حزن عميق سيطر على السودانيين، بعد سماع نبأ وفاة الموسيقار خالد سنهوري جوعاً داخل منزله في أمدرمان، التي تشهد اشتباكات عنيفة بين الجيش وقوات «الدعم السريع»؛ لأنه لم يتمكن من تناول طعام منذ أيام، وفق مقربين منه، واضطر شقيقه إلى دفنه أمام منزله، لصعوبة نقله إلى المدافن العامة. هذا المصير بات كثير من سكان العاصمة يخشون أن يصيبهم، في وقت عجزوا فيه عن توفير المواد الغذائية، مع إغلاق المتاجر، وأزمة النقود.
الموسيقار سنهوري ليس أول ضحايا الحرب الذين ماتوا جوعاً. ففي الشهر الماضي، توفيت شقيقتان من أصول أرمينية جوعاً في منزلهما في ضاحية العمارات الراقية، بعدما عجزتا عن الخروج لإحضار مواد غذائية بسبب القصف المستمر على المنطقة، وتوفيتا بعد 55 يوماً من الحصار.
وتوفي رجل سبعيني في بحري، كان يتضور جوعاً، بعد أن عجز عن توفير قطعة خبز لأيام.
يقول وزير التنمية الاجتماعية في الخرطوم، صديق فريني، لـ«الشرق الأوسط»، إن مواطني الخرطوم يحتاجون للدعم العاجل، مع أن صوت المطالبين بالغذاء لا يزال خفيضاً، لأن المواطن السوداني بطبعه يتسم بالحياء، ولأن مطلب البحث عن الأمان أولى في هذه المرحلة. ويشير فريني إلى أن كل مناطق الولاية يعاني سكانها من الفقر بسبب الحرب.
وتوقع فريني دوراً استثنائياً للمنظمات الوطنية، رغم ظروف الحرب، في الاستجابة لتحدي حاجة بعض المناطق للعون الإنساني، بالتزامن مع العون المقدم من المنظمات الدولية والإقليمية.
بين الموت بالرصاص والموت جوعاً
الجوع والمرض والفقر، مثلث يعيش داخله أغلب سكان ولاية الخرطوم، التي تمطر سماؤها رصاصاً وقذائف أزهقت أرواح مدنيين، تضاربت الإحصاءات حول عددها، لكن الثابت أنها تقدر بالآلاف، على أساس أن كثيراً من حالات الوفاة كانت داخل المنازل، وبالتالي لم يجرِ حصرها.
حرب الخرطوم التي دخلت شهرها الرابع، لا يمكن لأحد أن يتوقع متى ستتوقف، رغم التصريحات المبشرة من قادة طرفيها بجديتهم لإسكات صوت البندقية، لكن قذائف القوى المتحاربة ما زالت تسقط على مدنيين ومرافق صحية، وأحدثت انهياراً في الاقتصاد السوداني. وأشار خبراء اقتصاديون إلى أن الخسائر المادية للحرب تقدر بنحو 40 مليار دولار.
الموت في مناطق تشهد اشتباكات عنيفة بين القوات المتحاربة في الخرطوم أمر متوقع لدى سكانها الذين صم آذانهم أزيز الطائرات وأصوات المدافع الثقيلة، لكن الموت جوعاً يعكس الحالة الإنسانية التي وصل إليها سكان الخرطوم، في حرب وصفتها دول ومنظمات دولية بأنها «عبثية»، يحاول كل طرف فيها إرهاق الآخر دون تحقيق مكاسب على الأرض.
يقول مواطنون لـ«الشرق الأوسط» إن استمرار الحرب يجعل كثيراً من السودانيين معرضين لمصير الموت جوعاً.
المصانع الغذائية بين القصف والسرقة
والحديث عن الموت جوعاً ليس من قبيل المبالغة؛ إذ إن العاصمة تعاني حالياً من نقص كبير في المواد الغذائية، لأسباب من بينها أن المحال التجارية أغلقت، أو لأنها خالية من البضائع، ومحال أخرى نُهبت، بالإضافة إلى أن كثيراً من الموظفين لا يملكون نقوداً لشراء الخبز، لأن الحكومة عجزت عن صرف مرتباتهم لأكثر من 3 شهور، وهذه المشكلة يعاني منها بعض موظفي القطاع الخاص أيضاً.
والمصانع التي تنتج السلع والمواد الغذائية ويقع أغلبها في منطقة الخرطوم بحري وأمدرمان، تعرضت للقصف أثناء الحرب، فيما تعرضت مصانع أخرى للسرقة.
ولجأ بعض أصحاب المحال التجارية إلى شراء بضائع من مخازن في أطراف شرق النيل، لكن بعضهم تعرض إلى اعتداء وسرقة من مجموعات ترتدي زياً مدنياً، وأخرى ترتدي زي «الدعم السريع»، ولذلك أقلعوا عن هذه المغامرة.
امتحان صعب
وأشار وزير التنمية الاجتماعية في ولاية الخرطوم، صديق فريني، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه في بداية الحرب جرى حصر المحتاجين لتقديم الدعم، لكن جميع سكان الولاية أصبحوا الآن محتاجين. وأضاف أن «سكان الخرطوم يتعرضون اليوم لامتحان صعب، لكنهم لا يزالون صابرين»، متوقعاً أن تصبح الخرطوم أفضل مما كانت.
وأشار فريني إلى الصعوبات التي تواجه الوزارة في إيصال المواد الغذائية للمحتاجين فى الوقت الحالي، وقال: «نأمل أن تكلل الجهود الكبيرة لوالي ولاية الخرطوم بالنجاح، باستكمال إيصال العون للمحتاجين فى أقرب وقت». وأضاف: «تمكنت السلطات الاتحادية، بالتنسيق مع الولاية، من توفير مواد غذائية لبعض مناطق ريف أمدرمان وغيرها، بواسطة الهلال الأحمر السوداني، ولكننا نحتاج للكثير».
رحلة البحث عن دقيق خبز
زبيدة عبد الله، في العقد الرابع من العمر، قالت لـ«الشرق الأوسط» إنها قطعت مسافة كيلومترين بحثاً عن دقيق في أحد المطاحن، وسلكت طرقاً داخلية تجنباً لمناطق يتمركز فيها أحد طرفي النزاع. وأضافت: «جرى تسجيل اسمي والكمية المراد شراؤها، وعدت في اليوم التالي، ودفعت المبلغ، وأخذت الدقيق».
ورغم المعاناة التي تكبدتها، فإن زبيدة حمدت الله كثيراً لأنها تمكنت من توفير الدقيق حتى لا يجوع أبناؤها الخمسة الذين توفي والدهم العام الماضي.
غياب القانون وازدهار اللصوصية
ولجأ الذين يرفضون فكرة الموت جوعاً إلى السرقات والنهب. وتزداد هذه الجرائم بوتيرة متسارعة، في ظل غياب القانون، وأصبح اللصوص يطرقون أبواب المنازل ويطالبون أهلها بإعطائهم الهواتف الذكية، وبعدها يبحثون عما يرضي طموحهم. وهؤلاء اللصوص أطلق عليهم بعض الشباب لقب «لصوص 4G»
وفقد مئات المواطنين حياتهم بالسلاح الناري أو بأسلحة بيضاء، نتيجة مقاومتهم اللصوص. أما المنازل التي نزح سكانها أو لجأوا إلى دول الجوار، فسُرقت في الأيام الأولى للحرب، لذلك يستهدف اللصوص في هذه الفترة المنازل التي يقيم أصحابها فيها.
ودفعت أزمة الغذاء التي يعاني منها سكان الخرطوم بعض الخيرين إلى توفير الطعام في المساجد، وهذه الفكرة جرى تطبيقها في مناطق عدة، واستفاد منها آلاف المواطنين، وفي ما بعد أصبح أبناء الخرطوم في الخارج يرسلون مساهمات مالية لضمان استمرار تقديم الطعام إلى المحتاجين.
وأحدثت حرب أبريل (نيسان) دماراً في مدن مثل الجنينة في غرب السودان، التي تأثر سكانها أيضاً بالحرب مثلما حدث في الخرطوم. ويقول أطباء إن النساء والأطفال وكبار السن أكثر الشرائح تأثراً، وبعضهم لقي مصرعه بسلاح الأطراف المتحاربة، أو بالمرض ونقص الغذاء.
ويطالب حقوقيون بوقف الحرب؛ لأن المتضرر منها هو المواطن، وتساءلوا: لماذا يدفع السودانيون ثمن أخطاء السياسيين قبل الحرب، وأخطاء المتحاربين أثناء المعركة؟