أثارت أعمال درامية تبثّها القنوات الجزائرية على شاشاتها بمناسبة شهر رمضان جدلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب تمحورها حول عالم الجريمة، ما استدعى تدخّل الحكومة لضبط المشهد بما تراه متناسباً مع «حرمة شهر رمضان». ويُشكل عالم الجريمة والمافيا وتبييض الأموال والبلطجة محوراً لغالبية الأعمال الدرامية، التي تبثّها القنوات الجزائرية بدرجات متفاوتة في حدة تناول التفاصيل، ومن بينها أعمال مثل (دموع الولية) و(الرهان)، و(حداش حداش 2) و(البراني) و(انتقام الزمن).
وتصدّر المشهد مسلسل (البراني) للمخرج يحيى مزاحم، المقتبس من قصة (السجين) لمزاحم الصادرة في عام 2016، بتخطّي عدد مشاهديه ثلاثة ملايين منذ حلقته الأولى، وفقاً لما أعلنته قناة (الشروق) التّي تبث حلقاته، وذلك على الرغم من الضجّة التي أحدثها على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مشاهد، قال البعض إنها تعدّت على «حُرمة» شهر الصوم. وكانت إحدى اللقطات التي أثارت الجدل في المسلسل، في الحلقة الأولى، عندما اقتاد بطله الممثل كريم دراجي، (لعب دور محمد)، نجمة «التيك توك» نورين حايد، التي تلعب دور منال، في نزهة إلى الغابة بسيارته، وحرّضها على تناول المخدرات بتفاصيل أثارت حفيظة العديد من المشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي.
من حكايات الحماة إلى عالم الجريمة
ترى الكاتبة الصحافية المتخصصة في الشأن الثقافي، نبيلة سنجاق، أن الأعمال الدرامية الجزائرية لموسم رمضان 2024 تسير على نفس خطّ المسلسلات المُنتجة في الموسمين الأخيرين. وقالت لـ«وكالة أنباء العالم العربي» إنّ كتّاب السيناريو يتّجهون لمحاكاة الواقع الجزائري من خلال «استنطاق بعض المظاهر الاجتماعيّة التي استفحلت في العشريّة الأخيرة... خاصة ظاهرة الإجرام، مثل تهريب الآثار وتبييض الأموال، وتجارة المخدّرات وآثارها الوخيمة على المجتمع وعلى فئة الشباب تحديداً». مضيفة أن هناك «ثمّة رغبة في كتابة سيناريوهات تختلف عمّا سبَق في التسعينات وبداية الألفية، والابتعاد عن تصوير المشاكل العائليّة الصغيرة والصراعات الذاتيّة بين الحماة والكنة (زوجة الابن)، أو بين الأخوة حول مسائل الإرث أو النسب، رغم أن هذه المواضيع ما زالت موجودة ومستفحلة، وبحاجة إلى من يتناولها فنياً».
كما أشارت سنجاق إلى «النزعة نحو الذهاب إلى أعمال فنية تروي قصصاً درامية عن صراع الجماعات بشيء من الجرأة والمغامرة، وتسمية الأشياء بمسميّاتها ورفع التكليف، الذي زعزع المتلقّي وأحرجه أحياناً، ووضعه أمام طريقة معالجة جديدة ومباشرة شكلاً ومضموناً، حتّى رآها البعض مستفزّة وخادشة لحرمة رمضان».
وتابعت الكاتبة الصحافيّة موضحة: «لقد أصبح مشهد تعاطي المخدرات الصلبة في رمضان، وعلى شاشة ما بعد الإفطار، حدثاً جللاً رغم أنّ ذلك يحدث يومياً وراء الجدران». وأوضحت أنّ عموم ما تمّ تقديمه في بعض المسلسلات الرمضانيّة «هو جزء من واقع معروف ومعيش يومياً، وهو جزء مما تتناقله التقارير الصحافيّة والمستجدّات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية». وترى نبيلة أنّ ما يحدث من نقاش وجدل اجتماعي تواصلي بمناسبة الموسم التلفزيوني الرمضاني «دليل على وجود حركيّة فنيّة بكل ما تحمل من إيجابيات وسلبيات». ودعت القائمين على صناعة الدراما في الجزائر إلى «التعامل بذكاء فنيّ أكبر مع المشاهد ومعرفة سيكولوجية المتلقّي الجزائري، وعدم استسهال عمليّة الكتابة، والتركيز في تشخيص القضايا التي تهمّ المشاهد وفي الشكل الأنسب، خاصة إذا كانت ستتوافق مع شهر رمضان».
وزارة الاتصال تنتفض
استدعى ما أثاره مسلسل (البرّاني) من انتقادات وجدل على مواقع التواصل الاجتماعي تدخّل الحكومة عبر وزارة الاتصال، وكانت البداية باستدعاء مدير قناة (الشروق) التي تبثه إلى مقرّ الوزارة، الأسبوع الماضي، ليقرر وزير الاتصال بعد ذلك استدعاء جميع مديري القنوات من أجل وضع النقاط على الحروف.
