السودان: حين يدفن الأحبة مرتين في الخرطوم

بعد عودة الهدوء إلى العاصمة تم نبش آلاف الجثث في الميادين والبيوت وإعادة دفنها

فريق الهلال الأحمر يقوم بنبش الجثامين في مقبرة جماعية مؤقتة بالخرطوم (الشرق الأوسط)
فريق الهلال الأحمر يقوم بنبش الجثامين في مقبرة جماعية مؤقتة بالخرطوم (الشرق الأوسط)
TT

السودان: حين يدفن الأحبة مرتين في الخرطوم

فريق الهلال الأحمر يقوم بنبش الجثامين في مقبرة جماعية مؤقتة بالخرطوم (الشرق الأوسط)
فريق الهلال الأحمر يقوم بنبش الجثامين في مقبرة جماعية مؤقتة بالخرطوم (الشرق الأوسط)

في صباح شديد الحرارة بميدان حي البركة بضاحية الحاج يوسف بمحلية شرق النيل بالخرطوم بحري، كانت السيدة سعاد عبد الله تحمل طفلها وتحدّق بصمت نحو الحفرة التي كانت قبل دقائق قبراً مؤقتاً لزوجها.

فقبل نحو 7 أشهر، لم تجد سعاد مكاناً آمناً لدفن زوجها سوى هذا الميدان، والآن تقف لتستلم رفاته في كيس أبيض، كي تمنحه وداعاً متأخراً، لكنه أكثر كرامة، حيث يتم دفنه في مقابر الضاحية.

سعاد واحدة من عشرات الأسر التي عاشت لحظة وداع الأحبة مرتين، في المدينة التي تعج بالمقابر العشوائية، ويعاني أهلها فقداناً للذاكرة الرسمية لضحايا حرب لم تنتهِ فظائعها بعد.

السيدة سعاد عبد الله تحمل طفلها وتودع زوجها للمرة الثانية (الشرق الأوسط)

واندلعت الحرب في السودان، في 15 أبريل (نيسان) 2023، في العاصمة الخرطوم، بين «قوات الدعم السريع»، والجيش السوداني، للسيطرة على العاصمة، وامتد القتال من الخرطوم إلى ضواحيها، وخاصة أم درمان. وبعد أيام قليلة من الحرب، قتل أكثر من 500 قتيل مدني. وقدّر عدد القتلى في الخرطوم منذ اندلاع الحرب بالآلاف، رغم عدم وجود إحصائيات رسمية. وبعد استعادة الجيش السيطرة على العاصمة في 20 مايو (أيار) 2025، كانت المهمة الأصعب هي كيفية إعادة دفن آلاف الجثث المنتشرة في المقابر الجماعية والطرقات والميادين العامة، وهي مهمة مستمرة حتى الآن.

أرض الموت

عند الساعة الحادية عشرة صباحاً، وصلت فرق الطب العدلي والهلال الأحمر السوداني إلى ميدان حي البركة، لنقل 118 جثة دُفنت على عجل سابقاً، خوفاً من القنص أو الحظر أو الانفجار. فرق الطب العدلي مقسّمة ومنظمة، ترتدي الزي الطبي، وتعمل بتناوب في مجموعتين بسبب حرارة الشمس القاسية، ينبشون الجثامين واحداً تلو آخر، ويضعونها داخل أكياس بيضاء مرقمة، ثم تُرص في سيارات نقل متوسطة يطلق عليها محلياً «دفار»، تقف على بعد أمتار من المقبرة المؤقتة.

أحد المواطنين يشير إلى مقبرة أحد أقربائه في ضاحية الحاج يوسف بولاية الخرطوم (الشرق الأوسط)

يشير الأهالي بأصابعهم إلى القبور، وهم يقفون على مسافة: «هنا أخي، وهناك أمي»، يهمسون بأسماء تُدفن دون شاهد، ومن بينهم سعاد عبد الله، أم لـ3 أطفال، فقدت زوجها ودفن مؤقتاً في الميدان. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «توفي زوجي برصاصة طائشة اخترقت نافذة غرفتنا، لم نتمكن من دفنه في المقابر الرسمية، فدفناه هنا في الميدان، واليوم جئت لأودّعه من جديد».

