في خضم مشاهد الدمار والموت التي خلفها «زلزال الحوز»، برزت قيم التضامن والتلاحم والكرم بين المغاربة، بشكل أوضح حسب متابعين، مغاربة وأجانب، أن محنة الكارثة كشفت وحدة المغاربة وجمال معدنهم، وقدرتهم على الصبر في أوقات الشدة والمحن، والتعامل معها بكبرياء وطيبة قلب، ومسارعتهم إلى التضامن والتآزر ومد يد المساعدة إلى بعضهم البعض.
المشاهد كثيرة، سواء تعلق الأمر بتلك التي تعبر عن كرم المنكوبين، الذين حرصوا على حسن وفادة من تنقل إلى مناطقهم المدمرة بفعل الزلزال، من إعلاميين ومسعفين ومتضامنين، أو تلك التي تتعلق بمغاربة سارعوا إلى التبرع بالدم، والتضامن مع المتضررين بما يحتاجونه من مأكل ومشرب وملبس وأغطية وخيام، رغم فقرهم وحاجتهم إلى ما يساهمون به من تبرعات.
«كيف يمكنني أن أبعث إليك، يا ولدي، ببعض الزعفران؟»، هكذا خاطبت سيدة في عقدها السادس والدموع في عينيها، شابا كان بصدد الاستفسار عن أحوالها بعد الزلزال الذي أحدث تصدعات شديدة في بيتها الطيني بإحدى المناطق المنكوبة.
نموذج هذه السيدة، التي لم تتخل عن عادة العطف على الغريب وإكرام الضيف، حتى في أشد المحن قساوة، هو مثال لعشرات المشاهد المؤثرة التي تناقلتها القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، خلال كارثة الزلزال.
حديث كثيرين، وبينهم أجانب، عن «كرم فائض» أبان عنه المنكوبون، رغم محنة الزلزال، لخصته الصحافية المغربية هاجر الريسوني، على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، حيث كتبت: «منذ أمس وأنا أقرأ وأشاهد شهادات لأجانب، وحتى لمغاربة، عن كرم ضحايا الزلزال عندما يصل إليهم المتطوعون أو الصحافيون، فعلا إنه المغرب العميق... لكن عميق بكرمه وحسن الضيافة والابتسامة في وجه المحن... إنهم يستحقون الأفضل»، وزادت قائلة: «أتمنى أن تدفع هذه الفاجعة المسؤولين إلى التفكير في سكان هذه المناطق، التنمية أولا، التنمية أولا... نريد أن يكون المغرب كله على نفس الدرجة من التنمية».
وأرفقت الريسوني تدوينتها بتغريدة للكاتبة والصحافية سابقا في شبكة «بي بي سي»، البريطانية أليس هانتر موريسون، على حسابها بموقع «x» (تويتر سابقا)، والتي عاشت رعب الزلزال في منطقة الحوز، تقول فيها: «ما أحبه كثيراً هو أنك لا تستطيع أن تحبط المغاربة. إنهم هنا بلا مأوى لكنهم ما زالوا يشاركونني ضيافتهم. عروض الشاي وطاجين الدجاج».
في قرية مولاي إبراهيم، حيث عاينت «الشرق الأوسط» حجم الخراب الذي خلفه الزلزال، أكدت شهادات متضررين حرصهم على كرم الضيافة، حتى في أشد الأوضاع المعيشية قساوة. ومن ذلك شهادة عبد الرحمن أوريك، وهو في عقده السابع، والذي بدا مرتاح النفس، على الرغم مما عاشه، هو وأهل القرية، من خوف وضياع في الأرواح والمساكن والمتاع، إلى درجة أنه لم يتردد في دعوة مراسل «الشرق الأوسط» إلى كأس شاي وأخذ قسط من الراحة، تعبيرا عن كرم الضيافة الذي يميز المغاربة، مذكرا بالمناقب والخصال التي شاعت على مدى السنوات، بخصوص مولاي إبراهيم، الولي الصالح الذي قيل عنه إنه «كان كريم المائدة ومقصد كل جائع وحائر».
على الجانب الآخر من عملة قيم النبل التي أبان عنها المغاربة خلال محنة الزلزال، جاءت مشاهد التضامن لتبرز قيم التآزر بين المغاربة، محولة المناطق المنكوبة إلى وجهة لمئات قوافل المساعدات القادمة من مختلف جهات البلد.
