النازحون السودانيون بين كرم المجتمعات وتجار الحروب

تضاعفت إيجارات العقار والنقل والسلع بصورة جنونية

سودانيون في العاصمة يستعدون للانتقال إلى أماكن أكثر أمنًا (أ.ف.ب)
سودانيون في العاصمة يستعدون للانتقال إلى أماكن أكثر أمنًا (أ.ف.ب)
TT

النازحون السودانيون بين كرم المجتمعات وتجار الحروب

سودانيون في العاصمة يستعدون للانتقال إلى أماكن أكثر أمنًا (أ.ف.ب)
سودانيون في العاصمة يستعدون للانتقال إلى أماكن أكثر أمنًا (أ.ف.ب)

تعد «حرب أبريل (نيسان) السودانية» بين الجيش و«الدعم السريع»، علامة فارقة في تاريخ البلاد الموبوءة بالحروب، فمن ناحية ضربت القلب المتحضر الذي كان الفارون من الحروب السابقة يلجأون إليه، فتحول المضيفون السابقون إلى مستضافين، بعد أن فر مئات الآلاف من القتال إلى المدن والقرى القريبة والبعيدة، وهناك استقبلهم أهلها و«استضافوهم» بكل رحابة وكرم، ولم يحتج كثيرون منهم لمخيمات لجوء... اقتسموا معهم اللقمة والمأوى.

لكن في الوقت ذاته لم يغب «تجار الحروب» عن المشهد، فسارعوا في المدن المختلفة لزيادة إيجارات المنازل بصورة جنونية، وارتفعت أسعار تذاكر مركبات النقل العام هي أيضاً بصورة جنونية، والمنزل الذي كان لا يسكنه أحد، أو لا يجد مؤجراً في مدينة ود مدني وسط البلاد على سبيل المثال، ارتفع سعره لنحو 750 ألف جنيه (تعادل 1500 دولار)، وزادت تذاكر حافلات النقل البري إلى مدينة أسوان المصرية، من 30 ألف جنيه إلى 250 ألف جنيه سوداني، أي من 50 دولاراً إلى 500 دولار تقريباً.

آثار المعارك في حي الأزهري جنوب الخرطوم (أ.ف.ب)

هذا الأمر شكل مفارقة لافتة، فربما هو الشخص نفسه الذي يستضيفك في بيته هو من يستغلك، وهو يقود حافلته السفرية، أو قد تجد الشخص نفسه الذي استغل حاجتك للسكن يوزع الطعام على الفارين من الحرب، وتجد أبناءه يقطعون الطريق على الفارين لتزويدهم بالماء والعصائر، وربما إجبارهم على تناول وجبة أُعدت من أجلهم، ومع ذلك ورغم فرار أكثر من مليون شخص خارج الخرطوم، لا توجد «مخيمات» بالمعنى الحرفي للمخيم؛ بل هي محطات مؤقتة للعابرين إلى مدن أخرى، يقدم خلالها الطعام المجاني الذي يعده الأهالي.

دموع فرح أثناء الحرب

يقول المواطن نجم الدين محمد لـ«الشرق الأوسط»، إن ظروف الحرب اضطرته للنزوح إلى ولاية الجزيرة للإقامة مع صديق، وهي المرة الأولى التي يذهب فيها إلى تلك الولاية، ووجد قبل دخوله القرية 3 سيارات تنتظره على الشارع الرئيسي، وحين وصل المنزل ذُبحت الذبائح قرابين لوصوله بسلام، ثم تنازع الحضور، كل يريد استضافته وأسرته المكونة من 4 أطفال وزوجة، وإزاء هذا الاستقبال المهيب، سالت دموع نجم الدين.

لكن الأمر لا يخلو من مفارقات واجهت الفارين من الحروب. تقول رواية متداولة بشدة، إن المجتمعات المضيفة تعمل وسعها لحماية الضيف؛ بل تعتبر مواجهته لخطر وهو موجود بينهم «عيباً كبيراً»، ويحكى أن نازحاً ذهب للنيل لجلب الماء، (في معظم المدن والقرى انقطعت المياه بسبب الحرب)، وبعد ملء مواعينه قرر الاستحمام في النهر؛ لكن حظه العاثر أوقعه في منطقة عميقة عادة يتجنبها أهل المنطقة، وكادت تحدث كارثة، لولا أن أنقذه أحد سكان المنطقة المتمرسين في السباحة، وقال قائلهم: «ما كنا لنترك ضيفنا يغرق ولو غرقنا معه».