تحاول سعاد أن تبقي متماسكة، وهي تحتضن ابنها الأصغر، فيما يهمس أحد أقاربها: «دفناه ليلاً، من دون شهود ولم نقم عليه العزاء، ما كنا نستطيع المشي بالجثمان إلى المقابر».

وعلى الطرف الآخر، كانت خديجة زكريا تبكي بصوت مرتفع، وهي تراقب نبش قبر شقيقتها، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «شقيقتي ماتت موتاً طبيعياً، لكنهم منعونا من دفنها في المقابر، فدفناها في الميدان». وتضيف، والدموع تبلل عينيها: «حتى بنت أختي ووالدها ماتا، ودفنوهما في ميادين أخرى، قالوا لنا سيتم نقلهما لاحقاً إلى المقابر».

جثة غرفة الضيوف

بعد انتهاء العمل في ميدان حي البركة، توجه الفريق إلى منطقة الفيحاء القريبة من ضاحية الحاج يوسف، استجابة لبلاغ بوجود جثة داخل منزل مهجور، قال صاحبه العائد قريباً من رحلة النزوح: «فوجئت بجثة يابسة في صالون بيتي... قال الجيران إنها لأحد أفراد الدعم السريع، قُتل على يد زملائه». وفي منطقة الحاج يوسف أبلغ عن وجود جثة في قناة المياه (ترعة)، تم انتشالها ودفنها في المقابر العامة.

مشهد لعمليات نقل الرفات إلى المقابر بواسطة فريق من الطب العدلي (الشرق الأوسط)

الدكتور هشام زين العابدين، مدير الطب العدلي في الخرطوم، وهو يشرف على عمليات النبش وإعادة الدفن قال لـ«الشرق الأوسط»: «نقل الجثامين مجاناً دون تكلفة، وهي مسؤوليتنا الكاملة». ويبدو هذا التصريح كردّ على ما تناولته منصات التواصل الاجتماعي، بأن السلطات تطالب بمبالغ كبيرة لإعادة دفن الموتى داخل البيوت والأحياء والميادين.

توقع دكتور زين العابدين نقل نحو 7 آلاف جثة خلال 40 يوماً من ميادين الخرطوم والمنازل إلى المقابر العامة، وأشار إلى وجود أكثر من 40 مقبرة جماعية في أنحاء مختلفة من المدينة تم اكتشافها حتى الآن. وقال إن 3.5 ألف جثة تم جمعها وإعادة دفنها منذ بداية العملية، حتى الآن، معظمها جثث قتلى «قوات الدعم السريع»، وتابع: «هناك 500 جثة أخرى تم جمعها على الطريق البري الرابط بين أم درمان وبارا، الذي يعرف بطريق الصادرات»، وتابع: «ما زال الطب العدلي يستقبل بلاغات حول وجود مقابر.

السيدة خديجة زكريا تقوم بمعاينة مقبرة أعيد دفن شقيقتها فيها (الشرق الأوسط)

وبعد عودة الناس للخرطوم، يتم يومياً اكتشاف جثامين في الأحياء السكنية، أو مقابر جماعية في الميادين. وكشف مدير الطب العدلي عن العثور على مقبرة جماعية في جامعة أفريقيا العالمية جنوب الخرطوم، تضم 7 آلاف جثة، وتنتشر في مساحة تبلغ كيلومتر مربع، تضم قتلى «قوات الدعم السريع». ووصف مناطق شرق النيل وجبل أولياء والصالحة بأنها أكثر المناطق اكتظاظاً بالمقابر الجماعية.

نحن بشر

أحد أعضاء فريق الطب العدلي أجاب سؤال أحد الحضور، أثناء أخذهم استراحة لشرب الشاي وتبادل القفشات أثناء المهمة الصعبة التي يقومون بها: «ألا تخافون من المهمة... كيف تستطيعون النوم بعد هذا». ورغم قسوة المشهد، ردّ عضو الفريق مبتسماً: «نحن بشر، نمارس حياتنا العادية، ونحاول أن نصنع من المأساة حلولاً، ولو بيدنا لما تركنا الناس يودعون موتاهم بالحسرة».

