«رحلة الهروب من الموت»... من حرب في ولاية الجزيرة

شهود يروون لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل «مرعبة ومأساوية»

الحرب أجبرت الآلاف على الفرار من ولاية الجزيرة إلى ولايات مجاورة (أرشيفية - أ.ف.ب)
الحرب أجبرت الآلاف على الفرار من ولاية الجزيرة إلى ولايات مجاورة (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

«رحلة الهروب من الموت»... من حرب في ولاية الجزيرة

الحرب أجبرت الآلاف على الفرار من ولاية الجزيرة إلى ولايات مجاورة (أرشيفية - أ.ف.ب)
الحرب أجبرت الآلاف على الفرار من ولاية الجزيرة إلى ولايات مجاورة (أرشيفية - أ.ف.ب)

لم يحتمل الطفل البالغ من العمر 4 سنوات السير على أقدامه الصغيرة، فمات من التعب والإرهاق بين يدي أمه في أثناء فرارها، بعد أن أجبرتها الحرب على ترك بلدتها الريفية في شرق ولاية الجزيرة بوسط السودان. وقال شاهد لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف، إن الأم كانت تحمل طفلها الأصغر بينما يسير الآخر إلى جانبها، قبل أن ينهار ويسقط على الأرض، مضيفاً أن «تلك كانت من أصعب الأوقات التي عشتها في حياتي... وقمنا بدفنه في الطريق قبل أن نصل إلى البلدة التي كنا نقصدها».

وفي الليلة السابقة لنزوح الأم مع أبنائها، حضر جنود من «قوات الدعم السريع» وطلبوا من الأهالي إخلاء البلدة، قائلين: «سنأتي في الصباح لنتسلم البلدة خالية، لا نريد أن نرى أي شخص فيها»، كانت لحظات «مخيفة ومرعبة»، كما وصفها أحد شباب البلدة. وقال: «بلغ بنا الخوف والرعب ذروته، البعض منا لم ينتظر حلول اليوم التالي، وبدأوا في الخروج يقصدون القرى المجاورة». وأضاف: «في الصباح الباكر حملنا المسنين والمرضى والنساء والأطفال في شاحنة بمقطورة كبيرة مخصصة لنقل البضائع». ومن لم يجدوا متسعاً في الشاحنة استغلوا عربات تجرها الحمير والأحصنة، تتبعهم أعداد كبيرة من الشباب والرجال الذين نزحوا سيراً على الأقدام.

رحلة على الأقدام

وتحدث أكثر من 20 شاهداً لـ«الشرق الأوسط» عن الطريقة القاسية التي كان يتحدث بها أحد قادة «الدعم السريع»، حيث أمرهم بلهجة حادة بأن يتركوا كل شيء ويغادروا. قال أحدهم: «خرجنا بالملابس التي كنا نرتديها والقليل من الأغطية». وأضاف: «قطعنا مسافات طويلة بالأرجل في رحلة شاقة بلا ماء ولا طعام، وعندما يحل الظلام نبيت في الخلاء ونتحرك صباحاً، أصاب التعب والإرهاق النساء وكبار السن وبالطبع الأطفال».

نازحون من المناطق الشرقية لولاية الجزيرة السودانية يصلون إلى مدينة القضارف27 أكتوبر (أ.ف.ب)

وقال الشهود إن سيدتين من شدة التعب والخوف وضعتا مولوديهما في الطريق في أثناء نزوحهما، بمعاونة من النساء كبار السن. وقال سكان في بلدة «الكتير» إن أفرداً من «الدعم السريع» قتلوا امرأة مسنة كانت في طريقها إلى إحدى القرى، وفشلت كل المحاولات لإقناعهم بدفنها، وهددوا كل من يقترب منها بقتله. وذكر آخر: «علمنا بعد مغادرتنا أن قوات الدعم السريع طردت كل سكان البلدات الأخرى، وهي: الحسين آدم، والغنوماب، الجقوقاب، والكتير، وأم دقال وسر الكل، والكثير من القرى الأخرى، كما هاجمت بلدة ود الفضل التي استقبلت الآلاف من الفارين من القرى المجاورة».

