ليبيا: «المتوسط» يلفظ عشرات الجثث... و«الهجرة الدولية» تحصي 36 ألف نازح

عائلة آل الشيخي فقدت 65 فرداً... وعشرات القتلى لا يزالون مطمورين تحت الأنقاض

بعض من عائلة آل الشيخي التي قضيت في درنة (متداولة على مواقع التواصل)
بعض من عائلة آل الشيخي التي قضيت في درنة (متداولة على مواقع التواصل)
TT

ليبيا: «المتوسط» يلفظ عشرات الجثث... و«الهجرة الدولية» تحصي 36 ألف نازح

بعض من عائلة آل الشيخي التي قضيت في درنة (متداولة على مواقع التواصل)
بعض من عائلة آل الشيخي التي قضيت في درنة (متداولة على مواقع التواصل)

على حافة البحر المقابلة لمدينة درنة الليبية، تترقب عشرات الأسر الرابضة هناك أن تعيد أمواجه جثث ذويهم، الذين جرفتهم السيول القاتلة منذ الأحد الماضي، وكلما التقطت قوات الإنقاذ التابعة لجمعية الهلال الأحمر إحدى الجثث إلا وتجمعوا حولها علّهم يتعرفون عليها. وفي غضون ذلك، تزداد حالات النزوح من المدن التي شهدت إعصار «دانيال» المدمر إلى 36 ألف مواطن.

ومع تكشّف الأوضاع المأساوية في المدينة، الواقعة شمال شرقي ليبيا، بدأ الإعلان عن أسماء أسر قضت بأكملها بسبب الإعصار الذي اجتاح منازلهم، وبدت سيرة الموت في درنة أكبر من إقامة سرادقات للعزاء، فالبلد جميعه مشغول بالبحث عمن هم تحت الإنقاض، أو من ابتلعهم البحر.

وتأتي عائلة آل الشيخي، التي قتل منها 65 فرداً، في قائمة الأسر التي فقدت أكبر عدد من أفرادها، وقد قال مسؤول بالمجلس البلدي لدرنة إنه لم يتبق من أسرة الحاج علي فرحات الشيخ إلا نجله أبريك وابن ابنه فرحات.

جانب من تجميع جثث الضحايا في أحد شوارع درنة الثلاثاء (الهلال الأحمر الليبي)

تقول رانيا الصيد، عضو الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، لـ«الشرق الأوسط» متحدثة عن فداحة الأوضاع في المناطق المتضررة، بالنظر إلى تراكم الجثث في الشوارع، وعدم وجود فرق إنقاذ للمساعدة في نقلها: «هناك الكثير من المفقودين، والعديد منهم تحت الأنقاض أو في البحر».

بدوره، نعى أشرف بلها، رئيس تجمع تكنوقراط ليبيا، سبعة من أقربائه وأصهاره، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين في عداد المفقودين، وأمام كثرة الموتى، تحولت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بديلاً لسرادقات العزاء. كما نعى جمال الفلاح، رئيس المنظمة الليبية للتنمية السياسية، عائلة ابن عمه عبد الله الفليليح، التي قضت هي الأخرى في درنة.

قوات من أمن السواحل بطرابلس للمشاركة في عملية الإنقاذ في المناطق المتضررة في شرق ليبيا (أمن السواحل)

وفي إطار جهود الحكومة لاحتواء بعض جوانب الكارثة، أمر وزير الشباب بحكومة «الوحدة»، فتح الله الزني، بتجهيز المرافق الشبابية، وتحويلها لإيواء للمتضررين في المناطق المنكوبة، كما تم تسيير فريق تطوعي من الشباب إلى شرق ليبيا بالتنسيق مع البلديات لتوفير المساعدة العاجلة والضرورية لهم، ومنها الإيواء المؤقت، والمواد الغذائية، والمياه النقية، والأدوية، والمستلزمات الأساسية الأخرى.

في غضون ذلك، يواصل متطوعو جمعية الهلال الأحمر الليبي عمليات الإنقاذ، حيث أعلن اليوم (الأربعاء) عن انتشال طفل من تحت الركام في مدينة درنة، وسط بكاء أبيه الذي أصر على حمل جثمانه لمباشرة دفنه.

وأحصت المنظمة الدولية للهجرة قرابة 36 ألف نازح، من بينهم 30 ألفاً في درنة فقط، و3 آلاف في مدينة البيضاء، وألف في المخيلي الواقعة بين بنغازي ودرنة، بالإضافة إلى 2.85 شخص لا يزالون نازحين في بنغازي، لكن المنظمة لفتت في بيان اليوم (الأربعاء) إلى أن عدد الوفيات غير مؤكد حتى الآن.