عائدون يتفقدون ممتلكاتهم المُدمَّرة في الخرطوم (أ.ف.ب)

تعيش الخرطوم اليوم مرحلة دفن مزدوج: «دفن للجثامين، ودفن للذكريات، حتى العدالة المؤجلة، لكن ما يحرك الناس ليس الغضب فقط، بل الرغبة في منح من فقدوهم قدراً من الكرامة، وسط حرب سلبت كل شيء منهم، ولم تترك لهم إلا المرارة». هكذا قالت سعاد، وهي تغادر الميدان، وطفلها نائم على كتفها: «دفت زوجي مرتين، لكننا لم ننسه يوماً واحداً، وربما نكون قد دفناه بكرامة هذه المرة، فليرقد بسلام».


مقالات ذات صلة

مصر تشدد على توفير «ملاذات آمنة» وممرات إنسانية في السودان

شمال افريقيا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال استقباله رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان في القاهرة الشهر الحالي (الرئاسة المصرية)

مصر تشدد على توفير «ملاذات آمنة» وممرات إنسانية في السودان

شددت مصر على أهمية اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته الإنسانية لضمان توفير «ملاذات آمنة» وممرات إنسانية كافية في السودان لإيصال وصول المساعدات الإنسانية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا نازحون سودانيون يقضون ليلة في مدينة القضارف شرق السودان (أ.ف.ب)

«أطباء السودان»: «الدعم السريع» قتلت 200 شخص على أساس عرقي بشمال دارفور

أعلنت «شبكة أطباء السودان»، مقتل أكثر من 200 شخص، بينهم أطفال ونساء على أساس عرقي من قبل «الدعم السريع» بمناطق أمبرو، وسربا، وأبوقمرة بولاية شمال دارفور.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا رئيس الحكومة الانتقالية في السودان كامل إدريس متحدثاً مع الصحافيين في نيويورك الاثنين (الأمم المتحدة)

إدريس: مستعدون للتواصل مع دول مؤيدة لـ«الدعم السريع»

قال رئيس الوزراء السوداني، كامل إدريس، الجمعة، إن بلاده مستعدة للتواصل مع دول مؤيدة لـ«الدعم السريع»

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا عناصر من «قوات الدعم السريع» (أ.ف.ب)

«الدعم السريع» تتقدم غرباً وحاكم إقليم دارفور يتوعد

تتقدم «قوات الدعم السريع» حثيثاً باتجاه بلدة «الطينة»، عند الحدود التشادية - السودانية، بعد أن أعلنت إكمال سيطرتها على بلدة «كرنوي»، صباح الخميس.

أحمد يونس (كمبالا)
أوروبا  وزيرة التنمية الألمانية ريم العبدلي رادوفان تتحدث في البرلمان الألماني (د.ب.أ) play-circle

ألمانيا تصف حرب السودان بـ«أسوأ أزمة إنسانية في العالم»

دعت وزيرة التنمية الألمانية ريم العبدلي رادوفان إلى تكثيف الجهود الدولية لإنهاء الصراع في السودان، واصفة إياه بأنه «أسوأ أزمة إنسانية في العالم».

«الشرق الأوسط» (برلين)

ما التداعيات الفلسطينية لاعتراف إسرائيل بـ«أرض الصومال»؟

علم «أرض الصومال»
علم «أرض الصومال»
TT

ما التداعيات الفلسطينية لاعتراف إسرائيل بـ«أرض الصومال»؟

علم «أرض الصومال»
علم «أرض الصومال»

حرّك الاعتراف الإسرائيلي بالإقليم الانفصالي «أرض الصومال»، تحذيراتٍ من رام الله و«حماس» ومقديشو، من أنه يحمل احتمالاً لأن تكون هرغيسا موطناً جديداً لاستقبال الفلسطينيين ضمن مخطط تهجير سعت له إسرائيل منذ بداية الحرب قبل نحو عامين.

تلك التحذيرات يراها خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» تحمل مخاوف من أن الخطوة الإسرائيلية ستعيد ملف التهجير للواجهة بقوة وستعمل إسرائيل على زيادة الضغوط على الضفة وغزة لدفعهم قسراً لذلك وسط غياب خطط تنفيذية للإعمار والاستقرار.

ووقّع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته جدعون ساعر، ورئيس «إقليم أرض الصومال» عبد الرحمن محمد عبد الله، الجمعة، إعلاناً مشتركاً، وقال إن «إسرائيل تخطط لتوسيع علاقاتها مع الإقليم من خلال تعاون واسع في مجالات الزراعة والصحة والتكنولوجيا والاقتصاد». وأفادت القناة «14 الإسرائيلية» بأن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال «جاء مقابل استيعاب سكان غزة».