ومنذ عدة أيام اجتاحت القوات نفسها مدينة تمبول، إحدى المناطق الحضرية الكبيرة في شرق الجزيرة والبطانة، وقتلت العشرات من المدنيين ونهبت ممتلكاتهم. وقال أحد الناجين من تمبول: «كان جنود الدعم السريع يطرقون الأبواب بشدة، ويقفزون من فوق الأسوار، ويطلبون سيارات النقل الكبيرة والأموال والذهب، ويقتلون كل من يعترض طريقهم بدم بارد دون تردد». وأضاف: «بعد ساعات من سيطرتهم على المدينة وزعوا القناصين على أسطح المنازل العالية، ونصبوا نقاط تفتيش كثيرة حول مداخل البلدة».

جثث على الطرقات

وقال ناجون آخرون إن جنود «الدعم السريع» المدججين بالسلاح اقتحموا منزلهم وهددوهم بالقتل، بزعم أنهم أقرباء للقائد أبو عاقلة كيكل الذي انشق عنهم وانضم للجيش السوداني مؤخراً. روى شاهد عيان قائلاً: «في أثناء خروجنا رأينا المئات من الجثث المنتفخة ملقاة على الطرقات، من بينهم عسكريون وآخرون بأزياء مدنية. تعرفنا على الجثث لكن الجنود كانوا يصوبون أسلحتهم باتجاهنا ويأمروننا بالإسراع في الخروج، وإلا فسنلقى المصير نفسه».

وقال نازحون من بلدات شرق الجزيرة وصلوا إلى مدينة حلفا الجديدة في شرق البلاد، إن المدارس التي أُعدت للإيواء امتلأت بالكامل، فيما لا يزال الآلاف يتدفقون على المدينة.

طفلان يحملان مساعدات بمدرسة تؤوي نازحين فروا من العنف في السودان 10 مارس 2024 (أ.ف.ب)

بدروه، قال مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في السودان «أوتشا»، يوم الاثنين، إن العشرات قتلوا وجرحوا في أعقاب موجة من العنف المسلح والهجمات في ولاية الجزيرة. وأضاف أن نحو 46 ألف شخص على الأقل فروا من بلدات شرق الولاية إلى ولايات القضارف وكسلا ونهر النيل. وذكر أن التقارير الميدانية الأولية تشير إلى أن «قوات الدعم السريع» شنت هجوماً كبيراً على شرق الجزيرة، وأطلقوا النار على المدنيين دون تمييز وارتكبوا أعمال عنف جنسي ضد النساء والفتيات، بالإضافة إلى نهب واسع النطاق للأسواق والمنازل وحرق المزارع، مما أدى إلى دمار واسع النطاق.


مقالات ذات صلة

مصر و«الجامعة العربية» تدينان «قوات الدعم السريع» السودانية

شمال افريقيا أعمدة الدخان في مناطق عدة من العاصمة السودانية من جراء قصف بالطيران (أرشيفية - رويترز)

مصر و«الجامعة العربية» تدينان «قوات الدعم السريع» السودانية

أدانت مصر وجامعة الدول العربية في بيانين، «قوات الدعم السريع» في السودان بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ووصفتها القاهرة مجدداً بـ«الميليشيا».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مئات الأشخاص يفرون يومياً من دارفور إلى مخيم أدري الحدودي في تشاد (رويترز)

«بعثة تقصي الحقائق الأممية»: حجم العنف الجنسي في السودان «مهول»

حمّلت بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان «قوات الدعم السريع» في السودان، المسؤولية عن ارتكاب عنف جنسي على نطاق واسع و«بدرجة مهولة».

شمال افريقيا عناصر من قوات الأمن السودانية يشاركون في حفل افتتاح مقر في مدينة بورتسودان التي يسيطر عليها الجيش السوداني 28 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

ميليشيا «الأورطة الشرقية» تعلن نشر قواتها في شرق السودان

أعلنت ميليشيا «الأورطة الشرقية»، الثلاثاء، نشر قواتها في شرق السودان، بالتنسيق مع قوات الجيش الذي يخوض حرباً طاحنة مع «قوات الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
العالم العربي نازحون من المناطق الشرقية لولاية الجزيرة السودانية يصلون إلى مدينة القضارف أول من أمس (أ.ف.ب)

أكثر من 14 مليون نازح في السودان

نزوح أكثر من 14 مليون شخص من منازلهم في السودان.

