«فارق كبير بين رمضان العام الماضي باجتماع العائلة داخل بيوتنا والصلاة مع الجيران والأصدقاء في مساجدنا التاريخية، ورمضان هذا العام». هذه الجملة بات يكررها أغلب مواطني مدينة درنة، التي تعرضت في سبتمبر (أيلول) الماضي لفيضانات عنيفة بسبب إعصار «دانيال»، الذي خلف آلاف القتلى، وألحق بالمدينة أضراراً بالغة.
ووفقاً لروايات كثير من سكان درنة، سواء من بقي منهم بداخلها أو من نزح عنها، فسيكون هذا أول رمضان يمر عليهم بعد كارثة الفيضان «مليئاً بالذكريات القاسية، وخالياً بشكل كبير من أجواء الاحتفالات الاعتيادية في الشهر الكريم».
يقول نوري سفراكس، أحد سكان المدينة، لـ«الشرق الأوسط» إن رمضان «تجمع عائلي، وبالتالي ستغيب بهجته عن عدد كبير جداً من أهالي المدينة الذين فقدوا غالبية أفراد أسرهم، فيما لا يزال البعض يبحث عن رفات ذويه بين الجثث المجهولة الهوية».
وأضاف سفراكس، مدير جامعة السلام الدولية فرع درنة، وأحد الذين فقدوا عدداً كبيراً من أسرته إن الاحتفال برمضان هذا العام «سيقتصر على الطقوس الدينية، في ظل غياب الأحباب، خاصة مع تضرر منزلنا، واضطراري لاستئجار مسكن آخر بمدينة سوسة»، لافتاً إلى أنه يحاول إصلاح منزله تمهيداً لعودته إلى درنة، ومشيراً إلى أن المدينة باتت «تفتقد أي مظهر من مظاهر الزينة أو مكبرات المساجد التاريخية، التي ميزت هوية المدينة، من بينها مسجد الصحابة، و(الدرقاوية)، كما أن بعضها انهار والبعض الآخر تجري صيانته».
ورغم تأكيده على «الجهود الكبيرة»، التي يجريها (صندوق إعادة إعمار المدينة) لرفع الركام وفتح مسارات لربط شرق المدينة بغربها، وتنظيف بعض الأحياء وتمهيد شوارعها وتزيينها بالأضواء، يستبعد سفراكس أن يسهم ذلك في عودة عدد كبير ممن نزحوا من أهالي المدينة إليها خلال الأشهر المقبلة. وأرجع ذلك إلى «عدم قدرة بعض المواطنين على إكمال حياتهم داخل المدينة بعد أن فقدوا عدداً كبيراً من ذويهم، أو لسقوط منازلهم، فضلاً عن تأثر بعض الخدمات كشبكة الصرف الصحي في بعض أحياء المدينة».
ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، فإن أكثر من 40 ألف مواطن من مجمل سكان درنة، الذين كانوا يقدرون بـ100 ألف نسمة، نزحوا بسبب الفيضانات. فيما تشير طبيبة الأطفال، أمل جمعة، التي تنتمي بدورها إلى مدينة درنة، إلى أن هناك محاولات جادة من قبل المسؤولين بـ(صندوق إعادة الإعمار) لإشعار الناس ببهجة رمضان، ومن خلال افتتاح بعض الحدائق، وتزيين مدخل المدينة، والإعلان عن تنظيم بعض مسابقات كرة القدم، لكن ذلك «لا يمكنه أن ينتزع عنهم الحزن، وبالتالي جاءت مظاهر الاحتفال محدودة».
أما الناشط المدني حمدي بلعيد، فأشار لمعاناته من ارتفاع أسعار إيجار الوحدات السكنية بالمدينة، التي باتت تتراوح من 1000 دينار إلى 1800 دينار، بعد أن كانت في حدود 600 دينار فقط، فضلاً عن رفض بعض أصحاب العقارات إسكان الشباب غير المتزوج. وقال بلعيد لـ«الشرق الأوسط»: «رمضان يأتي هذا العام من دون والداي، وثلاثة من أشقائي الذين فقدتهم في كارثة الفيضان التي دمرت منزلنا، ولا أعرف كيف أنسى تجمعنا على مائدتي الإفطار والسحور».
ويأمل بلعيد، وهو عضو بجمعية الهلال الأحمر الليبي، ألا يقتصر الأمر في رمضان على موائد الرحمن، وتوزيع المساعدات والسلال الغذائية، وأن يتم تبشير أهالي درنة بمخططات إعادة إعمار المدينة ليبعث ذلك الأمل داخلهم.
وكان أسامة حماد، رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان، قد أسند نهاية العام الماضي رئاسة «صندوق إعادة إعمار درنة» إلى بلقاسم، النجل الأصغر للمشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني»، في خطوة أثارت الجدل، خاصة بالغرب الليبي.
من جانبها، ورغم نزوحها من درنة إلى طرابلس بعد كارثة السيول، تؤكد مريم الفريخ، وهي ربة منزل، أنها باتت غير قادرة على الابتهاج كالسنوات الماضية، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا يكاد يمر يوم دون أن أتذكر ما حدث، وكيف رأينا جيراننا ومعارفنا وأفراداً من مدينتا والمياه تجرفهم وهم يستغيثون، دون أن يكون بوسعنا مساعدتهم».
وحتى اللحظة الراهنة لا يوجد إحصاء نهائي لعدد ضحايا الفيضانات بدرنة، خاصة مع استمرار الكشف عن الجثث، لكن تقديرات وزارة الداخلية بحكومة حماد تشير لتجاوزهم حاجز 5000 حالة.
وتقول الدكتورة مروة الهوني، المشرفة على العيادة النفسية بدرنة، إن العديد من المرضى «جاءوا للحصول على الدواء قبل قدوم رمضان تخوفاً من تعرضهم لانتكاسة، مع تجدد الذكريات الأليمة بغياب الأهل والأقارب وتذكر كيفية وفاتهم».
وحول حجم المترددين على العيادات النفسية بدرنة، التابعة لمستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية بطرابلس، قالت الهوني: «الحالات انخفضت عما كانت عليه الحال في بداية الكارثة، فنحن نستقبل حالياً ما بين 10 إلى 20 حالة يومياً، وبالطبع النساء هن الأكثر تردداً على العيادة لتلقي العلاج».