سودانيون يستقلون حافلة لمغادرة جنوب الخرطوم بعد بدء الهدنة (أ.ف.ب)

وليس كل ما حدث جميلاً، ففي المقابل كشفت الحرب أن «تجار الحروب»، وهم في كل مكان، سارعوا إلى استغلال حاجة النازحين، ووصل الإيجار الشهري لـ«شقة» متواضعة في مدينة ود مدني أو بورتسودان إلى أكثر من ألفي دولار، اضطر القادرون من الفارين من الحرب إلى دفعها، وهو ما دفع بكثيرين منهم للعودة إلى الخرطوم مجدداً، واختاروا مواجهة القصف والاقتتال ودوي الأسلحة من كل نوع؛ لأنهم لا يستطيعون تحمل دفع تلك الإيجارات الخرافية، أو بعد نفاد مدخراتهم، لا سيما شريحة العاملين بالدولة والقطاع الخاص الذين لم يتسلموا رواتبهم منذ أكثر من شهرين؛ بل حتى الذين يملكون أرصدة بنكية، لم يستطيعوا الاستفادة منها؛ لأن البنوك أغلقت أبوابها وتعطلت وسائط الدفع الإلكتروني جميعها.

بات السودانيون على موعد مع هجرة قسرية من الخرطوم (الشرق الأوسط)

يقول الخبير الاقتصادي الدكتور محمد الناير لـ«الشرق الأوسط»: «إن للحروب إفرازات كثيرة، منها ما هو إيجابي والآخر سلبي، فكثير من الأسر خرجت من العاصمة والمناطق التي اشتعلت فيها الحرب، إلى الأهل والمعارف والأقارب بولايات السودان المختلفة، وهذا نهج ليس غريباً على السودانيين؛ حيث الأسرة الممتدة توفر الحماية... وهذه الميزة خففت ضغوط الحرب على المواطنين؛ لكن بعض أصحاب العقارات استغلوا ظروف الحرب، ورفعوا أسعار الإيجارات إلى 7 أضعاف الأجر الفعلي، من دون مراعاة الظروف الاقتصادية التي يعانيها الجميع، خصوصاً الذين فشلوا في الاستفادة من أرصدتهم البنكية، بسبب تذبذب الخدمة عبر التطبيقات البنكية»، وتابع: «متوقع أن ترتفع أسعار الإيجارات والخدمات بسبب الحرب؛ لكن ليس لهذه الدرجة».

من إحدى الأسواق الشعبية في الخرطوم (أ.ف.ب)

لا يقتصر استغلال تجار الحروب والكوارث على العقارات وحدها؛ بل ارتفعت أسعار السلع بصورة جنونية، وهو ما أشار إليه الباحث الاجتماعي حمد محمد خير، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، بقوله: «الشعب لا ناقة له ولا جمل في هذه الحرب، وهو المتضرر الأوحد؛ لأن حياة الناس توقفت، وواجهت مئات الآلاف من الأسر تهديداً وجودياً... صحيح أن كثيرين أيضاً فتحوا بيوتهم لاستقبال النازحين في ولايات لم تصلها الحرب، وتكفلوا بمأكلهم ومشربهم؛ لكن حتى المجتمعات المضيفة نفسها واجهت ارتفاع أسعار السلع والخدمات».

سودانيون هربوا من العنف (رويترز)

وأرجع محمد خير ظاهرة استضافة «الغريب» في الثقافة المجتمعية السودانية إلى القرن التاسع عشر، وقال إن المؤرخين والرحالة الغربيين، أمثال بيركهارت، الذي رصد التاريخ الاجتماعي لشمال البلاد، وألان مورهيد في مناطق النيل الأبيض والأزرق، وأبو بكر التونسي في دارفور، أجمعوا على كرم أهل السودان، وقبولهم الضيف الغريب، وأنهم قد يتشاجرون على ضيافته، وأضاف: «فكرة استضافة الغريب الحكيم فكرة راسخة في العقل السوداني، وكانت تمثل محوراً لتفكيره، وأسهم هؤلاء الغرباء في نشر الإسلام. كانوا يزودون الغريب بالطعام والشراب ويزوجونه من بناتهم بما في ذلك من الأسر الحاكمة»، ويتابع: «يبدو أن جذور حفاوة استقبال النازحين ترجع إلى ذلك التاريخ».


مقالات ذات صلة

البرهان: الحرب لن تتوقف إلا بالقضاء على «الدعم السريع»

شمال افريقيا رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان (أ.ف.ب)

البرهان: الحرب لن تتوقف إلا بالقضاء على «الدعم السريع»

أكد رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، اليوم (الثلاثاء)، أن انتصارات الجيش ستتواصل، وإن الحرب لن تتوقف إلا بالقضاء على «قوات الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا سودانيون يحتفلون في مروي في الولاية الشمالية شمال السودان في 11 يناير 2025... بعد أن أعلن الجيش دخول عاصمة ولاية الجزيرة الرئيسية ود مدني (أ.ف.ب)

الجيش السوداني ينفي تورّطه في هجمات على مدنيين بولاية الجزيرة

نفى الجيش السوداني، اليوم (الثلاثاء)، تورطه في هجمات على مدنيين في ولاية الجزيرة التي استعاد عاصمتها ود مدني من «قوات الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا سودانيون يفرون من مدينة ود مدني بولاية الجزيرة (أ.ف.ب)

أنباء عن تنكيل جماعي بعشرات المدنيين في ولاية الجزيرة السودانية

وثقت هيئة «محامو الطوارئ» (منظمة حقوقية) أكثر من 7 تسجيلات مصورة، قالت إنها «لانتهاكات وتصفيات عرقية في ولاية الجزيرة».