وخلال أشهر الحرب على غزة، تصاعدت تصريحات إسرائيلية رسمية بشأن المضي قدماً في مخططات تهجير فلسطينيي غزة إلى خارج القطاع، فيما تحدثت وسائل إعلام عبرية عن وجهات محتملة شملت دولاً أفريقيةً، بينها الصومال والإقليم الانفصالي.

مظاهرة لأشخاص من «أرض الصومال» قرب «10 دوانينغ ستريت» في لندن 22 فبراير 2012 (فيسبوك)

وفي مارس (آذار) الماضي، نفت الصومال وإقليم «أرض الصومال» الانفصالي عنها أيضاً تلقي أي اقتراح من الولايات المتحدة أو إسرائيل لإعادة توطين الفلسطينيين من غزة، حيث قالت مقديشو إنها «ترفض بشكل قاطع أي خطوة من هذا القبيل».

وبعد الاعتراف زادت المخاوف من العودة الإسرائيلية لمخطط التهجير، ونبهت «الخارجية الفلسطينية»، في بيان، أن «سلطات الاحتلال كانت قد طرحت اسم (أرض الصومال) كوجهة محتملة لتنفيذ مخططات التهجير القسري بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وتحديداً من قطاع غزة، وهو ما يجعل هذا الاعتراف جزءاً من ترتيبات جيوستراتيجية مشبوهة».

وشدّدت حركة «حماس»، في بيان السبت، على «رفضها القاطع لجميع المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تهجير فلسطينيي قطاع غزة قسراً، بما في ذلك محاولات استخدام إقليم (أرض الصومال) الانفصالي وجهة محتملة لهذا التهجير».

كانت الحكومة الصومالية قد أعربت في بيان الجمعة عن رفضها لاعتراف إسرائيل بما يسمى بـ«جمهورية أرض الصومال»، مؤكدة «الدعم المبدئي والثابت للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير المصير، والرفض القاطع للاحتلال والتهجير القسري والهندسة الديموغرافية وتوسيع المستوطنات بجميع أشكالها، وأنه لن يقبل أبداً بجعل الشعب الفلسطيني بلا جنسية».

عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، مساعد وزير الخارجية الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، يرى أن «ملف التهجير لا تزال إسرائيل تعمل عليه مع الولايات المتحدة، وتراهن على حلول مثل اتفاقية الاعتراف مع (أرض الصومال) التي قد تنطوي على بنود غير معلنة، مع زيادة الضغوط على الداخل، سواء في الضفة عبر الاستيطان أو في غزة عبر القتل الممنهج».

أما المحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور عبد المهدي مطاوع، فيعتقد أن الاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» هو نوع من تفكيك العزلة حتى لو مع دول طرفية، وهرجيسا ارتبطت على مدار العام الماضي بشكل رئيسي بملف التهجير رغم نفيها. وأكد أن الخطوة الإسرائيلية «ستعيد ملف التهجير للواجهة بقوة، وستعمل تل أبيب على زيادة الإغراءات للفلسطينيين للخروج، في ظل غياب أي أفق لإعادة الإعمار، وهو ما ينعكس على الضفة الغربية لكن يمكن بصورة أقل».

ومقابل تلك المخاوف، تواصل الرفض العربي الواسع لخطة إعلان إسرائيل الاعتراف بـ«أرض الصومال»، وصدرت بيانات منددة بذلك من دول عدة، بينها السعودية ومصر وقطر والأردن وتركيا.

ويشير حسن إلى أن «أرض الصومال» ستواجه ضغوطاً خاصة عربية لمنع التهجير؛ لكن الأمر سيتوقف على ما ستقدمه لها إسرائيل للمضي في هذا النهج، وأوضح مطاوع أن «الرفض العربي سيظل ضاغطاً لعدم تمرير التهجير وعدم دخول الاعتراف حيز التنفيذ»، متوقعاً أن «يشهد ملف الاعتراف تطورات متسارعة، لا سيما في ملف التهجير».