وأوضحت المنظمة الدولية أنها تعمل مع شركائها على دعم المؤسسات الليبية، من خلال تجهيز الأدوية ومعدات البحث والإنقاذ، وتوجيه فرقها إلى المناطق المضارة، ومبرزة أن الأضرار في درنة هي الأكبر، حيث لم يتبق من 7 طرق مؤدية إلى المدينة، إلا طريقان فقط صالحتان للاستخدام.

وبحث عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة «الوحدة»، مع رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، جهود المؤسسة في تخفيف الظروف المعيشية في بلديات المنطقة الشرقية.

وناقش الدبيبة مع بن قدارة جهود التنسيق مع الشركات العالمية لتقديم الدعم الفني، وتوفير المعدات الخاصة بعمليات الإنقاذ، مثل الزوارق والمروحيات والطائرات العمودية. ووجه بضرورة التنسيق مع الفريق الحكومي للطوارئ والاستجابة السريعة بشأن تحديد الاحتياجات اللازمة.

في سياق متصل، وصل العاصمة طرابلس اليوم (الأربعاء) وفق منصة «حكومتنا» فريق إسباني مختص في عمليات البحث والإنقاذ وانتشال الجثث، برفقة كلاب مدربة، ووصلت أيضاً طائرتا «درون» متطورتان بجهازي استشعار، وتوجه الفريق بالتنسيق مع مركز طب الطوارئ والدعم وسفارتي البلدين إلى مدينة بنغازي، ومنها إلى درنة لبدء العمل الميداني.

وقال مدير مركز طب الطوارئ والدعم فرع طرابلس، محمد كبلان، لمنصة «حكومتنا»، إن الفريق الإسباني سيعمل إلى جانب مهامه في المنطقة الشرقية على تدريب فرق المركز على الاستجابة السريعة وعمليات الإنقاذ والانتشال، والتعامل مع معدات البحث المتطورة، كما سيزود المركز بمعدات الاستشعار والتصوير لمساعدته في التعامل مع ما تشهده المناطق المنكوبة من صعوبات في البحث عن المفقودين وإنقاذهم.



زيادة «الإنفاق العام» خلال العقد الماضي تثير شكوك وتساؤلات الليبيين

من اجتماع سابق في مقر هيئة الرقابة الإدارية بليبيا (الهيئة)
من اجتماع سابق في مقر هيئة الرقابة الإدارية بليبيا (الهيئة)
TT

زيادة «الإنفاق العام» خلال العقد الماضي تثير شكوك وتساؤلات الليبيين

من اجتماع سابق في مقر هيئة الرقابة الإدارية بليبيا (الهيئة)
من اجتماع سابق في مقر هيئة الرقابة الإدارية بليبيا (الهيئة)

أثار تقرير أصدرته هيئة الرقابة الإدارية في ليبيا، بخصوص ارتفاع الإنفاق العام خلال العقد الماضي، موجة من التساؤلات والانتقادات للسلطات، التي تعاقبت على حكم البلاد.

وكشفت الهيئة، خلال استعراض تقريرها السنوي، تجاوز قيمة الإنفاق العام أكثر من 722 مليار دينار خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 2012 و2023، خُصِّص منها نحو 372 ملياراً لرواتب العاملين بالدولة (الدولار يساوي 4.78 دينار). كما بلغ إجمالي الدين العام عن الفترة الممتدة من 2011 وحتى نهاية 2023 أكثر من 154 مليار دينار، وذلك في ضوء ما توفَّر من بيانات صادرة من جهات رسمية استندت إليها هيئة الرقابة الإدارية، وفقاً لتأكيد رئيسها، عبد الله قادربوه.

الغويل عبَّر عن قلقه لارتفاع قيمة الإنفاق العام بسبب غياب المشاريع الكبرى وتحسين البنيات التحتية (الشرق الأوسط)

وعبَّر وزير الدولة السابق للشؤون الاقتصادية بحكومة الوحدة الوطنية «المؤقتة»، سلامة الغويل، عن قلقه لارتفاع قيمة الإنفاق العام خلال تلك الفترة. وأرجع ذلك لغياب «أي إنجازات ومشاريع كبرى، أو تحسين لشبكات البنية التحتية التي تبرر إنفاق هذه المبالغ، وعدم التشكك بتوجهها لخزائن الفاسدين».

ورأى الغويل الذي يرأس حالياً «مجلس المنافسة ومنع الاحتكار»، في بنغازي، بتصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن مبلغ 722 مليار دينار «كان كفيلاً بتحويل ليبيا إلى سنغافورة جديدة، وأن يحس شعبها بقدر من الرفاهية، إذا ما اتُّبعت سياسات مالية رشيدة، خصوصاً مع محدودية عدد السكان».

ويعتقد الغويل أن التوسع في الإنفاق يعود بدرجة رئيسية إلى «وضعية الانقسام الحكومي والمؤسسي الذي لم تنجُ منه حتى الأجهزة الرقابية، مما أضعف دورها، وسهَّل عدم الكشف عن كثير من التجاوزات المالية والإدارية، وبالتبعية سهَّل لمرتكبيها الإفلات من العقاب».

الغويل قال إن مبلغ 722 مليار دينار «كان كفيلا بتحويل ليبيا إلى سنغافورة جديدة وأن يحس شعبها بقدر من الرفاهية» (أ.ف.ب)

وخلال السنوات الماضية، أعلنت السلطات في شرق ليبيا وغربها عن تدشين مشاريع عامة، كبناء المساكن وإنشاء الطرق، في ظل معاناة ليبيا من انقسام سياسي وحكومي؛ حيث تصارعت على إدارة شؤونها حكومتان: الأولى بالمنطقة الغربية والأخرى في شرق البلاد.

ورغم ما تضمنه التقرير من مخالفات إدارية ومالية، أُحيل منها 450 قضية للتحقيق خلال العام الماضي فقط، يرى الغويل أن «التقرير قدم مؤشرات مهمة لصُنّاع القرار والباحثين عن أسباب خطورة الوضعين؛ الاقتصادي والمؤسسي».

كما رحَّبت أصوات سياسية بالتقرير الذي كشف للمرة الأولى عن نفقات الحكومة الليبية المؤقتة في المنطقة الشرقية، التي ترأسها حينها عبد الله الثني، ما بين 2015 و2020، والتي قُدّرت بأكثر من 64 مليار دينار، فيما بلغ إجمالي الدين العام لها عن الفترة ذاتها 69.9 مليار دينار.

من جهته، رجح المحلل السياسي الليبي، إسلام الحاجي، أن يكون حجم الإنفاق العام عن تلك الفترة «أعلى مما ورد في التقرير؛ خصوصاً أنه لم يتطرق إلى ما قد يكون أهدر من أصول وثروات ليبية بالخارج». إلا أن الحاجي شكك في «مصداقية الأرقام» التي أوردها التقرير، رغم إقراره باستناده على بيانات صادرة عن جهات رسمية.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف، هناك أحاديث عن لجوء أفرقاء الأزمة المتصارعين على السلطة لتغطية نفقات التحشيد العسكري عبر إدماجها بميزانية أي بنود».

وكان مسؤولو هيئة الرقابة الإدارية قد أشاروا لوجود اختلاف في بيانات الجهات السيادية المالية بالبلاد، كالمصرف المركزي وديوان المحاسبة ووزارة المالية.

الصديق الصور النائب العام الليبي سبق أن أكد تحقيق مكتبه في عدد من قضايا الفساد والاختلاس (مكتب النائب العام)

كبير الباحثين في «معهد الدراسات الدولية» بجامعة جونز هوبكنز الأميركية، الليبي حافظ الغويل، عبَّر بالمثل عن قناعاته بتخصيص جانب كبير من الأموال، التي رُصدت بقيمة الإنفاق العام، لما سمَّاه «مسارات الفساد»، عبر مشاريع يرى أنها «وهمية»، أو بتوجهها «للتحشيد العسكري وتمويل الصراعات التي شهدتها ليبيا في السنوات الماضية». وعدَّ هذا التوسع في الإنفاق «أحد الأسباب الرئيسية لما شهدته ليبيا في السنوات الأخيرة من انهيار قيمة الدينار، والغلاء المعيشي، في ظل اعتمادها بشكل شبه كلي على الاستيراد».

كما وجَّه الغويل انتقاده «لعملية التوظيف العشوائي». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «ليبيا، وفقاً للمقاييس الدولية، لديها أكبر نسبة من السكان الذين يعتمدون على رواتب حكومية، رغم ضعف إنتاجيتهم بدرجة كبيرة جداً».

ووفقاً لتقرير الرقابة الإدارية، فقد بلغ عدد مَن يتقاضون رواتب في ليبيا حتى نهاية عام 2023 «مليونين و99 ألفاً و200 موظف».