نازحون يعودون إلى منازلهم في الخرطوم هرباً من غلاء الإيجارات

فضَّلوا مواجهة مخاطر الحرب على الجوع والمسكنة

سودانيون فروا من القتال بدارفور في منطقة حدودية بين السودان وتشاد في 13 مايو 2023 (أ.ف.ب)
سودانيون فروا من القتال بدارفور في منطقة حدودية بين السودان وتشاد في 13 مايو 2023 (أ.ف.ب)
TT

نازحون يعودون إلى منازلهم في الخرطوم هرباً من غلاء الإيجارات

سودانيون فروا من القتال بدارفور في منطقة حدودية بين السودان وتشاد في 13 مايو 2023 (أ.ف.ب)
سودانيون فروا من القتال بدارفور في منطقة حدودية بين السودان وتشاد في 13 مايو 2023 (أ.ف.ب)

أدت الحرب التي اندلعت في السودان منتصف أبريل (نيسان) الماضي، بين الجيش وقوات «الدعم السريع»، إلى نزوح نحو 3 ملايين شخص داخلياً، ولجوء نحو مليون إلى دول الجوار، وجميعهم فروا من القتال والرصاص والقصف الجوي والمدفعي الذي أزهق حياة آلاف في الخرطوم ودارفور وشمال كردفان.

وواجه الفارون من القتال ظروفاً صعبة تتمثل في الإسكان والحصول على مستلزمات الحياة، لا سيما أن معظم ذوي الدخول المحدودة لم يتسلموا رواتبهم طوال الأربعة أشهر الماضية، ومن ثم بدأ البعض العودة إلى منازلهم وأحيائهم في الخرطوم، مفضلين العيش وسط المعارك ومواجهة خطر الموت على أوضاع النزوح التي عانوها.

وعلى الرغم من المخاطر المتوقعة التي تنتظرهم في بيوتهم، فإن رحلة العودة إلى الخرطوم نفسها محفوفة بكثير من المخاطر، فهم معرضون لمواجهة «القوة المميتة» التي توعد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان باستخدامها، وهم على ارتكازات (سيطرات) طرفي القتال، أو حتى خلال تحرك الحافلات التي تنقلهم إلى حيث منازلهم.

واللافت أن أعداداً مقدرة قررت العودة إلى «الموت» الذي بدأوا الفرار منه منذ منتصف أبريل الماضي، وهم يقولون: «القذائف لا منجي منها إلا الله، أما الموت جوعاً أو الذل فبمقدورهم تجنبهم لو احتموا ببيوتهم التي غادروها آسفين».

وتتمثل مخاطر طريق العودة في كثرة حوادث السير، ومواجهة مجموعات النهب والسلب المنفلتة، أو عمليات النهب والتهديد التي ربما تمارَس من قبل العسكريين في السيطرات، وأخذ كل شيء من العائد، ربما ماله القليل أو هاتفه الجوال، أو حُلي السيدات، أو حتى سيارته إن كان يملك واحدة.

جنود من الجيش السوداني في إحدى مناطق الارتكاز بالخرطوم الشهر الماضي (أ.ف.ب)

ارتفاع أسعار الإيجارات

ويقول النازح (ح. ع) والدموع تنهمر بغزاره من عينيه فتبلل لحيته التي خطَّها الشيب، إنه وجد نفسه عاجزاً عن دفع إيجار «الشقة» التي أقام فيها بولاية نهر النيل (شمال) ويبلغ إيجارها نحو 250 ألف جنيه سوداني (500 دولار أميركي) شهرياً، بينما تقول ابنته في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «نحن 3 بنات نعيش مع والدنا، فأمنا متوفاة، وحين اندلعت الحرب غادرنا منزلنا بضاحية شمبات بالخرطوم بحري، بسبب المعارك العنيفة بين الجيش و(الدعم السريع) والتي كانت تدور حولنا»، وتتابع: «عشنا حياة النزوح لثلاثة أشهر؛ لكن صاحب العقار طلب زيادة مبلغ الإيجار من 250 ألفاً إلى 350 ألفاً، فترجاه والدنا ليخفض المبلغ قليلاً لكنه رفض، وعلى الفور قررنا حزم حقائبنا والعودة لمنزلنا في شمبات»، واستطردت: «لحسن الحظ وجدنا أقاربنا وجيراننا سبقونا بالعودة إلى منازلهم، بعد أن كانوا قد نزحوا إلى ولايتي القضارف وسنار».