«تكدس مراكز الاحتجاز» في ليبيا يعيد ملف السجناء للواجهة

سجن معيتيقة في طرابلس (المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان)
سجن معيتيقة في طرابلس (المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان)
TT

«تكدس مراكز الاحتجاز» في ليبيا يعيد ملف السجناء للواجهة

سجن معيتيقة في طرابلس (المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان)
سجن معيتيقة في طرابلس (المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان)

دفعت الشكاوى المتصاعدة بخصوص «تكدس مراكز الاحتجاز»، وتردّي أوضاع السجناء، حكومتي شرق وغرب ليبيا إلى إعادة فتح ملف السجون، في ظل ضغوط حقوقية متزايدة، وتقارير دولية «توثق استمرار الاحتجاز التعسفي والانتهاكات خارج الأطر القانونية».

وتسارعت خطوات الحكومتين المتنافستين في التعامل مع هذا الملف الشائك خلال الأسبوع الماضي، في تحركات متقاربة التوقيت لفتت انتباه مراقبين. ففي شرق البلاد، أصدرت حكومة «الاستقرار» المكلفة من مجلس النواب، برئاسة أسامة حماد، قراراً، الخميس، بتشكيل لجنة مؤقتة تُعنى بمتابعة أوضاع السجناء ومراكز الاحتجاز في عموم البلاد، ومراجعة سلامة الإجراءات القانونية المتبعة بحق المحتجزين.

رئيس حكومة «الوحدة» «المؤقتة» عبد الحميد الدبيبة (مكتب الدبيبة)

وجاء القرار بعد 48 ساعة فقط من إعلان حكومة الوحدة الوطنية في غرب البلاد أنها بصدد دراسة إغلاق ودمج عدد من السجون، في خطوتين وُصفتا بأنهما «مهمتان نظرياً»، لكنهما تظلان مرهونتين بآليات تنفيذ حقيقية على الأرض.

وتأتي هذه التحركات وسط انتقادات دولية حادة ومستمرة لأوضاع حقوق الإنسان في السجون الليبية، كان أحدثها ما وثّقه تقرير للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في وقت سابق من هذا الشهر، بشأن وفاة 23 محتجزاً بين مارس (آذار) 2024 وأكتوبر (تشرين الأول) 2025، إلى جانب تسجيل حالات احتجاز تعسفي، وتعذيب وظروف احتجاز غير إنسانية.

وفي هذا السياق، رأى وزير الداخلية الليبي الأسبق، عاشور شوايل، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن قرار حكومة حماد «يتطلب آليات واضحة وصلاحيات كافية»، مشدداً على ضرورة الفحص الدوري لأوضاع السجناء، والإفراج الفوري عمّن تنطبق عليهم الشروط القانونية. وسلط شوايل الضوء على أن اللجنة تضم «خبرات قضائية وقانونية يمكن الاستفادة منها إذا توفرت الإرادة السياسية».

وجاء قرار حكومة حماد بعد أقل من أسبوعين من إشارة تقرير غوتيريش إلى احتجاز مئات الأشخاص في مراكز بشرق ليبيا، دون توجيه تهم رسمية، من بينهم محتجزون صدرت بحقهم أوامر قضائية بالإفراج لم تُنفّذ، فضلاً عن تقارير بشأن محاكمات عسكرية لمدنيين.

وتهدف لجنة حكومة «الاستقرار»، وفق قرار تشكيلها، إلى مراجعة أوضاع السجناء والموقوفين، والتحقق من سلامة الإجراءات القانونية، وضمان عدم وجود احتجاز خارج الأطر القضائية، إلى جانب متابعة تنفيذ الأحكام وأوامر الإفراج، ورصد أي انتهاكات محتملة.

ويصف حقوقيون، من بينهم رئيس منظمة ضحايا لحقوق الإنسان، ناصر الهواري، القرار بأنه «بارقة أمل طال انتظارها»، لافتاً في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «الاكتظاظ الشديد داخل السجون، ووجود محتجزين قضوا سنوات خلف القضبان دون عرض على النيابة، في حالات تُصنَّف كاختفاء قسري، إضافة إلى سجناء لم تُنفّذ بحقهم أوامر إفراج».

داخل سجن معيتيقة المركزي خلال زيارة لسجناء (الصفحة الرسمية للسجن)

وأعرب الهواري عن أمله في أن تبدأ اللجنة عملها فوراً، وأن تتوفر لها وسائل تواصل فعّالة، مع أهمية التواصل المباشر مع أسر السجناء، مؤكداً أن منظمته تلقت عشرات الشكاوى عقب الإعلان عن تشكيل اللجنة.

