أميركا دائماً تفعل الصواب، لكن بعد تجربة كلّ البدائل. هكذا قال ونستون تشرشل عنها. وهكذا هو حال الصراع بين إيران وإسرائيل منذ الثورة الإيرانيّة في نهاية سبعينات القرن الماضي. جرّبت إسرائيل وإيران الطرق الملتوية كافة في صراعهما، من القتال عبر الوكلاء، إلى العمليات الاستخباراتيّة، حتى وصلا إلى الصدام المباشر حالياً. كانت فضيحة «إيران كونترا» في الثمانينات هي الاستثناء، عندما تعاون البلدان، بطلب أميركيّ، لكن اللاعبين هم أنفسهم، حتى ولو كانت الظروف مختلفة تماماً. حتى أنه يمكن القول إن أميركا لم تستهدف عسكريّاً الداخل الإيرانيّ، باستثناء محاولة الرئيس جيمي كارتر تحرير الرهائن الأميركيين من السفارة الأميركية في طهران عام 1980. أما عملية اغتيال قائد «فيلق القدس»، قاسم سليماني، فهي حدثت على الأرض العراقيّة (عام 2020)، وبعدما برَّرها الرئيس دونالد ترمب بأنه يُشكّل خطراً وشيكاً ومحدقاً (Imminent) على المصالح الأميركيّة.
الصورة هي الرسالة
تحتل الصورة اليوم موقعاً مهمّاً في عملية إخراج النصر وكذلك الهزيمة. ألم تصبح الصورة في العصر الرقميّ هي الرسالة بحد ذاتها؟ بالطبع هكذا قال الفيلسوف الفرنسيّ ريجيس دوبريه. فالصورة تسير اليوم مع المدفع، ومع الطائرة، كما مع البارجة والحرب السيبرانيّة. فمن الأمم المتحدة نشر بنيامين نتنياهو صورة له وهو يعطي أمر اغتيال أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله في سبتمبر (أيلول) الماضي. ومن مركز القيادة والسيطرة في وزارة الدفاع الإسرائيليّة بدا وهو يدير الحرب على إيران مع أركانه الأسبوع الماضي. في المقابل، نشرت إيران صورة قائد القوة الجو - فضائيّة العميد أمير علي زاده وهو يعطي أمر إطلاق الصواريخ على إسرائيل، في بداية أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، في عملية «الوعد الصادق - 2». بعدها نشرت إيران صورة للمرشد الإيراني، علي خامنئي، هو يقلّد زاده وساماً عسكريّاً رفيعاً.
عندما نفّذت إيران «الوعد الصادق - 2»، كانت صور الصواريخ الإيرانيّة في الجوّ تُنقل مباشرة على الهواء، وبدا الأمر كارثيّاً في الداخل الإسرائيلي نظراً لصغر مساحة الدولة العبرية. وعندما ردّت إسرائيل مؤخراً، لم نشهد الصورة نفسها، خصوصاً في ظلّ الحجم الضخم للوسائل التي استعملتها إسرائيل. لكن لماذا؟
فتّش دائماً عن الراعي. فتّش في المنطقة عن الدور والجهد الأميركيّ. فعلى المستوى العملانيّ في قطاع غزّة، هناك قيادة إسرائيليّة مباشرة للحرب، لكن من ضمن ضوابط أميركيّة مرنة في أغلب الأوقات، ومتشدّدة عند الإحراج. أما في لبنان، وهو المستوى الاستراتيجيّ، فهناك قيادة إسرائيليّة مباشرة للحرب، مع حريّة مُفرطة وملحوظة للمدفع الإسرائيليّ من قِبل «العم سام». وقد حملت رسائل المبعوث الأميركي إلى لبنان آموس هوكستين هذه المعاني.
لكن عند الانتقال إلى المستوى الجيوسياسيّ في المنطقة، أي بالاتجاه الإيرانيّ، فإن أميركا تتعامل مباشرة مع الوضع ومن ضمن تقييدات جامدة صارمة لا يمكن لها التراخي فيها.
معادلات القوة والردع
فما هي معادلات القوة والردع الحالية في المنطقة بعد الرد الإسرائيليّ الأخير على إيران؟
• عندما تبدأ الحرب، يسقط الردع. ولإعادة ترميمه، وجب اعتماد العنف سبيلاً أساسيّاً ووحيداً. أثبتت إيران أنها قادرة على ضرب العمق الإسرائيليّ. في المقابل، أثبتت إسرائيل أن ذراعها الطويلة قادرة على ضرب الداخل الإيرانيّ. لكن حتى الآن، لم يصل الوضع لرسم صورة ردع جديدة، خصوصاً وأن هذه الصورة هي التي ستحدّد شكل النظام الإقليميّ ومستقبله، والذي سيكون على الأرجح ليس كما أراده نتنياهو، وليس كما تريده إيران.
• بعد الردّ الإسرائيليّ، عادت ديناميكيّة الحرب إلى المسرحين في كل من لبنان وغزةّ، خصوصاً وأنه بعد كلّ ردّ، يفقد المُنفّذ زمام المبادرة ليصبح في وضع الدفاع بانتظار الردّ على الردّ.
• لا يمكن لإيران أن تبدو بصورة الضعيف. فالضعف يجلب العدوان، كما قال هنري كيسنجر. ومن هنا عليها دائماً أن توحي بأفعالها أنها قويّة. فهل التعتيم الأخير على الضربة الإسرائيليّة ونتائجها يندرج في هذا الإطار؟
• لم يعد مبدأ الصبر الاستراتيجي متناسباً مع الواقع الحالي لإيران التي تبدو في ورطة استراتيجيّة. فإن ردّت هناك مشكلة، وإن لم تردّ ستبدو ضعيفة، خصوصاً في ظل التقارير التي تقول إن إسرائيل استهدفت في هجومها الأخير كل الدفاعات الجويّة في الداخل الإيرانيّ. وإذا ما صحّ ذلك، فهذا سيعني وضعاً يسمح لسلاح الجّو الإسرائيلي، مستقبلاً، بالتحليق بحريّة كبيرة داخل إيران.
• ينسحب هذا الوضع على إسرائيل أيضاً. فالضعف، أو مجرد صورة الضعف، يُعدّ بالنسبة لها مسألة حياة وموت. ألم يقل ديفيد بن غوريون لموشي دايان مرّة: «إن إسرائيل تسقط بعد خسارة أوّل حرب»؟
• تكمن معضلة إيران في أنها وعندما تردّ، فهي تردّ في حين تجد نفسها وحدها دون دعم خارجيّ، خصوصاً بعد ضرب قدرات حلفائها في المنطقة، وبخاصة «حزب الله». في المقابل، تكمن معضلة إسرائيل في أنها تعتمد على دعم أميركا في كلّ شيء، الأمر الذي يقيّدها في كثير من المسائلّ. في هذا الإطار، تتميّز إسرائيل عن إيران في أنها عندما تردّ على هذه الدولة فهي تردّ وهي واثقة من الدعم والحماية الأميركيّة.
في الختام، إن عملية وقف دورة الردّ والردّ على الردّ، تتطلّب إخراجاً معيّناً. لكن هذا الإخراج يتطلّب بدوره وضعاً ميدانيّاً معيّناً يكون مناسباً لكل الأفرقاء. وحتى الآن، لم يصل الوضع، كما يبدو، إلى هذه الدرجة.