«الشرق الأوسط» (جنيف )
شمال افريقيا أرشيفية لدورية لـ«قوات الدعم السريع» في إحدى المناطق القتالية بالسودان (رويترز)

الصحة السودانية تعلن حصيلة جديدة لضحايا هجوم «قوات الدعم السريع» في الجزيرة

قُتل 124 شخصاً، وأصيب 200 آخرون بولاية الجزيرة بوسط السودان جراء هجوم شنته «قوات الدعم السريع» التي حاصرت عدداً من القرى الجمعة.

«الشرق الأوسط» (بورت سودان)

12 ميليشيا مسلحة حليفة للجيش متهمة بتهديد استقرار شرق السودان

موالون للجيش في العاصمة المؤقتة بورتسودان (أ.ف.ب)
موالون للجيش في العاصمة المؤقتة بورتسودان (أ.ف.ب)
TT

12 ميليشيا مسلحة حليفة للجيش متهمة بتهديد استقرار شرق السودان

موالون للجيش في العاصمة المؤقتة بورتسودان (أ.ف.ب)
موالون للجيش في العاصمة المؤقتة بورتسودان (أ.ف.ب)

أثار إعلان نشر الجيش السوداني «ميليشيا قبلية» مسلحة جديدة في شرق السودان مخاوف قديمة من انفجار الأوضاع في الإقليم المضطرب، وانتقال الحرب إلى ولاياته الثلاث: القضارف، وكسلا، والبحر الأحمر، وقد تتدخل فيها بعض دول الجوار مثل إريتريا وإثيوبيا ما يؤدي لزعزعة الأوضاع في كل الإقليم، لا سيما أن المكونات الإثنية ممتدة ومتداخلة في الحدود الجغرافية للبلدان الثلاثة.

وأعلنت ميليشيا أطلقت على نفسها اسم «الأورطة الشرقية» وبالتنسيق مع الجيش، نشر قواتها في عدد من المناطق بشرقي البلاد، للمشاركة في القتال ضد قوات «الدعم السريع»، وذلك بعد أن تلقت تدريبات في معسكرات الجيش الإريتري داخل الأراضي الإريترية.

جانب من احتفال للجيش ومؤيديه في بورتسودان (أ.ف.ب)

يقود الميليشيا الجنرال الأمين داود، وهو أحد قادة شرق السودان، وكان وقع نيابة عنه في اتفاق سلام السودان في جوبا، بينما رفض الزعيم القبلي الناظر محمد الأمين ترك تمثيله لشرق السودان لأسباب قبلية.

وأعلن ترك رفضه لنشر قوات الميليشيا، وحذر من «عواقب وخيمة» قد تترتب جراء ذلك، وجزم بعدم السماح بانتشارها في مناطقه... وتعهد بالتصدي لها ما لم تتدخل قيادة الجيش لوقف ما أسماه «تلك الفوضى»، وفقاً لما نقلته «الشرق الأوسط» عنه.

ودربت دولة إريتريا داخل أراضيها وتحت إشراف جيشها أربع ميليشيات مسلحة من شرق السودان، وهي: «الأورطة الشرقية»، «قوات مؤتمر البجا المسلح»، «قوات تحرير شرق السودان»، و«مؤتمر البجا - القيادة الجماعية»، إلى جانب أن حركات دارفورية مسلحة دربت أنصارها في شرق السودان في دولة إريتريا المجاورة أيضاً.

من نشاطات الجيش ومؤيديه في بورتسودان (أ.ف.ب)

ويتخذ الجيش السوداني من بورتسودان، وهي أكبر مدن شرق السودان عاصمة بديلة، وأصبحت مقراً لقائد الجيش ورئيس «مجلس السيادة الانتقالي» الفريق أول عبد الفتاح البرهان، غداة خروجه من الخرطوم بعد نحو أربعة أشهر من حصار قوات «الدعم السريع» له هناك.

وأدى انتقال الحكومة إلى بورتسودان ونزوح مئات الآلاف للمدينة إلى سخط عام بين بعض مكونات شرق السودان، الذين اعتبروا وجود الحكومة وحلفائها من الحركات المسلحة الحليفة للجيش ثقلاً على موارد الإقليم والمدينة.

وتبعاً لذلك، دأب قائد ميليشيا «مؤتمر البجا المسلح» شيبة ضرار على المطالبة بإبعاد قوات الحركات الدارفورية من الإقليم، وإعادة قادتها، ومن بينهم وزير المالية جبريل إبراهيم، وحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي وآخرين إلى ديارهم في دارفور، وهدد آخر بنزع سلاح هذه الميليشيات التي تعمل تحت اسم «القوات المشتركة».