غير أن الباحث القانوني، هشام الحاراتي، أبدى قدراً من التحفّظ، إذ عدّ في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن القرار «لا يزال تحت الاختبار»، وأن نجاحه مرتبط بمدى جدية الحكومة في التنفيذ، لا سيما في ظل سيطرة «الجيش الوطني الليبي» على عدد من السجون. وأشار إلى وجود محاولات لإعادة ترتيب المشهد الحقوقي في المنطقة الشرقية تعكس رغبة في الإصلاح، لكنها «لم تتبلور بالكامل بعد».

في المقابل، جاء قرار حكومة «الوحدة» في طرابلس، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بدمج وإلغاء بعض السجون بعد أيام من تقرير غوتيريش، الذي أشار إلى استمرار جهات أمنية تابعة لها، من بينها «اللواء 55» في «الاحتجاز التعسفي»، موثقاً «8 حالات اعتقال شملت صحافيين ومسؤولين حكوميين سابقين، ومعارضين فعليين أو محتملين، نفذتها أجهزة أمنية مختلفة، بينها جهاز الردع وإدارة التحقيقات الجنائية».

ويرى شوايل أن قرار حكومة الدبيبة «يمثل بداية جيدة رغم تأخره»، لكنه شدد على حاجته إلى آلية تنفيذ واضحة وجدول زمني محدد، خصوصاً في ظل تعقيدات المشهد الأمني، وسيطرة مجموعات مسلحة على مناطق واسعة من غرب البلاد.

ويعكس الانقسام السياسي والأمني في ليبيا واقع السجون، التي لا تخضع لسلطة أي من الحكومتين بشكل كامل؛ إذ تدير ميليشيات مسلحة عدداً منها، في ظل غياب أرقام رسمية موثوق بها حول أعداد المحتجزين في الشرق والغرب.

رئيس حكومة «الاستقرار» أسامة حماد (المكتب الإعلامي للحكومة)

ورغم ذلك، قاد مكتب النائب العام خلال العام الحالي عدة إجراءات قضائية لفرض الرقابة على السجون، شملت إصدار أوامر ضبط بحق مسؤولين أمنيين متورطين في انتهاكات، والإفراج عن 530 محتجزاً من سجن معيتيقة في طرابلس خلال مارس الماضي.

كما سبق أن أصدر الدبيبة قراراً بتشكيل لجنة لتسليم سجني معيتيقة وعين زارة للجهات الرسمية، وحصر وتصنيف أوضاع النزلاء، ضمن تنفيذ اتفاق أمني مع «جهاز الردع» لإخضاع السجون للرقابة القضائية. ويصف الهواري هذه الإجراءات بأنها «تحسّن جزئي في الملف الحقوقي بغرب البلاد»، لكنه يقر بعدم كفايتها لمعالجة جذور الأزمة.

وفي قراءة أوسع، يدرج الحاراتي قرارات الحكومتين ضمن «محاولات متزامنة لتحسين صورة ليبيا أمام المجتمع الدولي»، مذكّراً بأن «البلاد تخضع، بصفتها عضواً في عدد من المنظمات الدولية، لآليات مراجعة دورية، وتقدم تقارير إلى لجان أممية، بالتوازي مع تقارير منظمات المجتمع المدني التي توثق سنوياً انتهاكات واسعة».

ويخلص الحاراتي إلى أن القرارين يعززان، من حيث المبدأ، دور النائب العام وسلطته الرقابية، لكنه شدد على أن «العبرة ليست بصدور القرارات، بل بقدرتها على إحداث تغيير فعلي على الأرض»، في ظل استمرار القلق الدولي بشأن سجل حقوق الإنسان في ليبيا.


مصر تشدد على توفير «ملاذات آمنة» وممرات إنسانية في السودان

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال استقباله رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان في القاهرة الشهر الحالي (الرئاسة المصرية)
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال استقباله رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان في القاهرة الشهر الحالي (الرئاسة المصرية)
TT

مصر تشدد على توفير «ملاذات آمنة» وممرات إنسانية في السودان

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال استقباله رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان في القاهرة الشهر الحالي (الرئاسة المصرية)
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال استقباله رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان في القاهرة الشهر الحالي (الرئاسة المصرية)

شددت مصر على أهمية اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته الإنسانية لضمان توفير «الملاذات الآمنة» والممرات الإنسانية الكافية في السودان، لإيصال المساعدات الإنسانية من دون عوائق. في حين أطلع وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، نظيره النرويجي، إسبين بارث إيد، خلال اتصال هاتفي، السبت، على الجهود المصرية في إطار «الآلية الرباعية»، للدفع نحو التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار.