وقال طارق عبد الإله، وهو رب أسرة نزح إلى ولاية الجزيرة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه قرر العودة إلى الخرطوم خوفاً على أبنائه من الموت غرقاً. وأضاف: «إن اثنين كادا يموتان غرقاً في النهر. فهما يذهبان مع أندادهما من سكان القرية للسباحة في النهر من دون تدريب، ما يعرضهما للغرق». ويتابع: «كما يواجه الأطفال مخاطر أخرى في الغابات المجاورة التي يصاحبون أندادهم إليها، وهم لا يعرفون ما يختبئ داخلها، لذلك قررنا العودة».

ويعود السبب الرئيسي في عودة الأسر من مناطق النزوح، إلى «النساء»، فاللواتي عشن حياة المدن ولم يسبق لهن العيش في الأرياف صعبت عليهن الحياة هناك، فالمرأة الريفية تستيقظ فجراً لتملأ أواني الماء، وتعد الطبيخ، وتغسل الملابس، وتستقبل الضيوف، وهذا غير معتاد بالنسبة لهن، فيضغطن على أزواجهن للعودة، بغض النظر عن المخاطر.

لكن هناك نازحات أبهرتهن حياة الريف وتأقلمن عليها، وتعلمن بعض حيل الحياة غير المتاحة في المدن، ونشطت تجمعات ثقافية تحض النساء على احتمال صعوبة الحياة في الريف؛ بل وتوظيفها لاكتساب خبرات جديدة، ليصبحن «إضافة» للمنطقة بدلاً عن أن يكن «ناقدات ناقمات»، فالريف السوداني فقير تنقصه الخدمات كافة.

 

الأرض المحروقة

 

فر بعض المواطنين من لهيب حرب الخرطوم إلى ولايات دارفور، عند أقاربهم ومعارفهم؛ لكن الحرب لحقتهم إلى هناك، فاشتعل القتال في غرب دارفور وجنوبها وشرقها وشمالها ووسطها؛ بل اضطر كثيرون ممن احتمى بهم نازحو الخرطوم لعبور الحدود واللجوء إلى دولة تشاد المجاورة، هرباً من المعارك التي دارت وتدور هناك، فعاد أهل الخرطوم منهم أدراجهم.

 

مأساة في الحدود

 

بعض المواطنين -خصوصاً الشباب- فروا من العاصمة إلى المعابر الحدودية مع مصر ودول الجوار الأخرى، وفي الحدود السودانية المصرية اضطر كثيرون للبقاء هناك أسابيع في ظروف بالغة السوء، بانتظار الحصول على «سمة دخول» دون جدوى، فاضطروا للعودة مرة أخرى للحرب في الخرطوم، على الرغم من عدم توقف العمليات العسكرية في كل أحياء مدن الخرطوم الثلاث، فواجه بعض العائدين صعوبات في العودة إلى منازلهم، خصوصاً في حيَّي: المطار، والخرطوم 2، وغيرهما.

وقالت هادية أحمد -وهي أم لخمسة أبناء- لـ«الشرق الأوسط»، إنها استيقظت من نومها مبكرة، وقررت العودة للخرطوم بعد شهرين من نزوحها إلى ولاية الجزيرة، وعرضت الأمر على زوجها محمد عوض، وهو يتناول فنجان قهوته الصباحية: «أرغب في العودة للخرطوم، سئمت من الحياة هنا، هل تعتقد أن اليوم مناسب؟»، وقبل أن يرد عليها عاجلته بقولها: «أنا لا أمزح»؛ لكن زوجها رفض بشدة؛ لكنها لم تتركه على حاله، وبعد نقاش طويل وعدها بالعودة خلال شهر إذا توقفت الحرب أو لم تتوقف، وانتهى الشهر ولم تتوقف الحرب، فغادروا ولاية الجزيرة التي آوت نحو مليون نازح من الخرطوم، إلى بيتهم في الخرطوم، غير مبالين بما يمكن أن يواجههم هناك.

 

للضرورة أحكام

 

وتفسيراً للظاهرة، واختيار مواجهة خطر الموت على البقاء نازحاً، يقول المحلل الاجتماعي محمد عباس لـ«الشرق الأوسط»، إن عودة النازحين إلى ولاية الخرطوم لها أسباب متعلقة بالارتباط العاطفي بالمكان، والحياة القديمة، خصوصاً في أمدرمان، ويضيف: «العودة إلى مناطق الخرطوم وبحري ضعيفة مقارنة بأمدرمان؛ لكن عودة النازحين مضطرين لأسباب اقتصادية أو لحمل أغراض مهمة، للخرطوم والخرطوم بحري، يعرضهم لمخاطر عديدة، لا سيما أن الاشتباكات مستمرة داخلها، مع هدوء نسبي في بعض مناطق أمدرمان».

 

رهاب الشباب

 

يتم إنزال الشباب «في سن الجندية» من المركبات المتجهة للخرطوم، ومنعهم من العودة إليها في سيطرات القوتين المتقاتلتين، تحسباً لإمكانية انضمامهم لهذا الطرف أو ذاك، ويتعرضون لعمليات ابتزاز وإغراء للانضمام لهذا الطرف أو الآخر، ويقول الصحافي أحمد خليل لـ«الشرق الأوسط»، إنه خلال عودته للخرطوم لاسترداد وثائق تخص أسرته في بيته بشرق النيل، لاحظ إجراء احترازياً تتخذه قوات الجيش، تمنع بموجبه الشباب من العودة للخرطوم دون إبداء أسباب؛ لكن المتداول منعهم من الالتحاق بقوات «الدعم السريع».

وقال خليل إن قوات «الدعم السريع» هي أيضاً تمنع الشباب من العودة للخرطوم دون أسباب؛ لكن الراجح أيضاً هو الحيلولة دون التحاقهم بالجيش، ويتابع: «يتم إغراء الشباب بشروط خدمة وامتيازات كبيرة»، وبسبب البطالة وتوقف الإنتاج لا يستبعد خليل أن ينضم كثيرون لأحد طرفي القتال، لا سيما أن «الدعم السريع» يقدم امتيازات كبيرة لمنسوبيه.


مقالات ذات صلة

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

شمال افريقيا رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه شاحنات الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر «أدري» الحدودي الحيوي مع تشاد.

ديكلان والش (نيويورك)
شمال افريقيا صورة أرشيفية تُظهر دخاناً يتصاعد فوق الخرطوم مع اشتباك الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» (رويترز)

«الخارجية السودانية»: ندرس المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار

تقتصر المحادثات بين طرفي القتال في السودان؛ الجيش و«الدعم السريع»، على بحث وقف إطلاق النار والعنف في جميع أنحاء البلاد، لتمكين وصول المساعدات.

وجدان طلحة (بورتسودان)
شمال افريقيا مسلّحون من «الدعم السريع» في سنار (مواقع التواصل)

«الدعم السريع» يعلن الاستيلاء على السوكي وإحكام الحصار على سنار

تعد مدنية السوكي واحدة من مدن ولاية سنار الاستراتيجية وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل الأزرق وتبعد عن العاصمة الخرطوم بنحو 300 كيلومتر.

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا الرئيس الإريتري آسياس أفورقي (تصوير: بشير صالح)

أفورقي يفاجئ الجيش بطرد القائم بأعمال السفارة السودانية في أسمرا

«التحول الراهن في الموقف الإريتري، يمكن أن يكون حافزاً لاستعادة الموقف الإريتري لجانب القوى المدنية، إذا ضربنا على الحديد وهو ساخن».

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا جانب من «سد النهضة» (رويترز)

«سد النهضة»... هل تُضعف «زيادة الفيضانات» موقف مصر والسودان؟

يرى خبراء أن تأثير سنوات ملء السد الإثيوبي «منخفض حتى الآن على مصر والسودان».

أحمد إمبابي (القاهرة )

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز