط تباينات «حادة» بين مجلسَي النواب والأعلى للدولة، بشأن شروط الترشُّح، والقوانين الانتخابية، وما إذا كانت الخطة تمهِّد بالفعل لاستئناف المسار الديمقراطي، أم تمثل خطوةً لإقصاء بعض الأطراف من المشهد المقبل؟
وبدا لافتاً لمراقبين أن المبعوثة الأممية، هانا تيتيه، استخدمت لهجةً أكثر صرامة خلال إحاطتها أمام مجلس الأمن الأسبوع الماضي، إذ تحدَّثت عن «خيارات بديلة»، ومنحت المجلسَين مهلةً تمتد حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل لاستكمال المرحلة الأولى من الخطة، التي تشمل إعادة تشكيل مجلس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وحسم الإطارين الدستوري والقانوني للاستحقاق، وهو الملف الذي ظلَّ مثار خلاف حاد بين الطرفين.

حديث تيتيه عن «خيارات بديلة»، وصفه متابعون بأنه يحمل تلويحاً بإقصاء أطراف سياسية من المشهد، يُرجَّح ارتباطه بمقترح سابق للجنة استشارية ليبية، يقضي بحل المؤسسات القائمة، وتشكيل هيئة تنفيذية وجمعية تأسيسية تتولى إعداد دستور مؤقت، ووضع القوانين الانتخابية.
وأمس الجمعة، أعادت البعثة الأممية التأكيد على وجود آليات عملية لمحاسبة المعرقلين، من بينها فرض عقوبات عبر مجلس الأمن.
وأثارت التحذيرات الأممية الأخيرة تساؤلات حول قدرة مجلسَي النواب والأعلى للدولة - ومن خلفهما الحلفاء الإقليميون والدوليون - على تجاوز خلافاتهما المتراكمة، فضلاً عن مدى استعداد المجتمع الدولي لدعم خطة تيتيه إذا قرَّرت المضي في «مسار بديل»، يتجاوز دور المؤسستين في المرحلة المقبلة.
وأبدى عضو مجلس النواب، علي الصول، انفتاح البرلمان على «أي مفاوضات تهيئ المناخ السياسي لإجراء الانتخابات»، لكنه توقَّع في الوقت نفسه استمرار العراقيل؛ بسبب «تمسك المجلس الأعلى للدولة بتعديل القوانين الانتخابية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن المطالبة بتعديل شروط الترشُّح للرئاسة تُمثِّل «عرقلة مبطنة للمسار السياسي»، مشيراً إلى أن «استبعاد العسكريين ومزدوجي الجنسية جاء بهدف إقصاء شخصيات بعينها»، محذراً من أن استمرار هذا النهج «يجعل التوافق مستبعداً».
وقبل أسبوع أقرَّ المجلس الأعلى للدولة تقريراً أعدّته لجنة شكَّلها رئيسه لتقييم «خريطة الطريق» الأممية، تضمَّن توصيات بـ«استبعاد العسكريين ومزدوجي الجنسية، والمطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية من الترشُّح للرئاسة»، وهو ما عدّه مجلس النواب شرطاً تعجيزياً يعمِّق الخلافات القائمة.

ويبدو المجلس الأعلى للدولة متمسكاً بموقفه، إذ يرى رئيس لجنة الشؤون السياسية، محمد معزب، أن «مطالب استبعاد العسكريين ومزدوجي الجنسية ليست بدافع الإقصاء، بل لضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها»، عادّاً أن تحميل المبعوثة الأممية المجلسين وحدهما مسؤولية تعطيل الخريطة «تبسيط غير منصف». وقال إن ذلك «يتجاهل تعقيدات المشهد ودور القوى الفاعلة الأخرى».
وتساءل معزب في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «لماذا لم تبادر البعثة إلى مناقشة البرلمان بشأن عدم تعاطيه الرسمي حتى الآن مع ما أصدره المجلس الأعلى للدولة حول القوانين الانتخابية؟ ولماذا لم تدعُ إلى تشكيل لجنة مشتركة بينهما لمباشرة هذا الملف، كما حدث في ملف المناصب السيادية؟».
هذا التباين في المواقف يعكس جوهر الأزمة الليبية الممتدة منذ أكثر من عقد، بحسب محللين، حيث تتنازع على السلطة حكومتان: الأولى برئاسة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، والثانية مكلفة من البرلمان ومدعومة من «الجيش الوطني» في الشرق، بينما بقيت الانتخابات المؤجلة منذ 2021 رهينة الشروط والولاءات المتضاربة.
ومع ذلك فإن رسائل البعثة الأممية لا تنقطع بضرورة المسارعة في استكمال الخطوة الأولى من خريطة الطريق، وهو ما أظهره تصريح نائبة المبعوثة الأممية، ستيفاني خوري، خلال لقائها لجنتَي المناصب السيادية في المجلسين نهاية الأسبوع الماضي؛ حيث طالبت «بتحقيق نتائج ملموسة خلال الأيام المقبلة».
وفي قلب هذا الجمود السياسي، يتوقَّع المحلل السياسي الليبي، محمد محفوظ أن تمضي تيتيه قدماً في «إطلاق الحوار المهيكل بين الليبيين، الوارد في الخريطة، بوصفه آليةً بديلةً لتنفيذها»، موضحاً أنها «قد تعتمد تدريجياً على هذا الحوار لتجاوز تعطيل المجلسين، وتفادي اللجوء إلى نهج بديل يتطلب تفويض مجلس الأمن».
لكن محفوظ استبعد أيضاً أن تتجه المبعوثة سريعاً إلى مجلس الأمن «لإدراكها أن الأمر لن يكون سهلاً»، وهو ما رده إلى «تباين مواقف العواصم الكبرى بشأن معالجة الأزمة الليبية وتضارب مصالحها».
ويعتقد مراقبون أن واشنطن تعتمد مقاربةً موازيةً، ترتكز على الدمج الاقتصادي والتعاون الأمني، تمهيداً لإطلاق مسار سياسي لاحق، في ظل انخراطها المتزايد في الملف الليبي عبر سلسلة لقاءات معلنة وغير معلنة مع قيادات عسكرية، وشخصيات فاعلة في شرق ليبيا وغربها.
ومن المحتمل أن يكون تعثّر مجلسَي النواب والأعلى للدولة في التوصُّل إلى حلول حاسمة للقضايا العالقة، منذ طرح «خريطة الطريق»، ناجماً عن أحد سببين محتملين، وفق محفوظ؛ أحدهما «غياب الضغوط الإقليمية والدولية الفاعلة»، والثاني «إدراك المجلسين أن عواصم مؤثرة، وفي مقدمتها واشنطن، تميل إلى إطلاق مسارات موازية لمعالجة الأزمة خارج إطار البعثة الأممية».

ومع البصمة الواضحة للحضور الإقليمي والدولي في جميع مراحل الأزمة السياسية منذ 2011، يرى نائب رئيس «المؤتمر الوطني» السابق، صالح المخزوم، أن «المهلة الأممية ليست موجّهة للمجلسين فقط، بل للقوى الإقليمية والدولية الداعمة لهما أيضاً؛ للضغط عليهم؛ بهدف حلحلة الانسداد السياسي بهذا الملف».
ويرجح المخزوم، أستاذ القانون الدستوري بجامعة طرابلس، أن البعثة الأممية «ترصد مبادرات بعض العواصم لمعالجة الأزمة بعيداً عن التنسيق معها، ما قد يدفعها للمضي في إطلاق الحوار المهيكل وتحويله تدريجياً إلى حوار سياسي لتنفيذ مراحل الخريطة».
لكن المخزوم لم يستبعد أيضاً أن تعمل البعثة الأممية «على استقطاب عدد متساوٍ من أعضائهما للمشارَكة في هذا الحوار السياسي بصفاتهم الشخصية، أو بصفتهم ممثلين للمجلسين، كما حدث في اتفاق جنيف 2020»، وهو يعول أيضاً على «صعود نخب سياسية وخبرات تنفيذية قادرة على توظيف الانقسام الدولي، بما يضمن استقرار ليبيا، والوصول إلى الانتخابات المنتظرة».