وطرحت «الرباعية» التي تضم دول (المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات والولايات المتحدة الأميركية) في أغسطس (آب) الماضي «خريطة طريق»، دعت فيها إلى «هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، تليها هدنة دائمة لبدء عملية سياسية وتشكيل حكومة مدنية مستقلة خلال تسعة أشهر». وسبق أن عقدت اجتماعاً على المستوى الوزاري في واشنطن، خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، وأكدت «ضرورة بذل كل الجهود لتسوية النزاع المسلح في السودان».

ورسمت مصر قبل أيام «خطوطاً حمراء» بشأن الأزمة في السودان، محذرة من عدم السماح بتجاوزها بوصفها تمس الأمن القومي المصري. وأكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال محادثات مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في القاهرة، «دعم بلاده الكامل للشعب السوداني في مساعيه لتجاوز المرحلة الدقيقة الراهنة»، مشدداً على «ثوابت الموقف المصري الداعم لوحدة السودان وسيادته وأمنه واستقراره».

ورحّبت مصر نهاية الشهر الماضي بـ«انخراط الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الأزمة السودانية». كما شددت على «أهمية تنفيذ (بيان الرباعية) حول السودان ببنوده كافّة».

وزير الخارجية المصري أكد خلال لقائه مفوضة الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي أهمية نفاذ المساعدات إلى السودان (الخارجية المصرية)

وزار وزير الخارجية المصري بورتسودان في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والتقى حينها رئيس مجلس السيادة السوداني، وناقشا مبادرة «الرباعية الدولية»، بهدف التوصل إلى هدنة إنسانية تقود إلى وقف فوري لإطلاق النار في السودان.

وأكد عبد العاطي، خلال الاتصال الهاتفي مع إسبين بارث إيد، السبت، «موقف مصر الثابت الداعم لوحدة السودان وسيادته واستقراره، والحفاظ على مؤسساته الوطنية».

وحسب متحدث وزارة الخارجية المصرية، تميم خلاف، فإن الوزيرَين تبادلا الرؤى والتقديرات إزاء عدد من التطورات الإقليمية، وفى مقدمتها الأوضاع في قطاع غزة. وأكد عبد العاطي «أهمية تضافر الجهود الدولية، لضمان تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار والانتقال إلى ترتيبات المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي ترمب».

وشدد على رفض مصر أي ممارسات من شأنها تقويض وحدة الأراضي الفلسطينية أو فرض وقائع جديدة بالضفة الغربية، مندداً في هذا السياق باستمرار التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بدوره لوقف التصعيد في الضفة الغربية وهجمات المستوطنين ضد المدنيين الفلسطينيين. كما نوه إلى ضرورة «ضمان نفاذ المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع وتهيئة البيئة اللازمة لبدء مسار التعافي المبكر وإعادة الإعمار»، مثمّناً الموقف النرويجي الداعم للقضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

جرحى أُصيبوا خلال معارك الفاشر في وقت سابق يخضعون للعلاج بمستشفى ميداني شمال دارفور (رويترز)

الاتصال الهاتفي تناول أيضاً التطورات في منطقة القرن الأفريقي، وأكد وزير الخارجية المصري «دعم بلاده الكامل لوحدة وسيادة وسلامة الأراضي الصومالية ولمؤسساتها الشرعية، ورفض أي إجراءات أحادية من شأنها المساس بالسيادة الصومالية»، مندداً بمحاولات فرض كيانات موازية تتعارض مع وحدة الدولة الصومالية. وأعرب عن «رفض مصر القاطع وإدانتها انتهاك المبادئ المستقرة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة». واتفق الوزيران على «ضرورة احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، حفاظاً على استقرار النظام الدولي».

كما تطرق وزير الخارجية المصري ونظيره النرويجي إلى الأزمة الأوكرانية، حيث اتفقا على «ضرورة التوصل إلى تسوية سلمية ودبلوماسية للأزمة، بما يحقق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي».