مع انطلاق الانتخابات البرلمانية العراقية السادسة اليوم، يتركز الاهتمام على سؤال مركزي: من سيشغل منصب رئيس مجلس الوزراء بعد انتهاء عملية التصويت؟ الجواب، بحسب خبراء ومراقبين، لا يعتمد فقط على عدد المقاعد التي يحصل عليها كل حزب أو ائتلاف، بل يتأثر بمزيج معقد من المحاصصة الطائفية والعرقية، والعلاقات مع قوى إقليمية ودولية.
صحيح أن الحجم السكاني للمكون الشيعي يمنحه أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الكتلة التي حصلت على أكثر الأصوات هي التي ستشكل الحكومة. فالمنصب التنفيذي الأهم في الدولة ظل، منذ أول دورة برلمانية بعد 2003، محتكراً للمكون الشيعي، بغض النظر عن نتائج الانتخابات.

«وهم» الأرقام والأوزان
كان المالكي قد صرح في وقت سابق، بأنه «من الوهم الاعتقاد بأن الحصول على رئاسة الوزراء مرتبط بعدد المقاعد».
وحاول الخبير السياسي سيف السعدي شرح المعادلة قائلاً: «اختيار رئيس السلطة التنفيذية مرتبط بمعادلتين، داخلية وخارجية. المعادلة الداخلية تتعلق بالجانب الدستوري وآلية الاختيار التي نصت عليها المادة 76 من الدستور العراقي، والتي تحدد دور الكتلة الأكبر في البرلمان».
لم تعد الانتخابات وما تفرزه من نتائج كوسيلة للتغيير، ولم تعد لغة الأرقام مهمة لتشكيل الحكومة، بل إن التوافقات السياسية هي التي أفقَدت الانتخابات قيمتها وزادت من نسبة المقاطعة، ونسفت النص الدستوري في المادة (5) التي تنص على أن «السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها،...
— د.سيف السعدي (@saif_saadi_) October 27, 2025
وأوضح السعدي، أن «المعادلة الخارجية، تتمثل في المنافسة التقليدية بين الولايات المتحدة وإيران، حيث تستخدم كل قوة نفوذها لتحقيق أهداف استراتيجية، سواء عبر حصر السلاح أو تحسين موقع التفاوض في الملفات الإقليمية».
ويضيف السعدي: «وفق هذه المعادلة، كل التوقعات تشير إلى أن الولايات المتحدة أخذت زمام المبادرة، اعتماداً على المعطيات الجيوسياسية في المنطقة، بينما تسعى إيران لاستغلال نفوذها لتعزيز موقعها التفاوضي، بما في ذلك الملفات الحساسة مثل البرنامج النووي».

تاريخ المحاصصة وتأثيرها
يعكس التاريخ الحديث للعراق مدى تأثير المحاصصة على العملية الديمقراطية. ففي انتخابات 2010، حصل ائتلاف إياد علاوي على أعلى عدد من المقاعد، لكنه لم يُسمح له بتشكيل الحكومة بسبب تفسيرات المحكمة الاتحادية العليا لقواعد «الكتلة الأكبر».
وتكرر هذا السيناريو عام 2021، حين فاز التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر بأعلى المقاعد، لكنه واجه عقبات في تشكيل حكومة وطنية عابرة للطائفية بسبب تدخلات سياسية داخل البرلمان من قبل قوى شيعية منافسة.
وأظهرت هذه التجارب أن منصب رئيس الوزراء أصبح رمزاً للاحتكار السياسي، بينما تحولت رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان إلى مناصب بروتوكولية بقدرات محدودة، رغم النصوص الدستورية التي تمنحها صلاحيات كبيرة. وقد أدى هذا الواقع إلى تراجع الدور الرقابي للبرلمان، وتحويله إلى تابع للسلطة التنفيذية عبر «تمشية» مصالح النواب والوزراء، وفق مراقبين.
وتشير الإحصاءات إلى أن نصف أعضاء البرلمان الحالي لم يلقوا أي كلمة أو مداخلة طوال فترة ولايتهم، ما يعكس ضعف ثقافة التمثيل البرلماني وتراجع فهم دور النائب.
ويعكس هذا تحدياً مستمراً في بناء دولة ديمقراطية حقيقية قادرة على التداول السلمي للسلطة ومساءلة الحكومة، رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على تأسيس النظام الديمقراطي بعد عام 2003.
مع الانتخابات اليوم، يظل مستقبل العراق مرتبطاً بإمكانية كسر معادلات السلطة التنفيذية، وإعادة تفعيل المؤسسات الدستورية، بعيداً عن المحاصصة الطائفية والهيمنة الإقليمية، وهو اختبار حقيقي لنضج الديمقراطية العراقية في مرحلة تتسم بالتحديات الداخلية والإقليمية المتشابكة.