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا البرهان يحيي مؤيديه في أم درمان غرب الخرطوم  (أرشيفية - أ.ب)

البرهان يرفض السلام قبل القضاء على «الدعم السريع»

أوضح البرهان، أنه قدم «شرحاً وتنويراً للقادة في دول غرب أفريقيا»، وأبلغهم أن السودان «يواجه غزواً واستعماراً جديدين»...

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا أعمدة من الدخان تتصاعد خلال اشتباكات بين «قوات الدعم السريع» شبه العسكرية والجيش في الخرطوم (أرشيفية - رويترز)

أكثر من 120 قتيلاً بقصف على أم درمان

أفاد مسعفون سودانيون بأن أكثر من 120 شخصاً قُتلوا، أمس (الاثنين)، في قصف استهدف منطقة بأم درمان الواقعة ضمن الخرطوم الكبرى.

«الشرق الأوسط» (بورتسودان (السودان))

مصر تؤكد دعمها أمن واستقرار تشاد

استقبال السيسي لديبي في العلمين يوليو 2024 (الرئاسة المصرية)
استقبال السيسي لديبي في العلمين يوليو 2024 (الرئاسة المصرية)
TT

مصر تؤكد دعمها أمن واستقرار تشاد

استقبال السيسي لديبي في العلمين يوليو 2024 (الرئاسة المصرية)
استقبال السيسي لديبي في العلمين يوليو 2024 (الرئاسة المصرية)

أكدت مصر دعمها أمن واستقرار تشاد. وأعرب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال اتصال هاتفي مع نظيره التشادي، محمد إدريس ديبي، الثلاثاء، عن «إدانة بلاده الكاملة للهجوم الذي استهدف أخيراً القصر الرئاسي في العاصمة نجامينا»، بحسب إفادة رسمية للمتحدث باسم الرئاسة المصرية، السفير محمد الشناوي.

وقال الشناوي: «إن الرئيس المصري أشاد خلال الاتصال بالدور الذي يلعبه ديبي في قيادة جهود بلاده للتصدي ودحر الجماعات الإرهابية»، مشدداً على دعم القاهرة المُستمر للخطوات التشادية في مُكافحة الإرهاب والتصدي للفكر المتطرف.

كانت الحكومة التشادية أعلنت، في وقت سابق، أن الهجوم المسلّح الذي استهدف، مساء الأربعاء الماضي، القصر الرئاسي في العاصمة نجامينا خلّف 19 قتيلاً، بينهم 18 في صفوف المهاجمين. وقال وزير الخارجية المتحدث باسم الحكومة التشادية، عبد الرحمن كلام الله، إنّ المجموعة المسلّحة تألّفت من «24 شخصاً» سقطوا جميعاً بين قتيل وجريح.

وخلال المحادثة الهاتفية هنأ السيسي ديبي بمناسبة حصول حزبه على الأغلبية في الجمعية الوطنية في الانتخابات التشريعية التي جرت أخيراً، بحسب متحدث الرئاسة المصرية، الذي أشار إلى أن «الرئيس التشادي أعرب، من جانبه، عن تقديره البالغ للدعم المستمر الذي توليه مصر لأمن واستقرار بلاده»، مشيداً بالعلاقات الوثيقة والممتدة بين البلدين، ومؤكداً حرص بلاده على تطوير التعاون مع مصر في مختلف المجالات.

وقالت الهيئة المعنية بالانتخابات في تشاد، الأحد، إن حزب الرئيس ديبي، «حركة الخلاص الوطني»، حصل على 124 مقعداً من أصل 188 في الجمعية الوطنية، في الانتخابات التي جرت نهاية الشهر الماضي.

وفي 26 ديسمبر (كانون الأول) الماضي وصل وزير الخارجية والهجرة المصري، إلى العاصمة نجامينا في زيارة رسمية، بحث خلالها مع المسؤولين التشاديين المستجدات الإقليمية وتعزيز العلاقات الثنائية، وأكد عبد العاطي آنذاك، «حرص بلاده على تقديم الدعم لتشاد لتعزيز قدرات المؤسسات الوطنية ذات الصلة بتحقيق الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب والتطرف»، وأشار إلى «أهمية تبني مقاربة شاملة تراعي الأبعاد التنموية والاجتماعية والأمنية والفكرية».