ووفقاً لبيان صادر عن الوزارة، فإنّ وزير الاتصال محمد لعقاب هدّد في اجتماعه مع مديري القنوات يوم الأحد، بأنّ الوزارة لن تتوانى في اتخاذ إجراءات لسحب رخص التصوير من وكالات الإنتاج، وإدراجها ضمن المنتجين الممنوعين من الحصول على رخص التصوير مستقبلاً. وقالت الوزارة في بيانها: «بعد الملاحظات التي سجلتها حول مختلف البرامج الرمضانية، فإنها تُذكّر كافة المنتجين ووكالات الإنتاج السمعي البصري، الحاصلين على رخص التصوير من مصالح الوزارة، بضرورة الالتزام بمحتوى رخصة التصوير الممنوحة، والتقيّد بالتعهّد الممضي عليه بعد تسلم الرخصة». واستناداً إلى تقارير إعلامية، فإن لعقاب لفت خلال ذلك الاجتماع إلى أنّ «بعض البرامج تضمّنت لقطات غير مناسبة، وغير متوافقة مع التقاليد الاجتماعية الجزائرية وحرمة شهر رمضان». وقال إن «اللقطات كانت صامتة، وكان يمكن حذفها دون التأثير على السيناريو»، مبيناً أن القنوات التلفزيونية «تجاوزت الحدود المهنيّة والأخلاقية».
قانون العقوبات والدراما
في السياق، يرى أستاذ القانون بجامعة سطيف، الدكتور عبد الحليم غجاتي، أنّ هذه البرامج «تشكّل حتماً خرقاً لقواعد أخلاقيات السمعي البصري، ما يترتب عليه عقوبات إدارية، غير أنها لا تشكّل أفعالاً يجرّمها قانون العقوبات». وقال غجاتي لـ«وكالة أنباء العالم العربي»: «قد يُوصف محتوى بعض البرامج التلفزيونية، التي تتناول موضوع الجريمة والانحراف السلوكي في المجتمع بشيء من التفصيل المبالغ فيه، بأنه غير مهني، طبقاً لقواعد الاحتراف والأخلاق المهنية». وأوضح أن ذلك قد «يشكّل قاعدة لمحاكاة هذه الأفعال والسلوكيّات لشريحة واسعة من فئات المجتمع، خاصة المراهقين»، مضيفاً أن ذلك «قد يأتي بآثار عكسية عندما يتحوّل تسليط الضوء على جريمة، وفق المعايير الفنيّة، إلى تحريض صريح غير مباشر لتقليد تلك المشاهد على أرض الواقع».
من جانبه، يرى أستاذ التعليم العالي بكليّة الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر، بوجمعة رضوان، أن السلطة الوطنيّة المستقلّة لضبط السمعي البصري، هيئة مستقلة قائمة بذاتها، وهي المختصة بضبط المضامين الإعلامية التي تبث عبر وسائل الإعلام والاتصال، وليس الوزير. وقال رضوان لـ«وكالة أنباء العالم العربي» إن «المشكل مركّب؛ فأولاً سلطة الضبط الجديدة بحكم قانون 2023 لم تُنصّب إلى حد الآن... الوزير نصّب رئيساً للسلطة، دون أن يصدر مرسوم رئاسي لتعيينه كما تنص المادة 43 من القانون. نحن في وضع لا يوجد فيه احترام للقانون من حيث الشكل على الأقل». وكان وزير الاتصال قد أصدر قراراً في فبراير (شباط) الماضي، بتعيين عمّار بن جدة رئيساً بالنيابة للسلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري.
ويرى الأستاذ الجامعي أن كلمة «استدعاء» التي استخدمتها وزارة الاتصال، حين قالت إنها استدعت مدير القناة، «للأسف تحمل تضمينات قضائية». وتساءل: «هل يجوز لممثل السلطة التنفيذية أداء هذا الدور؟ وهل من مصلحته القيام به من كل النواحي؟».
وأوضح رضوان أن «المشكل في كلمة استدعاء أنها تحيل إلى الرقابة، والرقابة بوصفها فلسفة لا تعترف بالضبط»، الذي هو «مسألة مهنية وقانونية لها أبعاد متعددة، وهي تعترف بمبدأ الحرية والإبداع، وتفرض الضبط حتى لا تنحرف ممارسة حرية الإبداع عن حق الجمهور في الإعلام والترفيه». وقال إنّ «حقّ الجمهور هو الهدف الأسمى في فلسفة الضبط؛ لا يُمكِن تصوّر حرية إبداع وحرية صحافة دون الاعتراف بحق الجمهور في الإعلام والترفيه، وفي الحصول على المعلومات حتى يمارس حرياته ويضمن حقوقه المكفولة دستورياً».