وتوقف كثيرون عند بعض المشاهد التضامنية المعبر عنها من طرف نساء ورجال من طبقات اجتماعية بسيطة. وكتب محمد روبا، وهو أستاذ للغة الإنجليزية، على حسابه بـ«فيسبوك»، عن مشاهد مسارعة بسطاء المجتمع إلى المساهمة في المجهود التضامني: «إنهم بسطاء المغرب الأغنياء بقيمهم وهممهم... مغاربة فقراء يتبرعون رغم الحاجة، لضحايا الزلزال. إن مبادرات التضامن الفردية التي قام بها مغاربة بسطاء رجالا ونساء خلفت صدى واسعا في العالم بأسره، بحيث شدوا أنظار العالم الذي انبهر بروحهم التضامنية التي كشفت كرم وعظمة الشعب، وغنى في نفوس الفقراء، رغم كارثة الزلزال التي أودت بحياة نحو 3 آلاف قتيل، وحركت مواقف أولئك المواطنين المتبرعين بجزء مهم مما يملكون مشاعر الكثيرين حول العالم».
في تفاعله مع مظاهر التضامن التي عبر عنها المغاربة، خلال هذه الكارثة الطبيعية، قال الفنان التشكيلي حسان بورقية لـ«الشرق الأوسط» إن التفاعل مع المتضررين من الزلزال «واجب، وليس شفقة، ويعزز ثقافة التشارك».
وأضاف، وهو في غاية التأثر: «أنا جزء من المغاربة، وقد أثرت فيّ بعض المشاهد المصورة التي أظهرت روح التضامن عند المغاربة، من قبيل تلك السيدة التي طلبت من المتطوعين لنقل المساعدات للمتضررين أن يقبلوا خاتم الذهب الذي هو كل ما تملك، أو تلك العجوز التي جاءت تحمل عبوة زيت بخطوات متعبة، أو ذلك الشيخ الذي جاء حاملا كيس دقيق قبل أن ينسحب على متن دراجته الهوائية في هدوء ومن دون بهرجة، أو مشهد شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، جاء لمد يد المساعدة للمتطوعين في الحملة التضامنية».
من جانبه، توقف الكاتب العماني حمد الصبحي عند هذه المشاهد التي تأثر بقوة معانيها، حيث نشر تدوينة على حسابه بـ«فيسبوك»، أرفقها بصورة للعجوز التي جاءت تحمل عبوة زيت، انخراطا منها في حملة التضامن مع المتضررين: «هذه أم المغرب، تدفئ الروح بمشيتها. شاهدتها أكثر من مرة، وفي كل مرة تذكرت أمي وهي تفكر في الألم وتشعر به. عظيمة هذه المرأة، تحمل الزيت، تطوي الشارع بالأمل، تزرع الريح في كل خطوة، تشرق بدموعها، إنها الحقيقة الوحيدة في الحياة، هي الإحساس، الإحساس بالآخر، تعدّت حواجز الطبول وقرقعة الأعراس، تعكزت بأيامها لتصل إلى هناك، فوصلت بزيت الطبخ، هذا كل ما تملكه من دارها الصغيرة. خرجت من دارها متأبطة زيت الطعام، تخاف على صغارها، على كبارها من الجوع، من حرب الأمعاء، من قسوة الحياة بأن تكون خالية من الطعام. عظيمة هذه المرأة المغربية، وهي تغسل وجهها بالأمل الكبير في أن تكون جزءاً من هذا المنعطف التاريخي الذي يمر به مغربها. الزيت هنا ليس إلا إيماءة للقلب الذي انتفض على نفسه، كما حدث مع تلك المرأة التي انتزعت خاتمها البسيط وتريد أن تتبرع به، وهو الوحيد الذي يزيّن أصبعها، وتحتفظ به كرمز وعهدة في يوم زواجها، وكذلك الأمر عند العم كريم الذي ملأ حلق المغاربة، وهو يسرّع دراجته الهوائية حاملاً كيسا من الطحين، وغيرها من الأمثلة الإنسانية التي ستكون ماثلة في خزانة التاريخ».
والمثير في مشاهد الهبة التضامنية التي شغلت المغاربة عما سواها، خلال محنة الزلزال، وما رافقها من شهادات وكتابات موثقة للحدث، أن موجات التضامن لم توفر مناسبة العطف والرفق حتى بالحيوان، في المناطق المنكوبة. وقد وثق أحد المتضامنين الذين تنقلوا إلى المناطق المنكوبة لذلك، حيث كتب: «لقد نثرنا القمح والإعانات في أعالي الجبال، حتى لا يقال إن الطير والوحوش ماتت جوعا في بلد المغرب. واعتبرها المغاربة بكل كرم، أنها صدقة ورحمة على ضحايانا في الزلزال»، وذلك في إجابة مغربية جميلة، على كلام منسوب للخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، قال فيه: «انثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين».