تراجع «حلم» السودانيين وأملهم في وقف الحرب، بين عشية وضحاها، إثر تصريحات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، التي أعقبت خروجه من القيادة العامة، «بتنسيق إقليمي ومحلي» على ما رددت أوساط عدّة، بهدف إتاحة الفرص له بـ«وقف الحرب»، بيد أنه فاجأ الجميع برفضه أي اتفاق مع أي جهة «خانت الشعب السوداني»، وفي الوقت ذاته، قوبلت مبادرة «غريمه» قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) بقبول متحفظ من البعض، ورفض قاطع من آخرين، بينما استقبلتها وسائط التواصل الاجتماعي بـ«سخرية مريرة».
استطاع البرهان «الخروج» وفك الحصار الذي كان مفروضاً عليه طوال 4 أشهر ونصف الشهر، وفاجأ الناس بتجوله بين قواته في الخرطوم وأمدرمان وعدد من مدن البلاد، وتداولت قنوات التلفزة والصحف ووسائط التواصل تحليلات عديدة لكيفية خروجه ومغزاه. فالبعض قطع بأن خروجه تم بـ«توافق» مع قوات «الدعم السريع»، وعلى رأسهم رئيس «حزب الأمة القومي» فضل الله برمة، والصحافية المصرية أماني الطويل، التي رجحت أن «يكون التوافق أتى ليتخلص الرجل من سيطرة حلفائه الإسلاميين، ويتخذ قراراً شجاعاً بوقف الحرب».
لكن الرجل فاجأ الجميع في آخر جولاته بقاعدة «فلامنغو» على شاطئ البحر الأحمر، بعيد وصوله إلى مدينة بورتسودان التي تحولت لـ«عاصمة الأمر الواقع».
وقال في تصريحات وسط تهليل وتكبير جنوده، إنه خرج من القيادة العامة بـ«ترتيب من الجيش وليس بصفقة»، ووصف من يزعمون بالصفقة بأنهم «واهمون»، وفي الوقت ذاته، أكد استمرار الحرب، واصفاً قوات «الدعم السريع» بأنها «الميليشيا المتمردة التي روعت المواطنين وانتهكت حرماتهم ونهبت أموالهم وممتلكاتهم»، قاطعاً بعدم عقد أي اتفاق معها، بوصفها «جهة خانت الشعب السوداني».
وفسر محللون كثر مواقف البرهان بمثابة رد على مبادرة قائد قوات «الدعم السريع»، ونصت على وقف الحرب وتأسيس جمهورية «فيدرالية» حقيقية، يتشارك فيها السودانيون السلطة، وبناء نظام ديمقراطي حقيقي، وتكوين جيش سوداني جديد، وبناء مؤسسة عسكرية قومية ومهنية تنأى عن السياسة.
وفهمت تصريحات البرهان في «فلامنغو» على نطاق واسع، بأنها تأييد للتيار المطالب باستمرار الحرب، والممثل بشكل أساسي في أنصار النظام السابق من الإسلاميين وحزب «المؤتمر الوطني»، سواء كانوا في الجيش، أو ضمن الميليشيات التابعة له، وعلى رأسها «كتيبة البراء».
وجاء نفي البرهان لوجود إسلاميين في الجيش بما يشبه «التأكيد»، إذ أعلن، مشيراً إلى الجنود المصطفين حوله، عدم وجود إسلاميين بينهم، وأنهم «جيش يقاتل وحده بلا ظهير»، بيد أنه أشاد بمن سمّاهم «الذين يقاتلون معنا»، مؤكداً أن جهوده بعد الخروج «ستتوجه لحسم المعركة مع العدو».
وقبل يوم من تصريحات البرهان في القاعدة البحرية، أطلق خصمه «حميدتي» مبادرة شاملة لحل سياسي، عدّت أن «الحرب هي بين الباحثين عن دولة المواطنة والتعددية والديمقراطية، والساعين للعودة إلى الحكم الشمولي الديكتاتوري»، في إشارة إلى جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمين السابقين.
ونصت على أن تشمل المبادرة القوى التي تصدت لـ«جبروت نظام البشير» وأسقطته، واستثناء حزب «المؤتمر الوطني» وعناصر النظام السابق «الذين يعملون سراً وعلناً ضد التغيير منذ سقوط عمر البشير».
وبينما وجدت مبادرة «حميدتي» ترحيباً من سياسيين ومواطنين أرهقتهم الحرب، ليس لأنها «جديدة»، بل لأنها تفتح «باب أمل» لوقف القتال، قوبلت من جهة أخرى، بسخرية مريرة في منصات التواصل الاجتماعي.
وعدّها محللون «محاولة فاشلة من القوات المتهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما فيها القتل والاغتصاب والنهب واستخدام المدنيين دروعاً بشرية»، وقال الدكتور أحمد عثمان عمر، في ورقة لمناقشة تلك المبادرة، إنها محاولة لدخول «ميليشيا الجنجويد للساحة السياسية، وهي تنظيم مسلح ذو أهداف سياسية واضحة، تتعارض مع مشروعات الحركة الإسلامية، (لكنها) محاولة فاشلة لتجميل وجهها الذي يستعصي على التجميل».
ولا يعرف ما إذا كانت تصريحات البرهان ومبادرة «حميدتي»، جاءتا ضمن سياق «متفق عليه»، تراجع عنه أحدهما، أو أن البرهان يريد أن يعيد لجيشه تماسكه بمواجهة عدوه، بتصريحاته ذات الطابع الحماسي، أم أنها رسالة للداخل، تمهيداً لما يمكن أن يفعله الرجل «المراوغ» في مقبل الأيام، وهل يتجه ليوقع اتفاقاً يتردد أنه قطع شوطاً كبيراً باعتراف الجيش نفسه، أم يتجه للقاهرة لتبني مبادرة «دول الجوار»، أم يتجه لجيبوتي مباركاً لمبادرة الهيئة الحكومية للتنمية «إيقاد»؟... لا أجوبة حاسمة عن هذه الأسئلة وغيرها، لكن الأيام القليلة المقبلة قد تكون كفيلة بتوضيح الصورة.
والواضح، رغم الغموض والتصعيد، أن الجميع مقتنع بأن الحرب الجارية لن تنتهي بمنتصر، بل بتفاوض وعملية سياسية يشارك فيها المدنيون؛ لكن متى؟ يقول مراقبون في الخرطوم إن «ما ينتظره السودانيون عودة أمنهم وسلامهم وديمقراطيتهم وحكمهم المدني، وإنهاء سيطرة العسكر على السياسة المستمرة منذ أكثر من نصف قرن، ووقف الحروب المستمرة في البلاد وإلى الأبد».