وأشار الناشط السياسي عزام عبد الله في مقطع فيديو بصفحته على منصة «فيسبوك» إلى وجود 8 ميليشيات قبلية مسلحة في شرق السودان هي: «مؤتمر البجا المسلح، بقيادة موسى محمد أحمد، قوات مؤتمر البجا الكفاح المسلح بقيادة الجنرال شيبة ضرار، قوات مؤتمر البجا القيادة الجماعية بقيادة أبو آمنة، الحركة الوطنية للعدالة والتنمية بقيادة الشيخ محمد طاهر سليمان بيتاي، قوات الأورطة الشرقية بقيادة الأمين داود، قوات تحرير السودان بقيادة إبراهيم دنيا، حركة الأسود الحرة بقيادة مبروك مبارك سليم، إضافة إلى قوات المنشق عن الدعم السريع أبو عاقلة كيكل».

مسلحون من ميليشيا داعمة للجيش السوداني (أرشيفية - أ.ف.ب)

ولا يقتصر وجود الميليشيات المسلحة في شرق السودان على «الميليشيات الشرقية» وحدها، فهناك أربع ميليشيات دارفورية حليفة للجيش تعمل في الإقليم، وهي: «قوات حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، قوات حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، قوات حركة تحرير السودان بقيادة مصطفى طمبور، قوات تحرير السودان بقيادة صلاح تور».

وتم تكوين هذه القوات في شرق السودان بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل (نيسان) 2023 من مقاتلين من أصول دارفورية تم تدريبهم بمعسكرات الجيش، وفي معسكرات الجيش الإريتري.

وتقاتل تلك الجماعات مع الجيش ضد قوات «الدعم السريع» تحت اسم «القوات المشتركة»، ويقودها مسؤولون كبار في الحكومة التي تتخذ من بورتسودان مقراً لها.

ويرى الدكتور عزام عبد الله أن ميليشيات شرق السودان تعيش نزاعات المكونات السكانية في الإقليم، وخصوصاً عشائر الهدندوة والبني عامر، ويقول: «إحدى هاتين المجموعتين تصنف الأخرى بأنها غير سودانية»، ويتابع: «لكلتا المجموعتين امتدادات في دولة إريتريا المجاورة».

عناصر من الجيش السوداني في القضارف (أ.ف.ب)

ويحذر عبد الله من احتمالات «انفجار النزاعات الكامنة بين هذه المجموعات، ومن تحولها لحرب عابرة للحدود»، ويتساءل: «بدأ تمرد دارفور بحركتين، وتشظيتا إلى 99 حركة مسلحة، فكيف سيكون الحال في شرق السودان الذي بدأ بأكثر من 8 حركات مسلحة».

واتهم الرئيس الإريتري آسياس أفورقي «أطرافاً خارجية بالتدخل من أجل تفكيك السودان وجيشه»، وأرسل تحذيرات لدول جوار من تحويل السودان ضحية للأجندة الإقليمية، وهي إشارة لدولة إثيوبيا التي يزعم أنها تؤيد قوات «الدعم السريع».

وحذر رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي بابكر فيصل، في إفادة لـ«الشرق الأوسط»، من انفجار الأوضاع في الولايات الشرقية، وقال: «هناك دول في الإقليم –لم يسمها- لم تتورع عن إقامة معسكرات تدريب وتسليح في أراضيها لمكونات قبلية من شرق السودان».

واعتبر نشر تلك الميليشيات إيذاناً بانفجار الأوضاع في الولايات الشرقية المتوترة، بقوله: «هي منطقة متوترة ومنذرة باندلاع نزاعات تحكمها المصالح المتشابكة والمتعارضة لعدد من الدول الإقليمية».

عناصر ميليشيات موالية للجيش في القضارف (أ.ف.ب)

ووفقاً لتقرير أعدته «الشبكة الشبابية للمراقبة المدنية»، فإن شرق السودان يواجه عدداً من التحديات الناتجة عن الأوضاع المعقدة في الإقليم، «وتتمثل في انتشار الحركات المسلحة والاستنفار العشوائي، وهشاشة الوضع الأمني، وأخطار العودة إلى القبيلة والعرق، وبروز نخبة جديدة ذات طابع قبلي، والتدخلات الخارجية، والمناوشات بين الجيش وقوات (الدعم السريع)».